الاثنين، 27 يناير 2014

تعظيم قدر السنة ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :


  فإننا في عصر العبث بالثوابت ، من قبل الأغرار والنوابت ، مما يدفع السني الغيور ، إلى وضع إصبعيه في أذنيه ، وإغماض عينيه .
    من تلك الأصوات النشاز التي تنطلق هنا وهناك ، بالتزهيد في السنن النبوية ، فتارةً يجعلونها قشوراً ، وأخرى يقولون لا وقت للكلام بهذا ، وتارةً يقولون إن الله لن يسألك في قبرك عن كذا وكذا .
    وقد علت هذه الأيام إلى عدٍ مزعج ، لا أجد بداً من فعلٍ للتخفيف من حدة تلك الأصوات المزعجة ، وقبل أن نقبل نصوص الوحيين لنقتبس شيئاً من نورها ، لنبدد ظلمات الجهل والفجور ننبه عدة تنبيهات .


    التنبيه الأول : أن من السنن ما تركه [ أحياناً ] سنة إما لعدم مداومة النبي - صلى الله عليه وسلم عليه - وإما لاقترانه بمفسدة أعظم من فعل المصلحة المترتبة على فعل السنة كما في بناء على قواعد إبراهيم ، ولكنه منضبطٌ بضوابط لا يراعيها كثيرٌ متكلم هذا الباب .


    التنبيه الثاني : أننا لا نعني بالسنن الإصطلاح الفقهي الذي يحصرها بـ[ المستحبات ] وإنما نعني الإصطلاح السلفي الواسع للفظة [ السنة ] ، إذا عرفت هذا فاعلم بأن المرء لا يلحقه الذم بترك المستحبات ابتداءً ولكن يلحقه الذم إذا زهد فيها أو أصر على تركها مع وجود القدرة وطول الزمان ولكن هذا الذم ليس كالذم الذي يلحقه بترك الواجبات ، ويلاحظ على بعض الإخوة أنه إذا بحث أمراً من السنة يريد معرفة ما إذا كان واجباً أو مستحباً فإنه بمجرد ن يثبت عنده الإستحباب ترك العمل بذلك وكأنه ترجح عنده تحريمه !
    والله المستعان .

    والآن مع النصوص :

    النص الأول : قال تعالى :{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ }

    قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى [20/10] : "
    {‏ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏ }‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 14‏]‏ فهذا نص في أنهم تركوا بعض ما أمروا به فكان تركه سببا لوقوع العداوة والبغضاء المحرمين وكان هذا دليلا على أن ترك الواجب يكون سببا لفعل المحرم كالعداوة والبغضاء والسبب أقوى من المسبب‏ " .


    أقول : فمن ترك السنن النبوية في الهدي الظاهر كإطلاق اللحية ، وتقصير الثياب وغيرها من السنن وأصر على ذلك ، فإنه تاركٌ لحظٍ مما ذكر به .
    وأشد من هذا من زهد في هذه السنن ، فهذا الذي يوقع العداوة والبغضاء في الأمة .

    وأعظم من ذلك ترك إنكار البدع ، فهذا هو الذي يحدث الفرقة في الأمة بنص الآية ، فإن البدع من عموم المنكرات التي يجب إنكارها ، بل هي من أعظم المنكرات ، وشرح قبحها في الشرع يطول ولا يخفى على عامة القراء إن شاء الله .
    ويكفي من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :" وشر الأمور محدثاتها "

    فالسكوت عن أهل الأهواء بحجة :" نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذ بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه "
    أو :" اختلافنا في غيرنا لا يوجب خلافاً بيننا "
    هو الذي يحدث فرقةً وشتاتاً في الأمة ، على عكس ما يتصور واضعوا هذه القواعد الردية .

    واعلم - رحمك الله - أنهم وسعوا في دعوى الإنكار في مسائل الخلاف ما لم يوسع الأوائل فنهوا عن الإنكار في مسائل كان ينكر فيها السلف الصالح فقال قائلهم :
    :" لا إنكار في مسائل الخلاف " ، وأحسنهم طريقةً :" لا إنكار في مسائل الإجتهاد " .
    وكلا العبارتين منتقدة عند أهل التحقيق .

    قال العلامة عبد اللطيف آل الشيخ في كتابه النفيس [ إتمام المنة والنعمة في ذم اختلاف الأمة ص 56- 57]:
    " ثم اعلم أن المحققين منعوا من قول : لا إنكار في مسائل الإجتهاد .
    وأوردوا عن الصحابة فمن بعدهم ، من الأئمة وعلماء الأمة ، من الإنكار في مسائل الإجتهاد ما لا يمكن حصره .
    قال شيخ الإسلام ، أبو العباس - رحمه الله - : قولهم : مسائل الإجتهاد لا إنكار فيها . ليس بصحيح ، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم ، أو العمل . أما الأول : فإذا كان القول يخالف سنةً أو إجماعاً قديماً ، وجب إنكاره وفاقاً .
    وإن لم يكن كذلك ، فإنه ينكر . بمعنى : بيان ضعفه عند من يقول : المصيب واحد . وهم عامة السلف والفقهاء .
    وأما العمل إذا كان خلاف سنةٍ أو إجماع ، وجب إنكاره أيضاً : بحسب درجات الإنكار ، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف السنة .

    وأما إذا لم يكن في المسألة سنةٌ ولا إجماع ، وللإجتهاد فيها مساغ . فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً . انتهى[ الفتاوى (19/ 122) ]

    وقال في الفروع : وفي كلام الإمام أحمد وبعض الأصحاب ما يدل على أنه إن ضعف الخلاف أنكر فيها ، وإلا فلا وللشافعية أيضاً خلاف ، ولهم وجهان في الإنكار على من كشف عن فخذيه .
    وقال ابن هبيرة في قول حذيفة ، وقد رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده : ما صليت ، ولو مت على هذا مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم ، : فيه أن إنكار المنكر في مثل هذا ، يغلظ له لفظ الإنكار . " انتهى كلام الشيخ عبد الطيف .


    أقول : وعدم وجوب الطمأنينة في الصلاة مذهبٌ لجماعة من أهل الرأي وأئمة الفقه ، ومع ذلك فالإنكار على من فعل ذلك مشروع اقتداءً بحذيفة - رضي الله عنه -.

    وقال شيخ الإسلام كما في [ الفتاوى الكبرى 2/367 ] :" ‏ فقد نقل ابن حزم في المحلي عن عطاء بن أبي رباح‏ :‏ أنه لا يجوز الصلاة في مسجد إلا على الأرض ، ولما قدم عبد الرحمن بن مهدي من العراق ، وفرش في المسجد ‏.‏
    أمر مالك بن أنس بحبسه تعزيرًا له ، حتى روجع في ذلك ، فذكر أن فعل هذا في مثل هذا المسجد بدعة يؤدب صاحبها‏.‏
    وعلى الناس الإنكار على من يفعل ذلك ، والمنع منه ، لاسيما ولاة الأمر الذين لهم هنالك ولاية على المسجد، فإنه يتعين عليهم رفع هذه السجاجيد، ولو عوقب أصحابه بالصدقة بها، لكان هذا مما يسوغ في الاجتهاد ". انتهى‏



    أقول : فانظر كيف أفتى مالك بسجن ابن مهدي في هذه المسألة ، والطريف أن عبد الرحمن بن مهدي مترجمٌ في طبقات المالكية وإن كانت هذه دعوى غير مسلمة أيضاً فقد زعم الشافعية أن شافعي لأنه سأل الشافعي تصنيف الرسالة ، وترجموا له في طبقات الحنابلة على أنه من شيوخ أحمد الذين رووا عنه ، وقد يكون على مذهب سفيان في الفقه لأنه كان لصيقاً به .

    وقال أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام - كما في [ المنتقى لابن المقريء ص 885 ] : " أخبرنا محمد بن موسى حدثنا محمد بن يعقوب حدثنا عبد الله ابن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول قيل لابن أبي ذئب مالك بن أنس يقول ليس البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فقال يستتاب مالك فإن تاب وإلا ضربت عنقه ."
    وقال أيضاً : [886] " أخبرنا الحسن بن يحيى أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد أخبرنا عبد الله بن محمد سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول : كان ابن أبي ذئب رجلا صالحا قوالا بالحق . "


    أقول : وهذا وإن لم يوافق عليه ابن أبي ذئب إلى أنه يدل على أن الإنكار عندهم في هذه المسائل منتشر معروف .
    ونقول للكرابيسيين ألستم تزعمون أننا غلاة لأننا نلزم أسيادكم بأمور لا يصح الإلزام بها ، فهلا صنفتم ابن أبي ذئب غالياً ؟!

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا تبايعتم بالعينة و أخذتم أذناب البقر و رضيتم بالزرع و تركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم "
    رواه أبو داود [ رقم 3462 ] وصححه بعضهم وفيه بحث  .


    أقول : وبيع العينة جائزٌ في مذهب الشافعي ، فهل شعرت يا أخي أن ترك الإنكار في مسائل الخلاف قضاءٌ على الأمة بالذل ؟!
    والسلف كانوا إذا انعدم الإنكار منهم في الخلاف لسبب ما ، فإنك لا تجدهم يحمدون الخلاف في نفسه ، كما قال ابن مسعود :" الخلاف شر " في خلافه مع عثمان .
    رواه أبو داود [1960].

    وقال البغوي في [ الجعديات 1173 ] " - وبه - عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي رضي الله عنه قال : اقضوا كما كنتم فإني أكره الخلاف حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي قال فكان ابن سيرين يرى عامة ما يروون على علي رضي الله عنه كذبا. "

    أقول : فهذا ابن مسعود وهو أعلم صحابة رسول الله بكتاب الله وليس بخيرهم ، وعلي بن أبي طالب وهو أقضى الصحابة كلاهما كره الخلاف في مسائل تصنف تحت مسائل الخلاف السائغ الاجتهادي كمسألة إتمام الصلاة للمسافر غير الحال المرتحل ، وكلاهما كان قد تحمل أعباء الفقه والفتيا حتى صنف الشافعي كتاباً في ذكر خلافهما وما اتفقا عليه أكثر مما اختلفا عليه ، ومع كل هذا كرها الخلاف ، ولا ينبغي أن تعارض عبارات هؤلاء الأئمة بعبارات من هو دونهم وإن بلغ في العلم والفقه ما بلغ وإن كانت كثير من عبارات الأئمة فيها رفع الحرج في بعض الخلاف لا الثناء عليه .
    وسر المسألة أن المجتهد قد يقول بقولٍ يكون هو مأجوراً في قوله هذا إذ لم يتحصل عنده في المسألة غير الذي بنى عليه حكمه ، ثم يأتي ويتابعه من وقف على أدلة لو وقف عليها المجتهد لما ساغ له القول بقوله ، فيكون الخلاف سائغاً مع شخص ، غير سائغ مع آخر .
    والكلام في هذا الباب يطول ويحتاج إلى مزيد تحرير على قواعد السلف النيرة ، بعيداً عما أحدثه الإخوان المسلمون ومن تأثر بهم في هذا الباب .

    النص الثاني : قال النبي صلى الله عليه وسلم :"والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم "
    رواه أحمد [18453] وصححه ابن خزيمة .

    هذه السنة يصنفها بعض الجهلة في [ القشور ] وهذه القشور [ بزعمهم ] جعلها الشارع سبباً في حصول الغاية المنشودة عندهم وهي وحدة الأمة ، غير أنهم يطلبون وحدةً كوحدة المغضوب عليهم .
    { تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } ، وأما المحمودة شرعاً فهي وحدة الأجسام الناشئة عن وحدة القلوب ، وقد دل هذا النص على هذا المعنى العظيم فجعل التصاق الأبدان وسيلة ، ووحدة القلوب الغاية ، والقاعدة المطردة أن الوسيلة لا تكون أسمى من الغاية .


    النص الثالث : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم "
    رواه أبو داود [ 403 ].

    فانظر رحمني الله وإياك كيف ربط النبي صلى الله عليه وسلم ، خيرية هذه الأمة بهذه السنة .
    وهذا الحديث يشير إلى مخالفة الروافض الذين يؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم .
    مما يدل على أن سنة التميز المفاصلة هي ركنٌ من أركان خيرية الأمة وقد سعى السلف إلى تطبيق هذه السنة سعياً حثيثاً ، فحكموا على المبتدع بالحكم الذي يستحقه .
    ثم فرعوا على هذا الحكم مقتضيات المفاصلة من هجرٍ وتشهير وإذلال لأهل البدع وغيرها مما أجمعوا على أنه الأصل في التعامل مع أهل البدع .

    بل إن ذلك واجبٌ ، قال شيخ الإسلام كما في [ مجموع الفتاوى 35/ 164] :" وتجب عقوبتهم جميعهم ، ومنعهم من هذا الشعار الملعون ، كما يجب ذلك في كل معلنٍ بدعة أو فجور " .

    واليوم يراد الصد عن سنة [ المفاصلة ] بوسائل شتى ، فمن ذلك تنفير أهل السنة من الحكم على أهل البدع بما يستحقون ، بحجة أنك لن تسأل في قبرك عن هذا !


    ويا ليت شعري ، القبر ما فيه من الغيب وباب الغيب توقيفي فلا يجوز فيه النفي أو الإثبات إلا بنص فكيف يجرؤ المختص بالعقيدة على النفي دون نص .
    ثم إلا يوجد حساب إلا في القبر ؟ .
    ثم هل يمكن لهذا المنكر أن يأتي بأدلة تفصيلية تبين أنك تسأل في قبرك عن دخول العمل في مسمى الإيمان وحكم الإستثناء فيه أو عن مسألة اللفظ أو عن السنن الرواتب وغيرها من المسائل التي يعتني بها المعترض
    - ولا يذم بذلك بل يحمد -؟

    ثم إن الحكم على المبتدع بما يستحق أمرٌ واجب على أهل العلم ، وينبغي على طلبة العلم متابعتهم ، فعقوبة المبتدع واجبةٌ كما تقدم عن شيخ الإسلام ولا تقع العقوبة إلا بالحكم عليه بالإبتداع ابتداءً وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
    وقد ثبت في السنة أن المرء يعذب في قبره على النميمة ، أفلا أن يعذب على البدع ووسائلها من مخالطة أهلها ومناصرتهم أو حتى السكوت عنهم مع وجوب الكلام فيهم .

    واعلم أن التحذير من المرء لا يلزم منه أن يكون مبتدعاً ، بل لو جالس المبتدعة فإنه يعاقب كما يعاقبون وإن لم يكن مظهراً لبدعتهم .


جاء في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية [ 35/ 412 - 413] :" وسئل - رحمه الله تعالى - عن الشهادة على العاصي والمبتدع‏ :‏ هل تجوز بالاستفاضة والشهرة ، أم لابد من السماع والمعاينة‏ ؟‏ وإذا كانت الاستفاضة في ذلك كافية فمن ذهب إليه من الأئمة ‏؟‏ وما وجه حجيته ‏؟‏ والداعي إلي البدعة والمرجح لها‏ :‏ هل يجوز الستر عليه ‏؟‏ أم تتأكد الشهادة ليحذره الناس‏ ؟‏ وما حد البدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ‏؟‏
فأجاب‏:‏
ما يجرح به الشاهد وغيره مما يقدح في عدالته ودينه فإنه يشهد به إذا علمه الشاهد به بالاستفاضة ، ويكون ذلك قدحا شرعيا ، كما صرح بذلك طوائف الفقهاء من المالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم في كتبهم الكبار والصغار ، صرحوا فيما إذا جرح الرجل جرحاً مفسدا أنه يجرحه الجارح بما سمعه منه، أو رآه ، واستفاض‏.‏

وما أعلم في هذا نزاعاً بين الناس ، فإن المسلمين كلهم يشهدون في وقتنا في مثل عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وأمثالهما من أهل العدل والدين بما لم يعلموه إلا بالاستفاضة‏ ,‏ ويشهدون في مثل الحجاج ابن يوسف والمختار بن أبي عبيد ، وعمر بن عبيد ، وغيلان القدري ، وعبد الله بن سبأ الرافضي ، ونحوهم من الظلم والبدعة بما لا يعلمونه إلا بالاستفاضة‏.‏
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏ :‏ أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا ، فقال‏ :‏ ‏[ ‏وجبت ‏]‏ ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال ‏:‏ ‏[ ‏وجبت ، وجبت ]‏ قالوا‏ :‏ يا رسول الله ، ما قولك‏ :‏ وجبت وجبت ‏؟‏ قال‏:‏ ‏[ ‏هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت ‏:‏ وجبت لها الجنة ، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا ، فقلت‏ :‏ وجبت لها النار‏.‏ أنتم شهداء الله في الأرض‏ ] هذا إذا كان المقصود تفسيقه لرد شهادته وولايته‏.‏
وأما إذا كان المقصود التحذير منه واتقاء شره فيكتفي بما دون ذلك ،كما قال عبد الله بن مسعود ‏:‏ اعتبروا الناس بأخدانهم ، وبلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلا يجتمع إليه الأحداث فنهي عن مجالسته ، فإذا كان الرجل مخالطاً في السير لأهل الشر يحذر عنه‏.‏
والداعي إلي البدعة مستحق العقوبة باتفاق المسلمين ، وعقوبته تكون تارة بالقتل ، وتارة بما دونه ، كما قتل السلف جهم بن صفوان ، والجعد بن درهم ، وغيلان القدري ، وغيرهم‏.‏ ولو قدر أنه لا يستحق العقوبة أو لا يمكن عقوبته فلابد من بيان بدعته والتحذير منها ، فإن هذا من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي أمر الله به ورسوله ‏"


أقول : فانظر كيف أثبت الحكم بالإبتداع بالشهرة ، ولم يشترط الوقوف على الغلط ، وأثبت التحذير بأقل مما يثبت به الحكم على المرء بالإبتداع .
ولم يكن لاشتراط [ الإجماع ] أو [ الاقتناع ] مكاناً في تطبيقاتهم .

جاء في ترجمة مكحول الشامي من تهذيب التهذيب :" وقال أبو داود سألت أحمد هل أنكر أهل النظر على مكحول شيئا قال أنكروا عليه مجالسة غيلان ورموه به فبرأ نفسه بأن نحاه".


أقول : فتأمل كيف آخذوه بمجالسة غيلان فقط ، وهو لم يثنِ عليه ، ولم يرد عليهم مكحول بأنه فقيه أهل الشام ولا يلزم الجرح إلا بإجماع وقد خرق هو الإجماع ! ، أو يرد عليهم بأن كلامهم غير مقنع ! ، بل خضع للحجة العلمية ونحى غيلان القدري .

وقد تقرر في قواعد الشرع أن ما ثبتت إباحته فضلاً عما ثبت استحبابه أو وجوبه فإن مصلحته راجحة أو خالصة .
وهذه المصلحة الأصل فيها أن صالحة لكل زمانٍ أو مكان ، ومن ادعى تخلف هذه المصلحة فإن عليه الدليل .
إذا علمت هذا أمكنك الرد على من يزهد في الردود على أهل البدع في هذا الشهر _ المقال كتب في شهر رمضان _ بحجج واهية .

من أقواها دعوى بعضهم أن الإمام أحمد كان يترك الكلام في الرجال وهو صائم والجواب على الاستدلال
- إن صح - من وجوه :


أولها : أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد لا يستفاد منه وجوب ، إلا كان تبييناً لمجملٍ واجب ، فكيف بفعل الإمام أحمد ابن حنبل ولم يأمر أحداً به ؟

ثانيها : أن الكلام في الرجال يشمل الكلام في رواة الحديث جرحاً وتعديلاً والكلام في أهل البدع وهذا المعترض لا يتمعر من الكلام على الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً في نهار رمضان ، بل فتشت في حاله فلن تجده ينزعج من الكلام في الروافض أو الجهمية أو حتى الفساق وإنما انزعاجهم من الكلام في ضربٍ معين من أهل الأهواء وبهذا يظهر التناقض .
فإن خطيب الجمعة يقف على المنبر وهو صائم وهو يندد بالمسلسلات والتمثيليات والقائمين عليها ، ولا يعترض عليه أحد بأم صائم أو انشغل بنفسك وغيرها من الحجج الواهية ، بل يشكرون له سعيه ، فما بال أهل البدع تصيبهم هذه الحصانة التي لا تصيب الفساق ؟!


ثالثها : أن الكلام في أهل الأهواء قربة من القرب ، وما ثبت وجوبه في الشرع كان أن الأصل فيه أن مصلحته راجحة في كل زمان ومكان إلا بدليل يستثني ذلك ، وقد أبيح في نهار هذا الشهر أمورٌ هي عائدة على الفرد بالفائدة من طلب الرزق ومباشرة الزوجة وملاعبة العيال وغيرها ، فكيف يمنع من أمرٍ نفعه عائدٌ على عامة المسلمين .

قال ابن الجوزي في [ تلبيس إبليس 1/15] :" حدثت عن أبي بكر الخلال عن المروزي عن محمد بن سهل البخاري قال كنا عند الفريابي فجعل يذكر أهل البدع فقال له رجل لو حدثتنا كان أعجب إلينا فغضب وقال كلامي في أهل البدع أحب إلي من عبادة ستين سنة ".


قيل لأحمد بن حنبل : الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع ؟ فقال : إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه ... وإذا تكلم في أهل البدع ، فإنما هوللمسلمين وهذا أفضل . فتبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد فيسبيل الله ..
[ مجموعة الرسائل والمسائل لشيخ الإسلام 4/110]



رابعها : أن يقال أنك إذا سكت فأهل البدع لن يسكتوا بل هم سائرون في طريقهم وقد ملأوا الفضائيات ونافسوا الفساق في ذلك قد خرجوا في قنوات الفسق والفجور
ورافدهم في ذلك فقههم السقيم المبني على الغلو في المصلحة وإلغاء فقه سد الذرائع فتجد الواعظ يتكلم عشر دقائق ثم يأتي الفاصل الإعلاني ليهدم موعظته من أساسها بما فيه من صور الفسق والفجور ، بل إن قنوات الفسق تدر أرباحاً مالية جراء خروج الدعاة عليها ، ثم ينفقون هذه الأرباح على بقاء القناة مع كل ما فيها من صور الفسق والفجور ، وهؤلاء الدعاة يعدون أنفسهم حققوا مكسباً في خروجهم على هذه القنوات ، وما هم إلا معينين لأهل الفسق على فسقهم وكذا فليكن الفقه !!


خامسها : أن يقال أن الرد على أهل البدع داخلٌ في باب النصيحة ، ولا أحد يمنع من بقية أفراد النصيحة كنصح أهل الفسق أو حتى أهل الإستقامة في نهار رمضان فما بال هذا [ الفرد ] من أفراد النصيحة ممنوع عند المعترضين .

إذا علمت أن الرد على المخالف نصيحة ، أمكنك الرد من يجعل محاسن المرء مانعةً من الرد عليه فيقول :
" لا تردوا على فلان فقد كاد أن يكون بدرياً "
فإن النصيحة واجبةٌ لكل مسلم .
وإذا كان العقوبة الشرعية الواجبة لا تسقط بالفضائل كالحدود والتعزيرات التي يقضي بها الإمام فكيف بالنصيحة ، فتلك الدعوى خطلٌ في الفهم ومن رد الباطل بالباطل وقد أغنى الله أهل الحق عن ذلك.

قال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ في [ إتمام النعمة ص 40 ] :" قال أبو محمد - يعني ابن حزم -: وأيضا ، فقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم فتاوى قوم من الصحابة ، كأبي السنابل بن بعكك في المتوفى عنها زوجها ، وقد قال بعد ذلك بقول أبي السنابل ابن عباس وغيره ، وأبطل قول من قال: حبط عمل عامر بن الأكوع ; وقد أجمعت الأمة على أنه قد كان من بعض الصحابة ، رضي الله عنهم ، أشياء مغفورة لهم : فقد رجم ماعز والغامدية ، وهما والله من أهل الجنة. وقال مسطح ما قال ، وهو بدري مقطوع له بالجنة ، ولو أن امرأ يقول بذلك اليوم لكان كافرا ؛ وقد جلد قدامة بن مظعون في الخمر ، وهو بدري من أهل الجنة ، أفيحل الأخذ بقول من اقتدى بشيء من هذه الأمور بهؤلاء المتقدمين فهو مهتد ؟ حاشا لله ، بل يكون من قال ذلك في بعضه كافرا ، وفي بعضه فاسقا ، بخلاف الفضلاء المغفور لهم بعض ذلك ، أو كله ، الذين فازوا ، ولو تصدق من بعدهم بمثل جبل أحد من ذهب، لم يبلغ نصف مد شعير يتصدق به أحدهم " اهــ



النص الأخير : عن ابن عباس قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم غداة جمع هلم القط لي فلقطت له حصيات من حصى الخذف فلما وضعهن في يده قال نعم بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين .
رواه أحمد [1851] وصححه ابن خزيمة


أقول : فانظر كيف جعل صلى الله عليه وسلم الغلو في حصى الخذف [ هلكة ] ، ولو قلنا لأحدهم صنف لنا بدعة الغلو في حصى الخذف لصنفها في البدع الصغيرة ، وربما جعل بعض الكبائر أشر منها !
فانظر كيف أن الحفاظ على السنة في هذا الأمر الذي يستصغره عامة الناس ، أمان ٌللأمة من الهلاك .
والله المستعان .
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم