مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: تأملات في تضمن البسملة للرحمة ...

تأملات في تضمن البسملة للرحمة ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

قراءة القرأن تبدأ بالبسملة واختلف في كونها آية من الفاتحة غير أنها من آيات القرآن باتفاق وصيغتها ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، فمن دون أسماء الله عز وجل كلها اختير اسم ( الرحمن ) و ( الرحيم ) في البسملة للدلالة على أن هذه الشريعة شريعة الرحمة ، وأن الوحي رحمة من الله عز وجل ( آتيناه رحمة من عندنا ) ، وأن العلم مبدأه الرحمة ونتيجته الرحمة ، ولهذا كان أهل السنة أرحم الخلق بالخلق لما تضلعوا من أنوار الوحي

والرحمة آثارها ظاهرة في خلقة بني آدم حيث جعل الله عز وجل له أعضاء تعينه على كل ما يحتاجه في أمر دنياه من غير زيادة تثقل كاهله ولا نقصان  يعيق انتفاعه

وبسط الكلام على هذا يطول معلوم في كلام العلماء والأطباء على حد سواء

ثم إنه سبحانه سخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً

قال الله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)

فحركة الشمس والقمر وتقلب الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر وأمر الرياح والمطر وبهيمة الأنعام وكل ما في الكون كله لنفع الإنسان

قال الله تعالى : (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)

فتامل ذكره لهذه الأمر بعد ذكر اسمه الرحمن الرحيم للدلالة على أن كل ما سبق من آثار رحمته

بل العجيب أن هذا الإنعام يستوي فيه المسلم والكافر

قال مسلم في صحيحه 7182- [49-2804] حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، وَأَبُو أُسَامَةَ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، عَنْ أَبِي مُوسَى ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لاَ أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ ، وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ ، ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ.

بل العجيب ما قرأته لبعضهم أن افتراس الحيوان الضاري للحيوان الأليف يخدم الآدمي وذلك أن الحيوانات الأليفة إذا تركت دون افتراس فإنها ستأكل عامة الشجر الأخضر وسيؤدي ذلك إلى قلة المطر الناشيء عن تبخر الماء من على أوراق الأشجار فيضر الأدمي

ولما كان الآدمي قد خلق لعبادة الله وكل ما في السماوات والأرض مسخر له ، صار من شرط قيام الساعة ألا يبقى في الأرض من يقول ( الله الله ) فكأن الإشارة أن الآدمي إذا ترك ما خلق له ذهب ما سخر له

وأما الرحمة في التشريعات فمظاهرها كثيرة

فمن ذلك أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة لا يجزى إلا مثلها ولو شاء لجعلهما سواء وكان هذا عدلاً

ومن ذلك أن من هم بسيئة لا تكتب حتى يفعلها ومن هم بحسنة فإنها تكتب وإن لم يفعلها

ومن ذلك أن جعل المصائب مع ما فيها من الموعظة مكفرات للذنوب ولو شاء لجعلها مواعظ فقط

ومن ذلك أنه عرفنا بمواطن استجابة الدعاء وجعل مواسم للخير تضاعف فيها الأعمال ولو شاء لأخفاها

ومن ذلك أن بين لنا الحقائق الدينية أعظم بيان في الكتاب والسنة وفند شبهات أهل الباطل أعظم تفنيد

ومن ذلك أنه سبحانه لك يكتف بالميثاق الذي أخذه على الخلق ولا بالفطرة بل تعهد أنه لا يعذب إلا بعد أن يرسل رسولاً

ومن ذلك أنه رحم الله هذه الأمة بألا يأخذهم بالعذاب عامة وأمهلهم ، وكل نفس يأخذه الكافر أو الفاسق رحمة من الله وفرصة جديدة له للعودة إلى الله والتكفير عما جنت يداه

ومن رحمته أن جعل الذنوب صغائر وكبائر ولو شاء لجعلها كلها كبائر ومن رحمته أن جعل الأعمال الصالحة والاستغفار وإن لم يقترن بتوبة من مكفرات الذنوب

ومن رحمته أن لم يشترط على التائب في أكثر الذنوب كفارة بل توبة العبد بينه وبين ربه ولم يشترط عليه الاعتراف لأحد سواه سبحانه

ومن رحمته أن عرفنا به سبحانه بأسمائه وصفاته حتى عمرت القلوب الخربة بسناء محبته وتعظيمه وخشيته فاستقامت

ومن رحمته أن جعل في هذه الأمة فرقة ناجية وطائفة منصورة وأئمة مجددين يهدون من الغواية ويبصرون من العمى وفتح على قلوبهم بفتوح لولا منه ورحمته لما كانت

ومن رحمته أنه لم ينهَ عن شيء إلا ونهى عن وسائله فلما نهى عن الزنا أمر النساء بالاحتجاب ونهى عن الخلوة وأمر بغض البصر ونهى عن الاختلاط وأمر بالزواج وتيسيره ، ولما نهى عن الاقتتال نهى عن كل من يثيره من الغضب والعصبية والإفراط في حب الدنيا والتظالم بين الناس ، ولما نهى عن السرقة أمر بالزكاة والصدقة وحث على الاكتساب ، بل كانت كفارة الظهار وقتل الخطأ والجماع في نهار رمضان عند العجز عن العتق إطعام ستين مسكينا وتأمل كيف أن تذنب في حق الله عز وجل وتكون كفارتك أن تحسن إلى خلقه ، وفي هذا المعنى حديث ( مرضت فلم تعدني ) وفي آخره ( مرض عبدي فلان ولو جئته لوجدتني عنده )

ومن رحمته أنه يجيب المضطر وإن كان كافراً ، وينصر المظلوم وإن كان كافراً

ومن رحمته أنك ترى في هذه الدنيا الأمراض والآلام والأوجاع فيرق قلبك وتعلم ضعفك وتتجه لربك وتنفر من النار ، ولا تركن إلى الدنيا

قال ابن القيم في طريق الهجرتين :" والمقصود أنه سبحانه أشهد في هذه الدار ما أعد لأوليائه وأعدائه في دار القرار وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خير وشر وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن والبلايا سياطا يسوق بها عباده المؤمنين فإذا رأوها حذروا كل الحذر واستدلوا بما رأوه منها وشاهدوه على ما في تلك الدار من المكروهات والعقوبات وكان وجودها في هذه الدار وإشهادهم إياها وامتحانهم باليسير منها رحمة منه بهم وإحسانا إليهم وتذكرة وتنبيها ولما كانت هذه الدار ممزوجا خيرها بشرها وأذاها براحتها ونعيمها بعذابها اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن خلص خيرها من شرها وخصه بدار أخرى هي دار الخيرات المحضة ودار السرور المحضة فكتب على هذه الدار حكم الامتزاج والاختلاط وخلط فيها بين الفريقين وابتلى بعضهم ببعض وجعل بعضهم لبعض فتنة حكمة بالغة بهرت العقول وعزة قاهرة فقام بهذا الاختلاط سوق العبودية كما يحبه ويرضاه ولم تكن تقوم عبوديته التي يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه بل العبد الواحد جمع فيه بين أساب الخير والشر وسلط بعضه على بعض ليستخرج منه ما يحبه من العبودية التي لا تحصل إلا بذلك "

ومن رحمته أن فرض الجهاد ولولاه لما وصل هذا الدين الذي فيه حياة القلوب إلى أقوام كثيرين ، وما فيه من القتل أنفى لقتل كثير في المستقبل أرأيت لو ترك الناس بلا دين واستنفزتهم حروب الثأر ( كحرب البسوس ) والحروب على الملك وعلى موارد الحياة وعلى العصبية ( والتي نهي عنها في الشرع ) وتركوا لوأد البنات ويكفيك أن تعلم أن الهلكى بإدمان الخمر في العالم كل عام يقاربون الثلاثة ملايين نفساً ، والهلكى من الإجهاض الناشيء عن السفاح يعد بالملايين أيضاً وهذا في العالم الحديث المتحضر كما يقال

ومن رحمته في الجهاد أن حرم فيه قتل الطفل والشيخ الفاني والمرأة وأمر بالدعوة قبله وعرض الجزية بعد رفض الدعوة وحرم الغدر ونقض المواثيق

ومن رحمته أن لم يوجب على العباد أعمالاً تكافيء نعمه أو نصفها

ومن رحمته أن جعل دائرة المباحات أوسع من دائرة المحرمات في المأكولات والمشروبات والملبوسات

ومن رحمته أن جعل الوضوء فيه تكفير للذنوب وكذا الصلاة وجعل الحج مطهرة عظمى يرجع منه المرء كيوم ولدته أمه 

ومن رحمته أن علمنا في القرآن أدعية ندعوه بها ، ما كان البشر ليحسنوا شيئاً منها ولا ليتتلذوا بها لولا تعليم رب العالمين ( وعلمنا ثم هو يثيبنا عليها )

ومن رحمته أن جعل بكل حرف نقرأه في القرآن عشر حسنات

ومن رحمته أن جعل الصلاة في الأجر خمسين وفي واقعها خمسة وجعل صلاة الجماعة بخمس وعشرين ضعفاً

ومن رحمته أن جعل الصدقة تقع في كفه قبل أن تقع في كف السائل ، فيربيها حتى يجدها المرء يوم القيامة كأمثال الجبال

ومن رحمته أن جعل عذاب القبر مكفراً للذنوب بمعنى أنه قد يكون سبباً في عدم دخول النار

ومن رحمته أن أمر ملائكته بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنين بل أمر نبيه بذلك وجعل يوم القيامة الشفاعة للأنبياء والشهداء والصالحين في أهل الذنوب ثم تكون رحمته المستقلة أعظم من هذا كله

قال مسلم في صحيحه 7074- [19-...] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ ، حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ لِلَّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا ، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً ، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

ومن رحمته سبحانه أن جعل في هذه الأمة سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ومع كل واحد منهم سبعون ألفاً ثم يحثو ثلاث حثيات بكفه سبحانه إلى الجنة فضلاً منه

ومن رحمته أنه يعين العبد على الطاعة ثم يثيبه عليها، وهذا المعنى موجود في البسملة إذ أن الباء للاستعانة ، وقد قال الله تعالى معلماً عباده المؤمنين ( إياك نعبد وإياك نستعين ) فهو يعينهم ثم يثيبهم

ومن رحمته سبحانه أن جعل النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف

ومن رحمته أنه وسع دائرة العبادة حتى شملت التبسم في وجه الأخ ( بل كل صور الإحسان بنية) وإطعام الزوجة وجماعها بنية ( بل كل ما يدخل فيه اسم العشرة بالمعروف )

ومن رحمته سبحانه أن حبب البنات إلى أوليائهن بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر بأن من عال ثلاث بنات فإن جزاءه الجنة

ومن رحمته أن ذكر العبد بعناء أمه في حمله وجعل بر الوالدين مقترناً بتوحيده

ومن رحمته أن جعل الحدود كفارات تسقط العقوبة الأخروية عن الجاني ولا يجوز أن يعير بعدها

قال الله تعالى في الزاني والزانية (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ)

قال ( رأفة ) ولم يقل رحمة أن جلدهما رحمة بهما وبكل من تسول له نفسه الاقتداء بهما ورحمة بالمجتمع كله من انتشار الشر فيه

ومن رحمته أن نهى عن تقبيح الوجه أي ضربه ، وأن رهب ترهيباً عظيماً من ضرب المملوك أو الخادم وللنبي صلى الله عليه وسلم حوادث عدة في هذا الباب من أشهرها ما حصل له مع أبي مسعود الأنصاري حين قال ( لله أقدر عليك منك عليه ) وحادثة معاوية بن الحكم السلمي الذي أعتق جاريته بسبب ضربه لها على وجهها وغضب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك

ومظاهر الرحمة في الشريعة كثيرة جداً ولا يتسع لها المقام ، ففيها الحفاظ على العقول والأعراض والأموال والنفوس وقبل ذلك كله وأهم منه الحفاظ على الدين ، لهذا كان مفتاح النظر في الوحي ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ولا يجد المرء بعد التفكر في أمر الرحمة سوى أن يقول ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم )

وقال تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)

ولما امتدح نبيه صلى الله عليه وسلم قال ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) 

ولهذا كان مناسباً أن يكون الحديث المسلسل بالأولية ( الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) 

والرحمة لا تكون ليناً دائماً ولكنها رحمة باعتبار ما تؤول إليه في بعض الأحيان
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي