الاثنين، 27 يناير 2014

فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :



فهذه كلمة تذكير أكتبها عملاً بقوله تعالى :" فذكر إن نفعت الذكرى " ، وأحسب أنها ستنفع إن شاء فإن كاتب هذه السطور ليس بأعلم ولا أفضل من عامة المخاطبين بهذا الكلام




غير أن المؤمن مهما بلغ من العلم والفضل قد يعتريه نقصٌ في قوته العلمية أو قوته العملية يحتاج لأن يكملها بالتناصح فيما بينه وبين إخوانه




قال الله تعالى :" قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون "




قلت : في هذه الآية الأمر بالفرح بفضل الله عز وجل خلافاً لما عليه كثيرٌ من أهل النسك المجرد عن العلم النافع ، فتجدهم يحمدون الحزن ويزينونه ويجعلونه علامةً على يقظة القلب ، وقد يظهر ذلك في بعض أشعارهم التي يتم إنشادها فيما يسمى بالأناشيد الإسلامية كمثل قول قائلهم :" أحزان قلبي لا تزول حتى أبشر بالقبول " ، وهذا مع ركاكته مخالفٌ للشرع




وربما احتج الدعاة لهذا المسلك ببعض الآيات التي تأولوها على غير تأويل أهل العلم الراسخين كمثل قوله تعالى :" وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"




وقوله تعالى :" وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً"




وهذه الآيات إنما ورد فيها ذم الفرح المقترن بالكبر والفخر وبهذا فسر علماء السلف الآيات كما تراه في تفسير الطبري




وأما الآية المذكورة فإن فيها قطع دابر الخيلاء والكبر ، إذ أن الله عز وجل جعل الفرح فيها بفضل الله ، فنبه سبحانه وتعالى العباد على أن يكون فرحهم مقترناً بمشاهدة نعمة الله عز وجل وفضله وهذا هو الفرح الشرعي الذي لا يذم ، بل هو محمودٌ ومأمورٌ به فأقل أحواله الإستحباب ، هذا مع عدم الأمن من مكر الله عز وجل




وأما الحزن فقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى(10/ 16) :" وأما الحزن فلم يأمر الله به ولا رسوله بل قد نهى عنه في مواضع وان تعلق بأمر الدين كقوله تعالى :" ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين "وقوله :" ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون " وقوله "إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " وقوله :" ولا يحزنك قولهم وقوله لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " وأمثال ذلك كثير وذلك لأنه لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه ومالا فائدة فيه لا يأمر الله به نعم لا يأثم صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم كما يحزن على المصائب"




أقول : فالحزن الفطري لا يأثم به صاحبه ، إن لم يقترن بمحرم وهذا الحزن زائلٌ بطبيعته ، وأما الحزن تديناً لله عز وجل بذلك الحزن فغير مأمور به بل هو منهي عنه

فإن قيل : أليس المرء يستاء من سيئته إذا فعلها ويحزن ؟

فيقال : ولكن ما ينبغي أن يدوم هذا بل ينبغي أن يتبعها بحسنة الإستغفار التي هي من فضل الله ورحمته عليه ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو المؤمن كما في حديث الترمذي

واعلم أن هناك فرقاً بين الحزن والخوف فالحزن يكون على أمرٍ لا يمكن تداركه كموت الميت ، والخوف يكون من أمرٍ يمكن تداركه كأذى متوقع ، وأمر الآخرة كله يمكن تداركه




واعلم _ رحمك الله _ أن الفرح المأمور به في هذه الآية لا يتعارض مع النهي عن الفرح المنهي عنه في قوله تعالى :"لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " ، فالفرح المنهي عنه هنا هو الفرح بنعيم الدنيا الزائل كما فسره بذلك ابن جرير الطبري ، ولا يخفى أن هناك فرحاً فطرياً مباحاً كالحزن الفطري المباح ، والمنهي الإفراط في هذا أو ذاك على وجهٍ يوقع في المعصية والإثم ، ولا شك أن الفرح بالرزق الحلال الذي يسوقه الله للعبد لا ضير فيه بل إذا اقترن فيه شكران النعمة كان هذا من أكمل الأحوال ، ولهذا وعد المجاهدون بالغنائم تحفيزاً لهم لما علم من انطباع حب المال في نفوس بني آدم




إذا فهمت هذا ، علمت أن الفرح المأمور في قوله تعالى :" قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون " المراد به أصالةً النعم الدينية




قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (16/ 49) :" ففضل الله ورحمته القرآن والإيمان ، من فرح به فقد فرح بأعظم مفروحٍ به ، ومن فرح بغيره فقد ظلم نفسه ووضع الفرح في غير موضعه "




فأولها : نعمة الإيمان الذي به تحصل حياة القلب




قال الله تعالى :" وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم "




قلت : فسمى الله عز وجل وحيه روحاً لما كان فارقاً بين القلب الميت والقلب الحي ، كما أن الروح الحسية فارقةٌ بين الجسد الحي والجسد الميت




وقال الله تعالى :" أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها "




قال ابن جرير في تفسيره 10777 - حدثني المثني، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {أو من كان ميتافأحييناه} يعني: من كان كافرا فهديناه، {وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} يعني بالنور: القرآن من صدق به وعمل به، {كمن مثله في الظلمات} يعني بالظلمات: الكفر والضلالة.

-حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} يقول: الهدى يمشي به في الناس، يقول: فهو الكافر يهديه الله للإسلام، يقول: كان مشركا فهديناه، {كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}








وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والذي نفس محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر " متفقٌ عليه




أقول : فاحمد الله عز وجل الذي خصك بهذه النعمة من دون خلقٍ كثيرين ، يعيشون على الكفر وعليه يموتون ، فلا تخالط بشاشة قلوبهم حلاوة الإيمان ولا نور الوحي يبددٌ ظلمات الجهل والظلم في نفوسهم ، وعاشوا وماتوا بلا روح !



فافرح أخي بفضل ورحمته




وثاني النعم : نعمة السنة ، وقد كتبت مقالاً في فضائل أهل السنة ، من أراده فهو منشور ، غير أنني لا أخلي المقام من الإشارة إلى عظم هذه النعمة ، إذ لو لم يكن فيها سوى السلامة من وعيد البدعة والضلالة لكان كافياً لأن يفرح السني بفضل الله عز وجل عليه سائر اليوم ، بل سائر العام ، بل سائر الدهر !




وثالث النعم : نعمة العلم الشرعي ، وفضائله كثيرةٌ مبسوطة في كتب لا تخفى على إخواننا الطيبين ولكنني أشير إلى بعض ما قد يخفى على بعض الإخوة




قال الإمام مسلمٌ في صحيحه (2726) حدثنا قتيبة بن سعيد وعمرو الناقد وابن أبي عمر (واللفظ لابن أبي عمر). قالوا: حدثنا سفيان عن محمد بن عبدالرحمن، مولى آل طلحة، عن كريب، عن ابن عباس، عن جويرية؛

أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها. ثم رجع بعد أن أضحى، وهي جالسة. فقال "ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟" قالت: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم "لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات. لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته".




أقول : يدل هذا الخبر على أن المرء كلما كان أعلم ، كان أبصر بمراتب الأعمال فيكون أقدر على تحصيل الأجر العظيم في الوقت القصير




لهذا كان للعلماء في هذه الأمة حفاوةٌ أعظم من حفاوة العباد



قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (16/48_49) :" فكم ممن يختم القرآن في اليوم مرة أو مرتين ، وآخر لا ينام الليل ، وآخر لا يفطر ، وغيرهم أقل عبادةً منهم ، وأرفع قدراً في قلوب الأمة ، فهذا كرز بن وبرة ، وكهمس ، وابن طارق ، يختمون القرآن في الشهر تسعين مرة ، وحال ابن المسيب وابن سيرين والحسن وغيرهم في القلوب أرفع "




واعلم _ وفقك الله _ أننا متى حمدنا العلم ، فإننا نعني العلم النافع بالفهم السلفي ، لا العلم بالفهم الخلفي الذي سمته كثرة الجدل والشقشقة والتصنع والتكثر بالشيوخ والكتب على غير صفاء سريرة وبعد عن هدي السلف في العلم والعمل ، فهذا ليس بعلم بل هو جهلٌ مركب وإن شئت قل مركز!




فكم من عرجٍ في العقيدة والعبادة والسلوك قومه العلم، وكم بدعةٍ اندثرت وسنة ظهرت بالعلم ،و هذا يشاهده كل واحدٍ ممن من الله عليه بالعلم في خاصة نفسه وفي عامة الناس




وبالعلم النافع علمنا فضل الله عز وجل علينا إذ جعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسيئة لا نجزى إلا بمثلها



وبالعلم النافع علمنا أن الله عز وجل يثيب على الهم بالحسنة ولا يعاقب على الهم بالسيئة بل يثيب على تركها



وعلمنا أن الله عز وجل يكفر عنا ذنوبنا بالمصائب التي تصيبنا



وعلمنا الأجر العظيم المترتب على الكثير من الأعمال ، التي ربما استشقلها الإنسان أو استقل بقدرها في زمن الجهل ، فلما من الله عز وجل عليه بنور العلم أصبح يجد من الفرح والإستبشار عند فعلها ما لا يحده الوصف




وذلك كرجلٍ علم ما في صلاة الجماعة من الأجر وأن مضاعفٌ فيها خمساً وعشرين وأن كل سجدةٍ ترفعه درجة وأنه يكون قريباً من ربه حال سجوده ، وأن ذنوبه توضع على عاتقيه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه ، فيبلغ به العلم بهذه الأمور حالاً من الغبطة والسرور بفضل الله عز وجل ما لا يحسن التعبير عنه بلسان المقال غير أن هذا أمرٌ يعلمه أصحاب الذوق الصحيح من أهل اليقظة




وجماع ذلك معرفة أسماء الله وصفاته ثم مشاهدة آثارها على الشرع ، فيشاهد المرء عظمة الله عز وجل ورحمته وحكمته وعدله في تشريعاته



ولتعرف فضل الله عز وجل عليك ، إذا كنت ممن حبب إليه العلم فهو رأس كل خير ، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين



قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (9/315) :" وبلغنا عن بعض السلف قال القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إلى الله تعالى أرقها واصفاها وهذا مثل حسن فان القلب إذا كان رقيقا لينا كان قبوله للعلم سهلاً يسيراً ورسخ العلم فيه وثبت واثر وأن كان قاسياً غليظاً كان قبوله للعلم صعبا عسيراً ،ولا بد مع ذلك أن يكون زكياً صافياً سليماً حتى يزكو فيه العلم ويثمر ثمراً طيباً وإلا فلو قبل العلم وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم وكان كالدغل في الزرع إن لم يمنع الحب من أن ينبت منعه من أن يزكو ويطيب وهذا بين لأولى الأبصار"




ويعظم فرحك بهذه النعم ، إذا علمت قدر الدنيا وحقارتها وقد ورد التنبيه على هذا في آخر الآية في قوله :" هو خيرٌ مما يجمعون "




وقال الله عز وجل في الآية الأخرى :" الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خيرٌ عند ربك ثواباً وخير أملاً"




وقال تعالى :" زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب "




قال الترمذي في جامعه 2422 - حَدَّثَنَا قُتَيبَةُ أخبرنا عبدُ الحميدِ بنُ سليمانَ عن حازمٍ عن مسهرِ بنِ سعدٍ قال:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلِيهِ وسَلَّم: (لو كانتْ الدُّنيا تعدلُ عندَ اللهِ جَناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافراً منها شربَةَ ماءٍ) .

وفي البابِ عن أبي هُرَيرَةَ هذا حديثٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوَجهِ




وقال الإمام مسلم (725) حدثنا محمد بن عبيد الغبري. حدثنا أبو عوانة عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها "




وقال البخاري 3502 - حدثني محمد بن بشار: حدثنا غندر: حدثنا شعبة، عن الحكم: سمعت ابن أبي ليلى قال: حدثنا علي:أن فاطمة عليها السلام شكت ما تلقى من أثر الرحى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فانطلقت فلم تجده فوجدت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم، فقال: (على مكانكما). فقعد بيننا، حتى وجدت برد قدميه على صدري، وقال: (ألا أعلمكما خيرا مما سألتماني، إذا أخذتما مضاجعكما، تكبران أربعا وثلاثين، وتسبحان ثلاثا وثلاثين، وتحمدان ثلاثا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم).




أقول : قال بعض شراح الحديث (الخادم ) من أمر الدنيا وذلك الذكر من أمر الآخرة وهو من الباقيات الصالحات لهذا كان خيراً لهما



فإذا فرح أهل الدنيا بدنياهم فافرح أنت أيها السني بفضل الله عز وجل ورحمته فأنت أحق بالفرح



وإن مشاهدة هذه النعم مما يعين على الصبر على أراجيف المبطلين من أهل الكفر والنفاق والبدع ، كما أن ذكر الله ورأسه الصلاة مما يعين على ذلك



قال الله تعالى :" وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ {97} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكن من الساجدينُ "
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم