الأربعاء، 29 يناير 2014

درة عمرية من الأديب محمود شاكر على المغترين بالشهادات والشهرة



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :


قال الأديب محمود شاكر كما جمهرة مقالاته (1/59) :" إن الشهرة والشهادة هما شيئان لا قيمة لهما في العلم والأدب ، فبناءُ العلم على نجاح التجربة واستواء المنطق وإقرار العقل ، وبناء الأدب على صدق الاحساس وحدة الادراك وسمو العاطفة وقوة حشد وبراعة العبارة والأداء . فإذا لم تكن الشهرة من هذا تستفيض وعنه تشرع ، فما غناؤها على صاحبها إلا بعض الأباطيل التي تنفش في عقول الأمم الضعيفة والأجيال المستعبدة بالأوهام والتهاويل . والشهادة ما هي إلا إجازة الدولة لأحد من الناس أنه قد تحرر من طلب العلم والأدب على القيود التي تتقيد بها المدارس والجامعات في أنواع بعينها من الكلام ، وأنه قد حصل في ورقة الامتحان ما فرض عليه تحصيله بالذاكرة ، ثم ترفع الشهادة يدها عن معرفة ما وراء هذا التحصيل وما بعده وما يصير إليه من الاهمال أو النسيان أو الضعف أو الفساد . فحين يغادر أحدهم الجامعة حاملاً شهادته مندمجاً في زحمة الجماعة تفقد الشهادة سلطانها الحكومي _ أو هكذا يجب أن يكون _ ولا يبقى سلطان إلا للرجل وأين يقع هو من العلم أو الأدب أو الفن ؟ وهل أصاب أو أخطأ ؟ وهل أجاد أو أساء ؟ وهكذا فهو لا ينظر إليه إلا مغسولاً غفلاً من ((مكياج )) الدبلوم والليسنس والماجستير والدكتوراه .. وما إليها ، وإذن ، فأولى ألا ينظر إليه عن شهادة قوم لم يكن سبيلهم إلى التحكم في أسواق العلم والأدب إلا الشهادات المستحدثة ، والشهرة النابغة على حين فترة وضعف واختلاط وجهل كان في الأمة حين كان أقل العلم وأشف الأدب يرفعان صاحبهما درجات من التقدير والإجلال والكرامة .
إن هذه التجارة التي تقوم هلى استعباد العلم والعلماء والأدب والأدباء تجارة باغية ينبغي أن تفنى نخاستها وان تغلق أسواقها ، وينبغي أن يتحرر الأدباء والعلماء المستعبدون قليلاً من أغلال الضرورات المستحكمة ليحاربوا بغي هذه التجارة بالنبل والسمو والترفع ، وليهتكوا تلك الأستار الحريرية الرفيعة المسدلة على بيوت الأوثان الجاهلية التي تستعبد الأحرار باستغلال ضراعة الضرورة والحاجة والفقر ، ينبغي ...."

أقول : جزى  الله الأديب محموداً خيراً ، فقد أجاد في وصف الداء والدواء ، وإني لأستصغر نفسي عن الكلام في حضرة الرجل البليغ على عيي  ، غير أني في صدري جمرة قد آن لي أن ألفظها ولو أحرقت من أحرقت

أمر الدكتوراه في زمن الكاتب ، كان على هيئة أسمى وأرقى منها اليوم ، فما كانت دخلت دخائل التحزبات ، وكان المرء في الغالب يعمل بيده وأما اليوم فيعينه على رسالته قومٌ آخرون ، لو أنصفت اللجنة المناقشة لأعطت كل منهم جزءً مقسوماً من الدكتوراه ، ولأعطت الدكتور شهادةً في لبس ثوبي الزور !

وأما أمره قبل الدكتوراه فيعتمد على حفظ ملازم الدكاترة ، لو بغير فهم ولا تحقيق ، بل ربما التحقيق والفهم مثلبةً تخالف ( الأدب مع المشايخ ) ، فقد قالها الصوفية قديماً ( كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل ) ، وحرفها اليوم قومٌ آخرون فسموها ( الأدب مع المشايخ ) أو ( التواضع )، ولا يعنون بذلك المعنى الشرعي المستقيم لهذه الألفاظ ، وإنما يريدون عدم المراجعة أو التصويب أو النصيحة

يعني ليكن ( أدبك مع الشيخ ) أعظم من (أدبك مع الله ورسوله )

وأنت مطالب بالتواضع الذي يعني ( السكوت عن الحق ) والشيخ لا يؤمر أن يتواضع ويقول ( أصاب أخي وأخطأت )

وهذا ما يدندن حوله بعضهم ممن يرقع ضعفه العلمي تحت ستار الكلام عن الأدب ، ثم تجد هذا المؤدب ( سارقاً محترفاً ) قادراً على أن يجعل المسروق ( قليل أدب ) لأنه لم يقبل بسرقة سماحة ( المؤدب ) له

وعلى هذا النسق يقضي ( بعضهم ) فترة الطلب ، حتى يصل إلى درجة الماجستير والدكتوراه ، فإذا وصل إلى تلك الرتبة كانت (عصابة التحقيق ) في عونه حتى يصل إلى تلك الرتبة ، وعصابة التحقيق هم الذين وصف لك الكاتب حالهم في آخر كلامه ممن يستغل فقرهم أو حاجتهم أو حتى حياءهم ، ثم يصير ينظر للناس من فوق

وقد رأيت بعض إخواننا يذكر أسباب الخلاف بين السلفيين ويعددها في نقاط ، وأرى عامتهم غفل عن ( الاغترار بالشهادات ) و ( الكبر عن قبول الحق ممن هو دون )

واليوم نسمع ( هذا للعلماء ) ( وهذا للمشايخ ) ويريد بعضهم بالمشايخ والعلماء ( المشاهير ) و( أصحاب الشهادات ) الذين وصف لك الكاتب  حال بعضهم ، وإن لم يقبل كلامه في تشبيه الأمر على أنه وثنية

قال  الشوكاني في أدب الطلب :" فقد يوجد في زاوية من الزوايا التي لا يؤبه لها ولا يرفع الرأس إليها من يقل نظيره من المشاهير في الأمصار الواسعة"

وقال أيضاً :" ومن الآفات المانعة عن الرجوع إلى الحق أن يكون المتكلم بالحق حدث السن بالنسبة إلى من يناظره أو قليل العلم أم الشهرة في الناس والآخر بعكس ذلك فإنه قد تحمله حمية الجاهلية والعصبية الشيطانية على التمسك بالباطل أنفة من الرجوع إلى قول من هو أصغر منه سنا أو أقل منه علما أو أخفى شهرة "
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم