الأربعاء، 1 يناير 2014

مسائل مهمة في الاستثناء في الإيمان ...

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :


فمن المسائل المشكلة على كثيرين من طلبة للعلم مسائل الاستثناء في الإيمان وهناك عدة أطروحات متعلقة في هذا الباب تحتاج إلى مناقشة وإيضاح فمن ذلك قول عدد من الناس أن الاستثناء في الإيمان وهو قولك [ أنا مؤمن إن شاء الله ] مستحب وليس واجباً.
 وأن القول بالوجوب هو قول الأشاعرة ، ومن ذلك قول بعض شراح الواسطية ( الأشاعرة مسلمون مؤمنون ) مع تصريحه بالتفريق مع الإسلام والإيمان .
 ومن ذلك بعض الناس أن الاستنثاء مأخذه التبرك وأنك إذا كنت تتكلم عن إيمانك الآن فلا بأس في ألا تستثني
وهذه الأطروحات منها ما يحتاج إلى إيضاح ومنها ما هو باطل جزماً

فأما القول بأن الاستثناء مستحب وليس واجباً فيستفصل من قائله ما يريد

هل يريد أن الإنسان إذا سئل (أمؤمن أنت ) فهو مخير بين الإجابة ب( أنا مؤمن إن شاء الله ) أو ( أرجو أن كون مؤمناً ) أو ( أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ) أو السكوت عن الإجابة أو القول ( أنا مسلم ) فهذا معنى صحيح ؟

 ولكن ينبغي الابتعاد عن الألفاظ المجملة

وإن كان يريد أنه يجوز للإنسان أن يقول ( أنا مؤمن ) بدون استثناء فهذا باطل وقد رده السلف الكرام

فإن قيل : ما وجه الإنكار ؟

قلت : سر الخلاف بين المرجئة وأهل السنة في مسألة الاستثناء هو قول حقيقة الفريقين في حقيقة الإيمان ، فالمرجئة يقولون بأن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ فقولك ( إن شاء الله ) شك والشك في بعض الإيمان شك فيه كله لأنه لا يتجزأ عندهم والشك كفر لهذا يذكرون في ألفاظ الردة في كتبهم الفقهية ( الحنفية ) قول القائل ( أنا مؤمن إن شاء الله )

وأما أهل السنة فالإيمان عندهم يتجزأ والعمل داخل في مسمىى الإيمان والاستثناء عندهم على العمل فإنهم لا يدرون قبل منهم أم لم يقبل

قال الخلال في السنة 1057: وَأَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَطَرٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ , يَقُولُ : لاَ نَجِدُ بُدًّا مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ ؛ لأَنَّهُ إِذَا قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ فَقَدْ جَاءَ بِالْقَوْلِ , فَإِنَّمَا الاِسْتِثْنَاءُ بِالْعَمَلِ لاَ بِالْقَوْلِ.

ويريد بالقول الشهادتين وقول القلب وإلا فمن أقوال اللسان ذكر الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من العبادات القولية  وهذا لا يجزم المرء بإتيانه به على وجه مقبول منه

قال إسحاق بن راهوية في مسنده (3/671) : أخبرنا محمد بن أعين قال قال بن المبارك وذكر له الإيمان فقال قوم يقولون إيماننا مثل جبريل وميكائيل إما فيه زيادة إما فيه نقصان هو مثله سواء وجبريل ريما صار مثل الوضع من خوف الله تعالى وذكر أشباه ذلك قال فقيل له إن قوما يقولون إن سفيان الثوري حين كان يقول إن شاء الله كان ذاك منه شك .
فقال بن المبارك أترى سفيان كان يسبقني في وحدانية الرب أو في محمد صلى الله عليه وسلم إنما كان استثناءه في قبول إيمانه وما هو عند الله .
قال بن أعين قال بن المبارك والاستثناء ليس بشك ألا ترى إلى قول الله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين وعلم أنهم داخلون قال لو أن رجلا قال هذا نهار إن شاء الله ما كان شكا قال .
وقال شيبان لابن المبارك يا أبا عبد الرحمن ما تقول فيمن يزني ويشرب الخمر ونحو هذا أمؤمن هو قال بن المبارك لا أخرجه من الإيمان فقال على كبر السن صرت مرجئا .
فقال له بن المبارك يا أبا عبد الله إن المرجئة لا تقبلني أنا أقول الإيمان يزيد المرجئة لا تقول ذلك والمرجئة تقول حسناتنا متقبلة وأنا لا أعلم تقبلت مني حسنة

وقد ثبت إنكار السلف على من قال ( أنا مؤمن ) ولم يستثنِ

قال أبو داود في سننه  4685 : حدثنا أحمد بن حنبل ثنا عبد الرزاق ح وثنا إبراهيم بن بشار ثنا سفيان المعنى قالا ثنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه
 : أن النبي صلى الله عليه و سلم قسم بين الناس قسما فقلت أعط فلانا فإنه مؤمن قال " أومسلم ؟ إني لأعطي الرجل العطاء وغيره أحب إلي مننه مخافة أن يكب على وجهه "

موطن الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقره على شهادته لصاحبه بالإيمان وقال له ( أومسلم ) وهذا مما احتج به علماء أهل السنة على مشروعية الاستثناء وعلى التفريق بين الإسلام والإيمان ( وإن كان القول بالتسوية ) منسوباً لبعضهم وعلى أنه يستثنى في الإيمان ولا يستثنى في الإسلام ( وهذا الذي عليه عامة روايات أحمد )

وقال ابن أبي شيبة في الإيمان 22 : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، قال :
 جاء رجل إلى عبد الله فقال : إني لقيت ركبا فقلت : من أنتم ؟ قالوا : نحن المؤمنون.
 قال : فقال : ألا قالوا نحن من أهل الجنة .

وهذا إسناد صحيح وهذا إنكار من ابن مسعود على من يقول ( أنا مؤمن ) فكيف يقال أن ذلك يجوز أو مكروه فقط

بل قال عبد الرحمن بن مهدي ( أصل الإرجاء ترك الاستثناء )

قال الخلال في السنة 965: وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ عَلِيٍّ النَّسَائِيُّ بِحِمْصَ قَالَ : سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ مَنْصُورٍ , يَقُولُ : قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَا مُؤْمِنٌ ؟
 قُلْتُ : مَا أَعْلَمُ رَجُلاً أَثِقُ بِهِ . قَالَ : لَمْ تَقُلْ شَيْئًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَنَا.
966: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : هَلْ عَلَيَّ فِي هَذَا شَيْءٌ , إِنْ قُلْتُ : أَنَا مُؤْمِنٌ ؟ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لاَ تَقُلْ : أَنَا مُؤْمِنُ حَقًّا , وَلاَ الْبَتَّةَ , وَلاَ عِنْدَ اللَّهِ.
967: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : قِيلَ لِي مُؤْمِنٌ أَنْتَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ , عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ هَلْ النَّاسُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ ؟ فَغَضِبَ أَحْمَدُ , وَقَالَ : هَذَا كَلاَمُ الإِرْجَاءِ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ.
968: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , أَنَّ الْفَضْلَ حَدَّثَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ , وَزَادَ : {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}.
969: وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ الأَشْعَثُ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ , قَالَ يَحْيَى : وَكَانَ سُفْيَانُ يُنْكِرُ أَنْ يَقُولَ : أَنَا مُؤْمِنٌ . قَالَ سُلَيْمَانُ : وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ , حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ : قَالَ سُفْيَانُ :
 النَّاسُ عِنْدَنَا مُؤْمِنُونَ فِي الأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ , نَرْجُو أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ , وَلاَ نَدْرِي مَا حَالُنَا عِنْدَ اللَّهِ.

وهذه كلها أخبار صحيحة إلى الإمام أحمد فكيف يقال بعد ذلك أن الإنسان يجوز أن يقول ( أنا مؤمن ) والاستثناء مستحب فقط ، أو إذا كان الإنسان يقصد حاله الآن فإنه يجوز له ترك الاستثناء .
ويا ليت شعري هل يجوز أن يشهد أن حسناته الآن متقبلة إن هذا إلا قول المرجئة

قال الخلال في السنة 974: أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ , قَالَ : سَمِعْتُ إِسْحَاقَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ , قَالَ : الرَّجُلُ يَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا ؟ قَالَ : هُوَ كَافِرٌ حَقًّا.
975: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ , قَالَ : حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ , يَقُولُ : لاَ يُعْجِبُنَا أَنْ نَقُولَ : مُؤْمِنٌ حَقًّا , وَلاَ نُكَفِّرُ مَنْ قَالَهُ.

بل لما قال مسعر بترك الاستثناء مع قوله الإيمان قول وعمل  بدعوه ونسبوه إلى الإرجاء ، فجعله الخلال من المرجئة ، وكذا جعله ابن سعد مرجئاً وهجره الثوري

وقال أحمد ( أرجو ألا يكون مرجئاً ) ، وأحياناً قال ( هذا أسهل ) ولكنه نص على إرجائه في رواية ثابتة عنه

قال الخلال في السنة 994 : أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكَرْمَانِيُّ، قَالَ: قِيلَ لِأَحْمَدَ: مَا مَعْنَى حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، فَلَمْ يُجِبْ فِيهِ. قِيلَ: فَإِنَّ قَوْمًا، قَالُوا: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِثْلَنَا، فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: هَذَا تَفْسِيرُ مِسْعَرٍ وَعَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ، كَلَامُ الْمُرْجِئَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَبَلَغَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ فَأَنْكَرَهُ.
 وَقَالَ:  لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ أَكَانَ يَكُونُ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟

قال حرب في مسائله (3/1015) : وسمعت إسحاق أيضًا يقول: أول من تكلم بالإرجاء زعموا أن الحسن بن محمد بن الحنفية، ثم غلت المرجئة حتى صار من قولهم: إن قومًا يقولون: من ترك المكتوبات، صوم رمضان، والزكاة، والحج، وعامة الفرائض من غير جحود بها إنا لا نكفره يرجأ أمره إلى الله بعد إذ هو مقر فهؤلاء المرجئة الذين لا شك فيهم، ثم هم أصناف، منهم من يقول: نحن مؤمنون البتة، ولا يقول عند الله، ويرون الإيمان قولًا وعملًا، وهؤلاء أمثلهم، وقوم يقولون: الإيمان قول ويصدقه العمل، وليس العمل من الإيمان، ولكن العمل فريضة والإيمان هو القول، ويقولون: حسناتنا متقبلة، ونحن مؤمنون عند الله، وإيماننا وإيمان جبريل واحد. فهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث أنهم المرجئة التي لعنت على لسان الأنبياء.

قوله (فهؤلاء المرجئة الذين لا شك فيهم، ثم هم أصناف، منهم من يقول: نحن مؤمنون البتة، ولا يقول عند الله، ويرون الإيمان قولًا وعملًا، وهؤلاء أمثلهم) يريد به فرقة مسعر فصرح بأنهم مرجئة مع قولهم الإيمان قول وعمل لتركهم الاستثناء

وهنا تنبيه هام : القول بأن الاستثناء في الإيمان على جهة التبرك قول غير سليم ولو كان الأمر كذلك لما كان هناك خلاف حقيقي بيننا وبين المرجئة فإن الاسثتناء مأخذه التبرك لا الشك في كمال الإيمان

بمعنى أنك إذا قلت ( أنا مؤمن إن شاء الله ) وقصدت في الاستثناء التحقيق لا التعليق فقد وافقت قول ( أنا مؤمن حقاً ) في الحقيقة وإن خالفتهم في اللفظ

وإن كان مأخذ أهل السنة في الاستنثاء التبرك فقط لجاز أن يقول المرء ( أنا مسلم إن شاء الله ) وعامة أهل السنة يمنعون من ذلك وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( أومسلم ) يدل على أنه لا يستثنى في الإسلام ، ومثله في الدلالة على المقصود قوله تعالى : (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

وقد يكون التبرك مأخذاً تابعاً لا مأخذاً أصلياً فيقال ( يستثنى في الإيمان على العمل وتبركاً باسم الله ) أما جعله وحده المأخذ ففيه موافقة لقول المرجئة

وكذلك الاستثناء على الموافاة بمعنى ( لا أدري على ماذا أموت ) وهذا مأخذ الأشاعرة في استثنائهم لذا لم يكن مناقضاً لإرجائهم

ولو جاز الاستنثاء على الموافاة لجاز الاستثناء على الإسلام فتقول ( أنا مسلم إن شاء الله ) بمعنى لا أدري هل أموت على الإسلام أم لا

وقد وقع في كلام بعض أهل السنة كابن بطة ذكر الموافاة من مآخذ الاستنثاء تبعاً للمأخذ الأصلي لا جعله مأخذاً وحيداً كما يفعل الأشعرية الجهمية

وقول من يقول ( يجوز ترك الاستنثاء على ما مضى أو حكاية للإيمان الواقع ) فهذا قوله يوافق قول هؤلاء الذين يستثنون على الموافاة مع قولهم أنهم مؤمنون حقاً الآن

فإن قيل : قال البخاري في صحيحه 578 : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلَاةَ لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ

فسمتهن مؤمنات

وفي حديث الجارية ( اعتقها فإنها مؤمنة )

فالجواب : قد ورد خبر النبي صلى الله عليه وسلم في الإنكار على من أطلق تلك اللفظة ، ولفظة ( اعتقها فإنها مؤمنة ) قد يراد بها أنها مؤمنة في أحكام الدنيا فتجزي في العتق كما قال سفيان (النَّاسُ عِنْدَنَا مُؤْمِنُونَ فِي الأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ , نَرْجُو أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ , وَلاَ نَدْرِي مَا حَالُنَا عِنْدَ اللَّهِ)

وقد يقال هذا النبي صلى الله عليه وسلم علم الأمر بالوحي ، وقد شكك الإمام أحمد بصحة لفظة ( فإنها مؤمنة )

ولم يرد في شيء من النصوص إطلاق اسم ( مؤمن ) على الفاسق الملي فضلاً عن المبتدع بل السلف كانوا يهابون ذلك بل يمنعون منه في العدل فضلاً عن الفاسق

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/238) :" وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إسْلَامًا بِلَا إيمَانٍ فِي قَوْله تَعَالَى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا وَفِي رِوَايَةٍ قَسَمَ قَسْمًا وَتَرَكَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُعْطَهُ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إلَيَّ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما لَك عَنْ فُلَانٍ؟
 فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مُسْلِمًا.
 أَقُولُهَا ثَلَاثًا وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ} وَفِي رِوَايَةٍ: {فَضَرَبَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي وَقَالَ: أَقَتَّالٌ أَيْ سَعْدٌ} . فَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي نَفَى اللَّهُ عَنْ أَهْلِهِ دُخُولَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ هَلْ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ؟ أَمْ هُوَ مِنْ جِنْسِ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِين وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ؛ وَهُوَ قَوْل حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَقَائِقِ.
قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت هِشَامًا يَقُولُ: كَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ: مُؤْمِنٌ. وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الخزاعي قَالَ: قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: " الْإِيمَانُ " الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ وَالْعَمَلُ إلَّا أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا"

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 319) :" قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَاحْتَجُّوا بِإِنْكَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ .
فَقَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَجُلُّ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: {يَخْرُجُ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَإِنْ رَجَعَ رَجَعَ إلَيْهِ} وَبِمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ: مُؤْمِنٌ؛ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي جَعْفَرٍ الَّذِي حَدَّثَنَاهُ إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنْبَأَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ فضيل بْنِ بَشَّارٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} .
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هَذَا الْإِسْلَامُ وَدَوَّرَ دَارَةً وَاسِعَةً وَهَذَا الْإِيمَانُ وَدَوَّرَ دَارَةً صَغِيرَةً فِي وَسَطِ الْكَبِيرَةِ فَإِذَا زَنَى أَوْ سَرَقَ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العاص}.
 حَدَّثَنَا بِذَلِكَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ شريح بْنِ هَانِئٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجهني أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العاص} .
وَذَكَرَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَجَعَلَ
الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا. قَالَ: فَلَنَا فِي هَؤُلَاءِ أُسْوَةٌ وَبِهِمْ قُدْوَةٌ مَعَ مَا يَثْبُتُ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ اسْمَ الْمُؤْمِنِ اسْمَ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ وَمِدْحَةٍ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} وَقَالَ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} وَقَالَ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وَقَالَ: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} وَقَالَ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} وَقَالَ: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} "

قال شيخ الإسلام كما في أجوبة الاعتراضات المصرية ص143 :" ولهذا صحَّ عند السلف ومن اتبعهم أن يقال عن الفاسق الملّي: ليس بمؤمنٍ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يَسرِق السارقُ حين يَسرِق وهو مؤمن، ولا يشربُ الخمرَ حين يشربُها وهو مؤمن»، ولا يكون ذلك نفيًا لجميع أجزاء إيمانِه، فإن الإيمان عندهم وإن كان مؤلَّفًا من أمورٍ واجبةٍ، فإذا انتفَى بعضُها انتفَى الإيمانُ الواجبُ الذي به يَستحقُّ الجنَّةَ وينجو من النار، ولم يَنتفِ جميعُ أجزاء الإيمان، بل قد يبقى معه بعض أجزائه التي ينجو بها من النار بعد دخولها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه «يَخرجُ من النار من كان في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمان»"

فكيف يقال بعد هذا عن الأشاعرة الذين قولهم في العلو كفري ، وفي الكلام كفري ، وفي الإيمان كفري أنهم ( مسلمون مؤمنون ) لا شك أن هذا مخالف لمنهج السلف

بل كان السلف يشددون النكير على من لا يطلق إكفار الجهمية فكيف لو رأوا من يقول ( مسلمون مؤمنون ) والأشعرية جهمية جبرية مرجئة غلاة كما لا يخفى

وقال اللالكائي في السنة (4/370) :" سياق ما ذكر من كتاب الله وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين من بعدهم والعلماء الخالفين لهم في وجوب الاستثناء في الإيمان فأما الكتاب فقوله تعالى : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم  ، وقال تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله  ، وقال تعالى : فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى  والمؤمنون يكونون في الجنة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل المقبرة : « إنا إن شاء الله بكم لاحقون »"

فصرح بالوجوب

فإن قيل : بعض استدلالاته والتي سبقه إليها الإمام أحمد وغيره في أمور وقع فيها الاستثناء على التحقيق لا التعليق

فيقال : لعل ذلك من باب إتمام الحجة على المرجئة والاستدلال من باب أولى فيقال إذا كان الاستثناء يقع على التحقيق وفي الأمور الواقعة جزماً فكيف بالأمور غير المتحققة الوقوع

ولا أعلم في كلام السلف إطلاق كلمة ( مؤمن ) على الفاسق المعروف بفسقه أو المبتدع

قال الخلال في السنة 1259 : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ الْمَيْمُونِيُّ، قَالَ: ثنا ابْنُ حَنْبَلٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا الْعَوَّامُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " الْإِيمَانُ نَزِهٌ: إِنْ زَنَى فَارَقَهُ الْإِيمَانُ، فَإِنْ لَامَ نَفْسَهُ وَرَاجَعَ رَاجَعَهُ الْإِيمَانُ "

وهذا إسناد صحيح إلى أبي هريرة ، فخص معاودة الإيمان بمن تاب وراجع وليس معنى هذا تكفير الزاني بل معناه أنه يخرج من الإيمان ويبقى في الإسلام

وهنا مسألة هامة وهي أنه لا يصح عن أحد من السلف الاستثناء على الموافاة وأثر ابن مسعود في المسألة لا يدل على ذلك

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 417) :" وأنكر أحمد بن حنبل حديث ابن عميرة أن عبد الله رجع عن الاستثناء فإن ابن مسعود لما قيل له إن قوما يقولون إنا مؤمنون.
 فقال أفلا سألتوهم أفى الجنة هم وفى رواية أفلا قالوا نحن أهل الجنة وفى رواية قيل له إن هذا يزعم أنه مؤمن قال فاسألوه أفي الجنة هو أو في النار فسألوه فقال الله أعلم .
فقال له عبدالله فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية من قال أنا مؤمن فهو كافر ومن قال أنا عالم فهو جاهل ومن قال هو في الجنة فهو في النار يروي عن عمر بن الخطاب من وجوه مرسلا من حديث قتادة ونعيم ابن أبي هند وغيرهما
والسؤال الذي تورده المرجئة على ابن مسعود ويقولون أن يزيد بن عميرة أورده عليه حتى رجع جعل هذا أن الإنسان يعلم حاله الآن وما يدري ماذا يموت عليه ولهذا السؤال صار طائفة كثيرة يقولون المؤمن هو من سبق في علم الله أنه يختم له بالإيمان والكافر من سبق في علم الله أنه كافر وأنه لا اعتبار بما كان قبل ذلك وعلى هذا يجعلون الاستثناء وهذا أحد قولي الناس من أصحاب احمد وغيرهم وهو قول أبي الحسن وأصحابه
ولكن أحمد وغيره من السلف لم يكن هذا مقصودهم وإنما مقصودهم أن الإيمان المطلق يتضمن فعل المأمورات فقوله أنا مؤمن كقوله أنا ولي الله وأنا مؤمن تقي وأنا من الأبرارونحو ذلك وابن مسعود رضي الله عنه لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمنا وأن الإنسان لا يعلم على ماذا يموتفإن ابن مسعود أجل قدرا من هذا وإنما أراد سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال كأنه قال سلوه أيكون من أهل الجنة على هذه الحال فلما قال الله ورسوله أعلم قال أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية يقول هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفسك بفعل الواجبات وترك المحرمات فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد لنفسه أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك ولهذا صار الذين لا يرون الاستثناء لأجل الحال الحاضر بل للموافاة لا يقطعون بأن الله يقبل توبة تائب كما لا يقطعون بأن الله تعالى يعاقب مذنبا فإنهم لو قطعوا بقبول توبته لزمهم أن يقطعوا له الجنة وهم لا يقطعون لأحد من أهل القبلة لا بجنة ولا نار إلا من قطع له النص "
أقول : فكلام شيخ الإسلام يدل على كلام ابن مسعود ليس محمولاً على الموافاة ( وهي قولهم لا أدري على ماذا أموت ؟) ، وإنما هو محمول على حال المرء الآن فإنه إن شهد لنفسه أنه كامل الإيمان مقبول الحسنات مجانبٌ للسيئات ، كان شهادته هذه شهادةً لنفسه بالجنة .

وقال أيضاً (7/ 439) :" وأما الموافاة فما علمت أحدا من السلف علل بها الاستثناء ولكن كثير من المتأخرين يعلل بها من أصحاب الحديث من اصحاب احمد ومالك والشافعي وغيرهم كما يعلل بها نظارهم كأبي الحسن الأشعري واكثر أصحابه لكن ليس هذا قول سلف أصحاب الحديث "

وقال أيضاً :" فهؤلاء لما اشتهر عندهم عن أهل السنة أنهم يستثنون في الإيمان، ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا، فصاروا يحكون هذا عن السلف، وهذا القول لم يقل به أحد من السلف، ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم لما رأوا أن قولهم لا يتوجه إلاّ على هذا الأصل، وهم يدعون أن ما نصروه من أصل جهم في الإيمان، هو قول المحققين والنظار من أصحاب الحديث. ومثل هذا يوجد كثيرًا في مذاهب السلف التي خالفها بعض النظار، وأظهر حجته في ذلك ولم يعرف حقيقة قول السلف، فيقول من عرف حجة هؤلاء دون السلف، أو من يعظمهم، لما يراه من تميزهم عليه: هذا قول المحققين.
وقال المحققون: ويكون ذلك من الأقوال الباطلة، المخالفة للعقل مع الشرع، وهذا كثيرًا ما يوجد في كلام بعض المبتدعين وبعض الملحدين، ومن آتاه الله علمًا وإيمانًا، علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق، إلا ما هو دون تحقيق السلف لا في العلم ولا في العمل، ومن كان له خبرة بالنظريات والعقليات، وبالعمليات، علم أن مذهب الصحابة دائمًا أرجح من قول من بعدهم، وأنه لا يبتدع أحد قولاً في الإسلام إلا كان خطأ، وكان الصواب قد سبق إليه من قبله"

وقد ذكر شيخ الإسلام أن الإمام أحمد لم ينكر على من ترك الاستثناء والحق أن الإمام أحمد لم ينكر على من قال ( سؤالك إياي بدعة ولا أشك في إيماني ) وكان مراده ما في القلب ، غير أنه تقدم معنا إنكار أحمد على من قال ( أنا مؤمن ) فما بالك بمن يقول ( أنا مؤمن ) ويعلل تعليل المرجئة بأن الاستثناء على الموافاة وأنه يعني إيمانه الآن !

 قال الخلال: أخبرني أحمد بن أصرم المزني، أن أبا عبد الله قيل له: إذا سألني الرجل فقال: أمؤمن أنت؟ قال: سؤالك إياي بدعة، لا يشك في إيمانه، أو قال: لا نشك في إيماننا.
قال المزني: وحفظي أن أبا عبد الله قال: أقول كما قال طاوس: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.

فهذا الذي لا يستثني فيه أحمد وهو الإيمان المقيد بقوله ( آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله )

وهنا ينبغي التنبيه على أمر
وهو أن من قال بمقالة السلف لا بد أن يكون مأخذه مأخذهم ، فمن الناس من قال الإيمان قول وعمل ولكنه قال من قال فقد عمل وهذا قول شبابة ، وبدعه السلف وجعلوه مرجئاً

ومن الناس من قال بقول السلف في الاستثناء ولكن مأخذهم غير مأخذ السلف فقالوا بالاستثناء على الموافاة وهؤلاء الأشاعرة وهم مرجئة غلاة

ومن الناس من قال بزيادة الإيمان ونقصانه في القلب ولكن باعتبار النظر في الأدلة وهذا قول النووي ، وحقيقة هذا القول أنه لا يزيد بالعمل ففي هذا القول شعبة إرجاء

قال الخلال في السنة 1030: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ , قَالَ : حَدَّثَنَا صَالِحٌ , قَالَ : سَأَلْتُ أَبِي , مَا زِيَادَتُهُ وَنُقْصَانُهُ ؟ قَالَ : زِيَادَتُهُ الْعَمَلُ , وَنُقْصَانُهُ تَرْكُ الْعَمَلِ , مِثْلُ تَرْكِهِ الصَّلاَةَ , وَالزَّكَاةَ , وَالْحَجَّ , وَأَدَاءَ الْفَرَائِضِ , فَهَذَا يَنْقُصُ , وَيَزِيدُ بِالْعَمَلِ وَقَالَ : إِنْ كَانَ قَبْلَ زِيَادَتِهِ تَامًّا , فَكَيْفَ يَزِيدُ التَّامُّ , فَكَمَا يَزِيدُ كَذَا يَنْقُصُ , وَقَدْ كَانَ وَكِيعٌ قَالَ : تَرَى إِيمَانَ الْحَجَّاجِ مِثْلَ إِيمَانِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؟.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم