مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: تعقيب على محمد الأمين الشنقيطي في قوله ( لا جبر ولا قدر )

تعقيب على محمد الأمين الشنقيطي في قوله ( لا جبر ولا قدر )



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

قال محمد الأمين الشنقيطي في العذب النمير في مجالس التفسير (2/525) :" فالحاصل أنه لا يقع شيء كائناً ما كان إلا بمشيئة الله وأنه لا جبر ولا قدر "

هذه العبارة قالها ابن حجر فاعترض عليها الشيخ ابن باز

جاء في كتاب التنبيه على المخالفات العقدية ص67 :" قال الحافظ 13/500: "والمذهب الحق أن لا جبر ولا قدر"اهـ.
ت: قال سماحة شيخنا: والمذهب الحق أن لا جبر ولا نفي للقدر. اهـ"

والصواب أن نفي الجبر أيضاً مخالف لعقيدة أهل السنة بل إن الجبر لفظ مجمل يحتمل حقاً وباطلاً ولهذا نقل الإمام ابن تيمية عن أئمة السلف لم يكونوا يطلقون إثباته ولا نفيه ك( اللفظ ) في القرآن

قال شيخ الإسلام كما في مجموعة الرسائل والمسائل (5/152) :" كذلك لفظ الجبر فيه إجمال يراد به إكراه الفاعل على الفعل بدون رضاه. كما يقال: إن الأب يجبر المرأة على النكاح، والله تعالى أجل وأعظم من أن يكون مجبراً بهذا التفسير فإنه يخلق للعبد الرضاء والاختيار بما يفعله، وليس ذلك جبراً بهذا الاعتقاد، ويراد بالجبر خلق ما في النفوس من الاعتقادات والإرادات كقول محمد بن كعب القرظي: الجبار الذي جبر العباد على ما أراد كما في الدعاء المأثور عن علي رضي الله عنه " جبار القلوب على فطراتها: شقيها وسعيدها " والجبر ثابت بهذا لتفسير.
فلما كان لفظ الجبر مجملاً نهى الأئمة عن إطلاق إثباته أو نفيه"

وقال أيضاً كما في مجموع الفتاوى (3/323) :" وجواب الأوزاعي أقوم من جواب الزبيدي لأن الزبيدي نفى الجبر والاوزاعي منع إطلاقه إذ هذا اللفظ يحتمل معنى صحيحا فنفيه قد يقتضي نفي الحق والباطل كما ذكر الخلال ما ذكره عبدالله بن أحمد في كتاب السنة فقال ثنا  محمد بن بكار ثنا أبو معشر حدثنا يعلى عن محمد بن كعب أنه قال إنما سمى الجبار لأنه يجبر الخلق على ما أراد فإذا امتنع من إطلاق اللفظ المجمل المحتمل المشتبه زال المحذور وكان أحسن من نفيه وإن كان ظاهرا في المحتمل المعنى الفاسد خشية أن يظن أنه ينفي المعنيين جميعا
 وهكذا يقال في نفي الطاقة على المأمور فإن إثبات الجبر في المحظور نظير سلب الطاقة في المأمور وهكذا كان يقول الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة قال الخلال أنبأنا الميموني قال سمعت أبا عبدالله يعني أحمد بن حنبل يناظر خالد بن خداش يعني في القدر فذكروا رجلا فقال أبو عبدالله إنما أكره من هذا أن يقول أجبر الله وقال أنبأنا المروذي قلت لأبي عبدالله رجل يقول إن الله أجبر العباد فقال هكذا لا تقل وأنكر هذا وقال يضل من يشاء ويهدي من يشاء"

فالمنهج السليم استخدام الألفاظ الشرعية وأما الألفاظ المجملة فلا يطلق إثباتها ولا نفيها

والشيء بالشيء يذكر

قال محمد الأمين في مذكرته في أصول الفقه ص51 :" وأكثر المعتزلة وبعض أهل السنة منعوا التكليف بما لا يطاق عقلاً "

قوله : ( بعض أهل السنة ) يوهم أن أكثرهم يقولون بجواز تكليف العبد ما لا يطيق عقلاً وهذا مذهب الأشاعرة ولم يقل به أحد من أهل السنة

قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية (1/298) :". وعندأبي الحسن الأشعري أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً ، ثم تردد أصحابه [ أنه ] : هل وردبه الشرع أم لا ؟ واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان ، فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن ، [ وانه سيصلى ناراً ذات لهب ، فكان مأموراً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن .وهذا تكليف بالجمع بين الضدين ، وهو محال . والجواب عن هذا بالمنع : فلا نسلم بأنه مأمور] بأن يؤمن [ بأنه لا يؤمن ] ، والاستطاعة التي بها يقدر على الإيمان كانت حاصلة ، فهو غير عاجز عن تحصيل الإيمان ، فما كلف إلا ما يطيقه كما تقدم في تفسير الاستطاعة . ولا يلزم قوله تعالى للملائكة : نبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. مع عدم علمهم بذلك ، ولا للمصورين يوم القيامة :احيوا ما خلقتم، وأمثال ذلك - لأنه ليس بتكليف طلب فعل يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، بل هو خطاب تعجيز. وكذا لا يلزم دعاء المؤمنين في قوله تعالى : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، لأن تحميل ما لايطاق ليس تكليفاً ، بل يجوز أن يحمله جبلاً لا يطيقه فيموت . وقال ابن الأنباري: أي لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه ، قال : فخاطب العرب على حسب ما تعقل ، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النظر إليك ، وهو مطيق لذلك ، لكنه يثقل عليه .ولا يجوز في الحكمة أن يكلفه بحمل جبل بحيث لو فعل يثاب ولو امتنع يعاقب ، كما أخبر سبحانه عن نفسه أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها .
ومنهم من يقول : يجوز تكليف الممتنع عادة ، دون الممتنع لذاته ، لأن ذلك لا يتصور وجوده ، فلا يعقل الأمر به ،بخلاف هذا .
ومنهم من يقول : ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه ، بخلاف مالا يطاق للاشتغال بضده ، فإنه يجوز تكليفه . وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى ، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق لكونه تاركاً له مشتغلاً بضده - بدعة في الشرع واللغة . فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه ! وهم التزموا هذا ، لقولهم : إن الطاقة - التي هي الاستطاعة وهي القدرة - لا تكون إلا مع الفعل ! فقالوا : كل من لم يفعل فعلاً فإنه لا يطيقه ! وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف ، وخلاف ما عليه عامة العقلاء ، كما تقدمت الإشارة إليه عند ذكر الاستطاعة "

قلت : كلام ابن أبي العز هذا هو تلخيص جيد لكلام شيخ الإسلام في الفتاوى (8/293_ 298) ومما جاء في كلامه :" قد كتبنا فى غير هذا المو ضع ما قاله الأو زاعي و سفيان الثو ري و عبد الرحمن بن مهدي و أحمد بن حنبل و غيرهم من الأئمة من كراهة إطلاق الجبر و من منع إطلاق نفيه أيضا
و كذلك أيضا القول بتكليف ما لا يطاق لم تطلق الأئمة فيه و احدا من الطرفين قال أبو بكر عبد العزيز صاحب الخلال فى كتاب القدر الذي فى مقدمة كتاب المقنع له لم يبلغنا عن أبي عبد الله فى هذه المسألة قو ل فنتبعه و الناس فيه قد إختلفوا فقال قائلون بتكليف مالا يطاق و نفاه " وملخص كلام أن تكليف ما لا يطاق على قسمين

الأول : ما لا يقدر عليه لاستحالته إما لامتناعه في نفسه كالجمع بين الضدين أو امتناعه عادةً كالمشي على الوجه فهذا المستحيل لا يجوز إطلاق جواز وقوع التكليف به عقلاً

الثاني : ما لا يقدر عليه لا لامتناعه ولا لعجز المكلف عنه ولكن لاشتغال المحل بضده مثل تكليف الكافر الإيمان في حال كفره، فهذا جائز خلافا للمعتزلة، لأنه من التكليف الذي اتفق المسلمون على وقوعه في الشريعة. ولكن إطلاق تكليف ما لا يطاق على هذا بدعة في الشرع واللغة كما قال ابن أبي العز متابعاً لشيخ الإسلام _ فذكره هنا من باب التنزل _

فنسبة هذا القول لأهل السنة باطلة 

ومما يذكر أيضاً قوله في العذب النمير أن مسألة المفاضلة بين الملائكة وصالحي بني آدم لا فائدة منها وهذا غلط بل هي مسألة سلفية فيها آثار 

 
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (4/344) :
" قد ثبت عن عبد الله بن عمرو انه قال ان الملائكة قالت يارب جعلت بنى آدم يأكلون فى الدنيا ويشربون ويتمتعون فاجعل لنا الآخرة كما جعلت لهم الدنيا قال لا افعل ثم أعادوا عليه فقال لا افعل ثم اعادوا عليه مرتين أو ثلاثا فقال وعزتى لا اجعل صالح ذرية من خلقت بيدى كمن قلت له كن فكان ذكره عثمان بن سعيد الدارمى ورواه عبد الله بن احمد فى كتاب السنه عن النبى صلى الله عليه و سلم مرسلا
وعن عبد الله بن سلام انه قال ما خلق الله خلقا اكرم عليه من محمد فقيل له ولا جبريل ولا ميكائيل فقال للسائل اتدرى ما جبريل وما ميكائيل انما جبريل وميكائيل خلق مسخر كالشمس والقمر وما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد وما علمت عن أحد من الصحابة ما يخالف ذلك وهذا هو المشهور عند المنتسبين الى السنة من أصحاب الائمة الاربعة وغيرهم وهو أن الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة
ولنا هذه المسألة مصنف مفرد ذكرنا فيه الأدلة من الجانبين "

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (4/369 ) :"  وأقل ما فى هذه الآثار أن السلف الأولين كانوا يتناقلون بينهم أن صالحى البشر أفضل من الملائكة من غير نكير منهم لذلك ولم يخالف أحد "

وقال أيضاً :"  الدليل الثانى عشر قد كان السلف يحدثون الاحاديث المتضمنة فضل صالحى البشر على الملائكة وتروى على رؤوس الناس ولو كان هذا منكرا لانكروه فدل على اعتقادهم ذلك "

وقال الشيخ عبد الرحمن ابن قاسم في حاشية الدرة المضية ص122 :
" أي : وعندنا، معشر أهل السنة والجماعة : أنا نعتقد تفضيل أعيان البشر، من الأنبياء والأولياء، على ملائكة ربنا، كما اشتهر من نصوص أحمد وغيره من أهل السنة ؛ والملاك : جمع ملك .
 قال أحمد رضي الله عنه : وأي إنسان قال بلسانه، أو اعتقد بجنانه غير القول بتفضيل بني آدم على الملائكة، افترى أي: أتى بما يشعر بالافتراء ؛ وقد تعدى، أي : تجاوز الحد المنقول، والثابت عن الرسول، والسلف الفحول، في المقال الذي اعتمده؛ واجترأ، أي افتات على الشارع، بالاعتقاد الذي اعتقده .
وقد دل القرآن والسنة وإجماع السلف، على فضل أعيان البشر على الملائكة كفضل محمد صلى الله عليه وسلم المجمع عليه .
 وقال معاذ رضي الله عنه : ما خلق الله خلقًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ؛ قيل له : ولا جبرائيل، ولا ميكائيل ؛ قال : ولا جبرائيل ولا ميكائيل؛ وإذا ثبت فضل الواحد من النوع، ثبت فضل نوعهم على جميع الأنواع وكقصة سجود الملائكة أجمعين لآدم، ولعن الممتنع عن السجود له ؛ وهذا تشريف وتكريم له ظاهر.

 وكقول إبليس :  أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ وخلق آدم بيده .
قال زيد بن أسلم : قالت الملائكة : يا ربنا جعلت لبني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون، فاجعل لنا الآخرة ؛ فقال : ( وعزتي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي
كمن قلت له كن فكان )
 وروي مرفوعًا ؛ ومعاذ وزيد معاذ وزيد : في علمهما وفقههما ؛ وفي حديث أبي هريرة من طريق الخلال : .... أنتم أفضل من الملائكة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأقل ما في هذه الآثار ونحوها، أن السلف الأولين كانوا يتناقلون بينهم : أن صالحي البشر أفضل من الملائكة، من غير نكير منهم لذلك، ولم يخالف أحد منهم في ذلك.
 وكقوله تعالى:  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وكتفضيلهم بالعلم.
 وكقوله صلى الله عليه وسلم :  لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمن . والمؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده- رواه الترمذي - 

وكحديث المباهاة، وما أعد الله لهم من الكرامة، التي لم يطلع الله عليها ملكًا ولا غيره .
 وظهور فضيلة صالحي البشر، إذا وصلوا إلى غاياتهم، فدخلوا الجنة ونالوا الزلفى، وسكون الدرجات العلى، وحياهم الرب جل جلاله، وتجلى لهم، يستمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، وقامت الملائكة بخدمتهم بإذن ربهم "انتهى
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي