مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: مآخذ منهجية على الشيخ سعد الشثري ...

مآخذ منهجية على الشيخ سعد الشثري ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

 
جاء في جريدة الأنباء الكويتية بتاريخ 7مارس 2011 ( ولا أعرف التاريخ الهجري ) في لقاء مع الشيخ سعد الشثري

ما الطريقة المثلى لتحذير عوام الناس من الفتاوى الشاذة أو من العلماء الذين يعرفون بها، خاصة من الفتاوى التي يعم ضررها الأمة الإسلامية؟

فأجاب الشثري بقوله : الذي نشير اليه ألا تذكر أسماءهم بل تغفل، وإغفال مثل هؤلاء الأشخاص أولى ليموت ذكرهم، فلو ذكرناهم فسيعلو شأنهم عند الناس، وهناك كثير من أئمة الضلال في الزمان الأول كان لهم تأثير كبير في زمانهم وما بقي اسمهم إلا لأن أهل العلم تكلموا بأسمائهم، هل تعرف شخصا اسمه «حفص الفرد»؟
 ما نعرفه لولا أن الإمام الشافعي تكلم فيه لمات ذكره، ولولا أن عثمان بن سعيد رد على «بشر المريسي» لما عرفنا بشرا، كما ينبغي أن يكون التحذير من القول لا من القائل.
 فالناس عندهم عقول يعرفون بها الحق، وأنت إذا حذرت من القائل أصبح هناك تعصب له وتعصب ضده، فيكون الولاء والبراء في اسم هذا الشخص لا في اتباع الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قد يكون هذا التحذير من الأسباب المنفرة عن هذا المتكلم.
 فالناس سيرونك تتكلم في الآخرين، والنفوس تمج ولا تقبل التكلم في الآخرين أو العيب فيهم، وعلينا أن نعلم الناس على أنه لا يصح أن يرجح قول لأن فلان قاله، وإنما القاعدة الشرعية متابعة الدليل الشرعي كتابا وسنة، وعند اختلاف العلماء على العامي فإنه يرجح بينهما على حسب العلم والورع والأكثرية.انتهى


أقول : قوله (كما ينبغي أن يكون التحذير من القول لا من القائل) باطل ومخالف لمنهج السلف من وجوه

الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عين الخوارج وذكر حتى أوصافهم الخلقية

قال البخاري في صحيحه 3610 : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
 بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ فَقَالَ وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ وَهُوَ قِدْحُهُ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَهُ.

فهل الصحابة ليس عندهم عقول حتى يعين لهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأوصاف ؟

فإن قول الشثري ( الناس اليوم عندهم عقول فلا حاجة للتعيين )
فدل على مفهومه على أن الإيضاح بالتحذير من الأعيان إنما يكون للجهال وقليلي المعرفة ، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم قد أوضح حال الخوارج إيضاحاً لا يلتبس على أحد وكذلك أوضح في أحاديث الدجال
فإذا كان في زمن السلف يحتاجون إلى التعيين ، فالناس في زمننا أولى وأولى

الوجه الثاني : إجماع السلف على التحذير من أهل البدع بأعيانهم
قال شيخ الإسلام كما في مجموعة الرسائل والمسائل (5/110) : "ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل. فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبل الله ودينه ومناهجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء"
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (28/ 233) :" فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْذِيرِ مِنْ تِلْكَ الْبِدَعِ وَإِنْ اقْتَضَى ذَلِكَ ذِكْرَهُمْ وَتَعْيِينَهُمْ"
فانظر كيف نص شيخ الإسلام على وجوب تعيين أهل البدع خلافاً للشثري
قال العقيلي في الضعفاء الكبير (1/ 174) : حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال : سمعت أبي يقول : حدثنا أبو جعفر الحذاء ، قال : قلت لسفيان بن عيينة : إن هذا يتكلم في القدر ، أعني : إبراهيم بن أبي يحيى ، قال : عرف للناس بدعته ، واسألوا ربكم العافية.
وقال العقيلي في الضعفاء الكبير (6/ 272) : حدثنا محمد بن موسى قال : حدثنا عباس بن أبي طالب قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : سمعت حزما يقول : سمعت عاصما الأحول قال : كان قتادة يذكر عمرو بن عبيد ويقع فيه ، قال : فجثوت على ركبتي فقلت : يا أبا الخطاب ، وإذا الفقهاء يقع بعضها في بعض ، فقال : يا أحول ، رجل ابتدع بدعة فنذكر بدعته خير من أن نكف عنها
فتأمل قول قتادة (رجل ابتدع بدعة فنذكر بدعته خير من أن نكف عنها) وما فيه من الرد البليغ على الشثري
ونصوص السلف في هذا كثيرة ، وقد عينوا عامة أهل البدع ، وكتب الجرح والتعديل تعج بذلك وهم أعلم منا بالمصالح والمفاسد ولا شك ، وكثيرٌ من أهل البدع الذي عينوهم في عصرهم ، أقل خطراً من أهل البدع في عصرنا خصوصاً مع انتشار وسائل الإعلام اليوم
وإخماد ذكرهم لا يتم إلا بالتحذير منهم ، وتنفير الناس منهم وتحذيرهم

الثالث : أن في عدم تعيين أهل البدع تعطيل للأحكام المتفرعة على الحكم عليهم بالبدعة
كحكم الصلاة خلفهم ، والصلاة عليهم ، ومجالستهم ومناكحتهم والتحذير منهم وغيرها من الأحكام
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (10/ 376) :" على هذا فما أمر به آخر أهل السنة من إن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد ولا يروى عنه ولا يستفتى ولا يصلى خلفه قد يكون من هذا الباب فإن هجرة تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها وإن كان في نفس الأمر تائبا أو معذورا إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين أما ترك الذنوب المهجورة وأصحابها وأما عقوبة فاعلها ونكاله فأما هجرة بترك في غير هذا الموضع"

الرابع : قوله ( الناس عندهم عقول )
تزكية مبالغ لأهل العصر ، وإذا كان الناس في زمن السلف يحتاجون إلى تعيين كما ذكر هو نفسه أن الشافعي عين حفصاً الفرد ، والدارمي عين المريسي ، فالناس في زمننا أولى بذلك
قال البخاري في صحيحه 2652 : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ
قال البخاري في صحيحه 7068 : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ فَقَالَ اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال مسلم في صحيحه 289- [232-145] : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ ، جَمِيعًا عَنْ مَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ ، قَالَ ابْنُ عَبَّادٍ : حَدَّثَنَا مَرْوَانُ ، عَنْ يَزِيدَ ، يَعْنِي ابْنَ كَيْسَانَ ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ.
وقال البخاري في صحيحه 85 : حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ سَالِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْهَرْجُ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ

فهذه النصوص كلها تدل على أن العلم يتناقض مع مرور الزمن ، وهذا يجعل الحاجة إلى البيان والإيضاح أعظم ، لا العكس

قال ابن القيم في بدائع الفوائد (3/ 1280) : " إذا شك في الشاهد هل هو عدل أو لا لم يحكم بشهادته لأن الغالب في الناس عدم العدالة وقول من قال الأصل في الناس العدالة كلام مستدرك بل العدالة طارئة متجددة والأصل عدمها فإن خلاف العدالة مستندة جهل الإنسان وظلمه والإنسان خلق جهولا ظلوما فالمؤمن يكمل بالعلم والعدل وهما جماع الخير وغيره يبقى على الأصل أي فليس الأصل في الناس العدالة ولا الغالب"

فقوله ( الغالب في الناس عدم العدالة ) وهذا في عصره فيقال في عصرنا ( الأصل في الناس الجهل وعدم العلم ) وهذه الحال مقتضية للإيضاح والتعليم

الخامس : قد ثبت بالدليل جواز تعيين السني إذا أخطأ

فحديث ( كذب أبو السنابل ) معروف

وقال البخاري في صحيحه 2223 : حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ أَخْبَرَنِي طَاوُسٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا فَقَالَ قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا

وقال البخاري في صحيحه 122 : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفًا الْبَِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ فَقَالَ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر الحديث .

السادس : أن أهل البدع يختلفون من جهة الشهرة والخمول ، فمنهم من هو مشهورٌ جداً وفتاويه مشهورة ، وترك أهل السنة الرد عليه بعينه لا يفيده إلا مزيد اشتهار ، وما انتشر باطل قط إلا بتقاعس أهل الحق

وبما أنني تكلمت على الشثري فأود التنبيه على بعض الأمور في رسالته ( حقيقة الإيمان وبدع المرجئة في القديم والحديث )

قال في ص 19 :" من مقالات المرجئة أنه لا يكفر أحد بقول أو عمل وإنما التكفير بحسب ما في القلب "

هذا غلط على المرجئة فمرجئة الفقهاء من أشد الناس توسعاً في التكفير في الأعمال والأقوال هذا مع إرجائهم !

قال ابن القيم في بدائع الفوائد (3/1057) معرضاً بهم :" ومن العجب قولهم الإيمان نفس التصديق وهو لا يتفاضل والأعمال ليست منه وتكفيرهم من يقول مسيجد وفقيه ومن يلتذ بالسماع ويصلي بلا وضوء ونحو ذلك"



التنبيه الثاني : قال في ص20 :" ثم قال تعالى ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ) ، فدل على أن كفرهم ليس عن اعتقاد أو جهل أو بغض لدين أو نحو ذلك من الأمور القلبية ، بل إن الله حكم بكفرهم - مع علمهم بصحة الدين وحبهم له - بفعلهم لأمر مكفر تقديماً لأمور الدنيا على الآخرة ، وهذا إنما يحصل في الأعمال الظاهرة "

أقول : هذا مذهب الجهمية في تجويز وجود كفر عملي أكبر مع صلاح الباطن

قال البخاري في صحيحه 52 : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ

فكيف يظهر الكفر الأكبر اختياراً مع صلاح الباطن وسلامته من الأمور المكفرة ؟!

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 557): " فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله والتكلم بالتثليب وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفرا فى الباطن ولكنه دليل فى الظاهر على الكفر ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم فى الباطن عارفا بالله موحدا له مؤمنا به فاذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطنا وظاهرا قالوا هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك "

قلت: فتأمل كيف أن الجهمية يجوزون أن يوجد هذا الفعل الكفري مع الإيمان الباطن!
 وهذا هو قول الشثري

وقال شيخ الإسلام (7/ 557):" وأما الثاني فالقلب إذا كان معتقدا صدق الرسول وأنه رسول الله وكان محبا لرسول الله معظما له امتنع مع هذا أن يلعنه ويسبه فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الإستخفاف به وبحرمته فعلم بذلك أن مجرد إعتقاد أنه صادق لا يكون إيمانا إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب "

قلت: فتأمل كيف أن شيخ الإسلام جعل القول باجتماع الكفر العملي الكبر مع الإيمان القلبي الواجب من الممتنعات فلا بد من وجود تكذيب أو بغض أو استخفاف معها فتأمل !

وقال شيخ الإسلام في (7/ 644):" حتى آل الأمر بغلاتهم - كجهم وأتباعه - إلى أن قالوا: يمكن أن يصدق بقلبه ولا يظهر بلسانه إلا كلمة كلمة الكفر وقالوا حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول: فلكونه دليلاً على انتفاء ما في القلب وقولهم متناقض فإنه إذا كان ذلك دليلاً مستلزماً لانتفاء الذي في القلب امتنع أن يكون الإيمان ثابتاً في القلب "

قلت: تأمل هذا النص جيداً، الإيمان القلبي عند غلاة المرجئة محصور التصديق فإذا كان العمل عندهم دالاً على انتفاء ما في القلب فهو دال على التكذيب لانحصار الكفر في التكذيب عندهم لذلك التزم بعضهم أن إبليس واليهود كانوا مكذبين بقلوبهم وهذا القول مكابرة للنصوص بخلاف أهل السنة الذي يرون أن هذه الكفر قد يقع عن كبر أو بغض أو استخفاف

ويرون أنه كفرٌ ظاهراً وباطناً لأن الكفر الأكبر الظاهر يقع مع تحصل الشروط وانتفاء الموانع مع وجود الإيمان القلبي الواجب من تصديق ومحبة وتعظيم

وقال شيخ الإسلام في (7/ 582):" وبهذا يتبين فساد قول جهم والصالحي ومن اتبعهما في الإيمان كالأشعري في أشهر قوليه وأكثر أصحابه وطائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة كالماتردي ونحوه حيث جعلوه مجرد تصديق في القلب يتساوى فيه العباد، وأنه إما أن يعدم وإما أن يوجد لا يتبعض وأنه يمكن وجود الإيمان تاماً في القلب مع وجود التكلم بالكفر والسب لله ورسوله طوعاً من غير إكراه وأن ماعلم من الأقوال الظاهره أن صاحبه كافر فلأن ذلك مستلزم عدم التصديق في الباطن "

قلت: فانظر كيف أنهم يحصرون الكفر القلبي في عدم التصديق - وهو التكذيب - بخلاف أهل السنة الذين يجعلونه أنواع فيدخلون الإستخفاف والإستكبار وغيرها

فعلى الشيخ الشثري إعلان التوبة من هذا المذهب الرديء

وهذا الفصل من كتابه مليء بالتخبط في الاستدلالات

التنبيه الثالث قال في ص 22 :" ومن خطأ بعض المرجئة في هذه المسألة من المعاصرين أنهم يصفون المخالفين لهم بالخوارج والتكفيريين "

ثم ذكر أن السلف كفروا ببعض الأعمال كتعليم السحر وترك الصلاة

أقول : فليسم لنا الشيخ هؤلاء المرجئة ومن وصفوا بالخوارج والتكفيريين

وهل يوجد من هؤلاء من يقول ( من يكفر تارك الصلاة ومعلم السحر خارجي تكفيري ) هذا تهويل

التنبيه الرابع : قال في ص23 :" فإن قال قائل : أيهما أشد مذهب المرجئة الأوائل أم المرجئة المتأخرين ؟

قيل : قول المتأخرين أشد من قول المرجئة الأوائل من وجه ، لأن أولئك قالوا بأن الفعل والقول يكون علامة على الكفر بحيث يحكم عليه بالكفر لقوله وفعله في أحكام الدنيا دون أحكام الآخرة ، وأما المتأخرون فلم يحكموا بكفر "

أقول : ليسم لنا المتأخرون الذين لا يكفرون من سب الله ومن ألقى المصحف في القمامة ولا من ترك التلفظ بالشهادتين مع القدرة فصار شر من مرجئة الجهمية !

وهو مع ذلك يدخل العمل في مسمى الإيمان !

التنبيه الخامس : نقل في ص24 قول شيخ الإسلام :" وبهذا يظهر خطأ جهم ومن إتبعه فى زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع فى الآخرة فإن هذا ممتنع"

أقول : قد بتر أول كلام شيخ الإسلام الذي يبين مقصوده فشيخ الإسلام يعني التلفظ بالشهادتين فإن مذهب جهم أن من لم يتلفظ بالشهادتين مع القدرة ، وكان مصدقاً بقلبه فإن إيمانه بنفعه في الآخرة وإليك كلام شيخ الإسلام كاملاً بدون بتر

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/553) :" وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم إنتفاء الإيمان القلبى التام وبهذا يظهر خطأ جهم ومن إتبعه فى زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع فى الآخرة"

فتأمل كيف أن كلامه واضح فيمن لم يتلفظ بالشهادتين وهذا محل الخلاف مع الجهم ، ولو كان يتكلم على أعمال الجوارح لقال ( وبهذا يظهر خطأ الجهم ومرجئة الفقهاء ) فإن مرجئة الفقهاء يقولون بأن تارك أعمال الجوارح مؤمن كامل الإيمان فتخصيص جهم بالذكر يدل على أنه إنما يتكلم على مسألة التلفظ بالشهادتين

التنبيه السادس : قال الشثري في ص29 :" من مقالات المرجئة التوقف عن تكفير من لم يقع إجماع على تكفيره "

لا أعلم أحداً قبل الشثري ذكر هذا في مقالات المرجئة ، وهذه العبارة التي جعلها الشثري قولاً للمرجئة هي عبارة الإمام محمد بن عبد الوهاب

جاء في الدرر السنية (1/102) :" وسئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، عما يقاتل عليه؟ وعما يكفر الرجل به؟ فأجاب:
أركان الإسلام الخمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة، فالأربعة إذا أقر بها، وتركها تهاونا، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها. والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلا من غير جحود، ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو: الشهادتان.
وأيضا: نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر"

التنبيه السابع : قال في ص 59 :" من أقوال المرجئة أن نصوص الوعيد على الذنوب إنما سيقت للتخويف وأنه ما ثم عذاب على المسلمين أصلاً "

وهذا غلط على المرجئة عامتهم يناقضونه ، بل قال شيخ الإسلام أنه لا يعرف أحداً يقول بهذا القول

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/181) :" وَهَذَا قَدْ يَكُونُ قَوْلَ الْغَالِيَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ لَكِنْ مَا عَلِمْت مُعَيَّنًا أَحْكِي عَنْهُ هَذَا الْقَوْلَ وَإِنَّمَا النَّاسُ يَحْكُونَهُ فِي الْكُتُبِ وَلَا يُعَيِّنُونَ قَائِلَهُ وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ"

فلم ينسبه حتى للجهمية !

التنبيه الثامن : قال في ص 61 :" ومن بدع المرجئة جعل الإسلام جزءاً من الإيمان "

ما فهمت وجه المأخذ على المرجئة !

والمرجئة عندهم الإيمان لا يتجزأ كما ذكر هو نفسه بعدها بسطر !

فإن قصد بالإسلام الشرائع الظاهرة الواردة في حديث جبريل فلا شك أنها من الإيمان

وعلى هذه الرسالة مآخذ أخرى ، تركتها طلباً للاختصار
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي