مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: تنبيهات حول قاعدة ( ما حرم سداً للذريعة فإنه يباح للحاجة أو المصلحة الراجحة )

تنبيهات حول قاعدة ( ما حرم سداً للذريعة فإنه يباح للحاجة أو المصلحة الراجحة )



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :


فإن القواعد الفقهية محاولة من عدد من أهل العلم لضبط العشرات من الفروع الفقهية تحت معانٍ كلية ، وهي في أكثرها شرح للنصوص وليست محادة لما شرع الله ورسوله

فالقواعد الفقهية هي أقرب للقياس إذا لم تكن شرحاً للنصوص ، وأكثر ما يخطيء الناس في الرأي والقياس كما قال الإمام أحمد

وقد رأيت في معرض الكتاب أمراً أرعبني وهو كتاب اسمه ( فتح الدرائع ) ! ، فلما نظرت فيه وجدته جمع القواعد الفقهية التي فيها التيسير ورفع الحرج ، كقاعدة ( الأمر إذا ضاق اتسع ) وقاعدة ( ما حرم سداً للذريعة فإنه يباح للحاجة أو المصلحة الراجحة )

وهذه القواعد سليمة وصحيحة ، ولكن النظر إليها فقط دون النظر إلى القواعد الأخرى كقاعدة ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) و ( الضرر يزال ) وغيرها من القواعد يورث فقهاً غريباً كالذي يدعو إليه من يسمى ب( فقهاء التيسير ) وهم في الحقيقة ( فقهاء التمييع )

وهذا النوع من الفقه يتضمن القول بإلغاء سد الذرائع أو التضييق على هذا الفقه الجليل ، والنظر إلى المصالح دون النظر إلى المفاسد ، مع ضعف خبرة عامة المتكلمين فيه بالآثار السلفية وبطريقتهم في الإفتاء

وربما رأيت في فتاوى بعض أهل العلم موافقة لكلام هؤلاء في بعض المسائل فهذا لا يعدو كونه زلة عالم لا يتابع عليها ، ولا يقتدى به عليها ولكن الشأن فيمن اتخذ ذلك منهجاً أو تتبع زلات العلماء

وليعلم أنه من أخطر ما يتعرض له المتكلم في العلم الكلام في المصالح والمفاسد الذي صار اليوم كلأً مباحاً يتكلم فيه كل أحد

وتأتي الخطورة من كونك تخرج الحكم الشرعي عن سمته فتأتي لأمر أحله الله عز وجل أو استحبه أو أوجبه فتكرهه للمفسدة ، وتأتي لأمر حرمه الله ورسوله فتبيحه للمصلحة

فإنك إذا تعجلت وأخطأت في هذا الأمر فقد رددت على الله عز وجل أمره أو نهيه ، وهذا مهيع خطير كان يجتنبه الأئمة أشد الاجتناب

ولهذا حذر أهل العلم من أهل الرأي وشددوا النكير عليهم ، لمعارضتهم السنن بالرأي والتوسع في باب المصلحة من هذا الباب

وأمر المصلحة عند بعض الناس يشبه الاستحسان المنقول عن بعض أهل الرأي وذمه الشافعي ويقولون هو  ( أمرٌ ينقدح في نفس الفقيه ولا يحسن التعبير عنه )!

والناس في هذا الباب يغفلون عن أمرين مهمين وهما

الأول : أن الأصل فيما شرعه الله عز وجل أن مصلحته راجحة والأصل فيما نهى عنه الله عز وجل أن مفسدته راجحة

وأنت في كثير من الأوامر قد لا تدرك جميع المصالح المقترنة بالأمر ، وفي أمر النواهي قد لا تدرك جميع المفاسد المقترنة بالأمر وهذا يحدث عندك خلل في الموازنة بين المفاسد والمصالح إن كنت أهلا لذلك

وهذا أوقع الكثيرين في الغلط يفتي بإباحة بعض المحرمات بحجة المصلحة ، والمصلحة موجودة فعلاً ولكن المفاسد لا زالت راجحة عليها ، والعكس بالعكس

الثاني : أن ما قرره كثير من فقهاء الحديث كابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، أن النصوص وافية بمعظم حاجة المكلفين ، وأن توسع الناس بالقياس أغلبه إما فروع خيالية لا تكاد تقع أو أقيسة فاسدة الاعتبار ، وباب القياس ضيق وأكثر الأقيسة الصحيحة تجدها في كلام الأئمة من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين من أهل الحديث

ومثل هذا يقال في القواعد الفقهية فإن عامة أمثلتها الصحيحة وردت في النصوص بشكل جلي

وأنا لا أريد هنا إسقاط باب المصالح والمفاسد ، بل هذا باب عظيم جليل موجود ولكن القوم يتخذونه مطية لإباحة ما حرم الله أو العكس بجرأة عجيبة

ولكي لا يكون الأمر محض تنظير سأضرب مثلاً بقاعدة ( ما حرم سدا للذريعة فإنه يباح للحاجة أو المصلحة الراجحة ) هذا القاعدة السليمة التي يذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في باب النظر إلى المخطوبة ، وبيع العرايا والصلاة في أوقات النهي

توسع البعض فيها دون مراعاة لبقية القواعد الفقهية كقاعدة ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) ، ومع عدم تفريقه بين المصلحة المعتبرة وغير المعتبرة

وإليك مجموعة من الأمثلة ، تجلي لك أمر هذه القاعدة وأنها ليست على إطلاقها بل لا بد من مراعاة أمور أخرى

المثال الأول :
 قال مسلم في صحيحه 26- [26-18] حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مَنْ لَقِيَ الْوَفْدَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ ، قَالَ سَعِيدٌ : وَذَكَرَ قَتَادَةُ أَبَا نَضْرَةَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، فِي حَدِيثِهِ هَذَا : أَنَّ أُنَاسًا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : يَا نَبِيَّ اللهِ ، إِنَّا حَيٌّ مِنْ رَبِيعَةَ ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ ، وَلاَ نَقْدِرُ عَلَيْكَ إِلاَّ فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْمُرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا ، وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ إِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا بِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ : اعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ ، وَآتُوا الزَّكَاةَ ، وَصُومُوا رَمَضَانَ ، وَأَعْطُوا الْخُمُسَ مِنَ الْغَنَائِمِ ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنِ الدُّبَّاءِ ، وَالْحَنْتَمِ ، وَالْمُزَفَّتِ ، وَالنَّقِيرِ قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللهِ ، مَا عِلْمُكَ بِالنَّقِيرِ ؟ قَالَ : بَلَى ، جِذْعٌ تَنْقُرُونَهُ ، فَتَقْذِفُونَ فِيهِ مِنَ الْقُطَيْعَاءِ ، قَالَ سَعِيدٌ : أَوْ قَالَ : مِنَ التَّمْرِ ، ثُمَّ تَصُبُّونَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا سَكَنَ غَلَيَانُهُ شَرِبْتُمُوهُ ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَكُمْ ، أَوْ إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَضْرِبُ ابْنَ عَمِّهِ بِالسَّيْفِ قَالَ : وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ كَذَلِكَ قَالَ ، وَكُنْتُ أَخْبَؤُهَا حَيَاءً مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْتُ : فَفِيمَ نَشْرَبُ يَا رَسُولَ اللهِ ، ؟ قَالَ : فِي أَسْقِيَةِ الأَدَمِ الَّتِي يُلاَثُ عَلَى أَفْوَاهِهَا ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ أَرْضَنَا كَثِيرَةُ الْجِرْذَانِ ، وَلاَ تَبْقَى بِهَا أَسْقِيَةُ الأَدَمِ ، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ ، وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ ، وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ قَالَ : وَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ : إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ : الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ.

الشاهد من هذا الحديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ بالظروف ، مع أنه حرم سداً لذريعة السكر ، فذكروا له مصلحة أو مفسدة ظنوا رجوحها من استبدال هذه الظروف بأسقية الأدم ، من أن الجرذان تأكل أسقية الأدم
فأين قاعدة ( ما حرم سداً للذريعة فإنه يباح للحاجة ) ؟

فيقال : هنا روعي أمرٌ آخر وهو كون هؤلاء المكلفين حديثو عهد بالأشربة المسكرة ، وقد حصل لهم من شرب المسكر ضرر عظيم حتى ضرب الرجل ابن عمه بالسيف فروعي هذا المعنى ، أكثر من مجرد المصلحة فقط

ويعبر عن هذا المعنى بأن فقه سد الذريعة يقوى في أزمنة الفتن ، فمن هذا الباب الاختلاط في هذه الأزمنة التي شاهدنا فيها مفاسد هذا الأمر ، وانتشر التبرج والسفور وانتشرت العزوبة بسبب غلاء المهور وانتشر إعلام هدام فيأتي من لا يراعي هذه المعاني كلها ويقول ( ما حرم سداً للذريعة فإنه يباح للحاجة ) وهذا غلط فإن الحاجة لا بد أن ترجح فيه على المفاسد ، فإذا رجحت المفاسد كما هو الحال هنا عاد الحكم إلى سمته وقيل ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح )

وكذلك قيادة المرأة للسيارة يراعى فيها هذه المعاني وإن كان من أهل العلم من يفتي بإباحته اعتماداً على البراءة الأصلية ، وليس هذا مكان اعتبار البراءة الأصلية فكيف نقوي حديث ( ليس للنساء وسط الطريق ) ثم نقول للمرأة أن تقود السيارة وهذا لا يمكن تطبيقه مع قيادة المرأة للسيارة

وما كن الصحابيات لهن دواب يزاحمن بهن الرجال في الطرقات ، ومن زعم ذلك فعليه الدليل بل كان خروجهن قليل لأمر الصلاة وما شابه ذلك

ولا يقال ( النساء شقائق الرجال ) فإن في أمر الخروج الأصل أنهن لسن كالرجال

قال البخاري في صحيحه 899 : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ

فقوله ( ائذنوا للنساء ) يدل على أنهن لا بد لهن من الإذن للخروج ، فلسن كالرجال في هذا الباب أصالةً

وعائشة لما اعتمرت من التنعيم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معها أخوها عبد الرحمن ، واليوم النساء اللواتي يقدن السيارات يقطعن مسافات أكبر من هذه بكثير لوحدهن

قال البخاري في صحيحه 837 : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنْ انْصَرَفَ مِنْ الْقَوْمِ

فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يسد ذريعة اختلاط الرجال بالنساء عند الخروج من المسجد ، مع إذنه لهن بالخروج تفلات

فكيف بخروجهن في سيارات يزاحمن الرجال في الشوارع ؟!

المثال الثاني :
 قال الشافعي في الأم (3/ 435) : أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ مَنْبُوذِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله تعالى عنها فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا مَوْلاَةٌ لَهَا فَقَالَتْ لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ طُفْتُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَاسْتَلَمْتُ الرُّكْنَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا , فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ " لاَ أَجَرَك اللَّهُ لاَ أَجَرَك اللَّهُ تُدَافِعِينَ الرِّجَالَ ؟ أَلاَ كَبَّرْت وَمَرَرْت "

وقال البخاري في صحيحه 1618 :  وقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ قَالَ كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الرِّجَالِ قُلْتُ أَبَعْدَ الْحِجَابِ أَوْ قَبْلُ قَالَ إِي لَعَمْرِي لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الْحِجَابِ قُلْتُ كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ قَالَ لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَطُوفُ حَجْرَةً مِنْ الرِّجَالِ لَا تُخَالِطُهُمْ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ انْطَلِقِي نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ عَنْكِ وَأَبَتْ يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ بِاللَّيْلِ فَيَطُفْنَ مَعَ الرِّجَالِ وَلَكِنَّهُنَّ كُنَّ إِذَا دَخَلْنَ الْبَيْتَ قُمْنَ حَتَّى يَدْخُلْنَ وَأُخْرِجَ الرِّجَالُ وَكُنْتُ آتِي عَائِشَةَ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهِيَ مُجَاوِرَةٌ فِي جَوْفِ ثَبِيرٍ قُلْتُ وَمَا حِجَابُهَا قَالَ هِيَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ لَهَا غِشَاءٌ وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذَلِكَ وَرَأَيْتُ عَلَيْهَا دِرْعًا مُوَرَّدًا

أقول : فإن كان الاختلاط يجوز لحاجة لجاز لحاجة الطواف ، وعائشة أنكرت على مولاتها حرصها على الاستلام لما فيه من مدافعة الرجال ، هذا وهم في الحرم والنساء محتجبات ، والرجال في أداء عبادة

فكيف بالجامعات الاختلاطية التي تأتي فيها النساء على هيئة ما أحب وصفها ، على هيئة متكررة بشكل يومي وليس طوافاً عابراً وينتهي فتأمل هذا وأطل التأمل ؟

فإن قيل : هذه الفتاوى بإباحة الدراسة في الجامعات الاختلاطية إنما هي فتاوى لأعيان لا يجوز تعميمها

فيقال : هذا مردود بوجهين

أولها : أن عامة كلام المفتين في هذه المسائل ظاهره العموم

ثانيها : أن كثيراً من طلبة العلم لا يعلمون أنه لا يجوز تعميم الفتوى فضلاً عن العوام المخاطبين بهذه الفتاوى ، على أنها مع ذلك منتقدة

والعجيب أنه إذا جاء يبرر قوله أخذ يستدل ببعض فتاوى أهل العلم ويعممها !

وكثير من المفتين يفتي ويقول ( بحسب الضوابط الشرعية ) ولا يبينها فيقع العامي في حيرة

وهذا المثال لا ينقض القاعدة الأصلية ، وإنما روعي في هذا المثال أن تحصيل المراد ممكن بدون ارتكاب المحظور ، لذا في بيع العرايا من شروط بيع التمر بالرطب ، ألا يكون عند المشتري مال غير التمر

المثال الثالث :
 قال البخاري في صحيحه 869 : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قُلْتُ لِعَمْرَةَ أَوَمُنِعْنَ قَالَتْ نَعَمْ.

فهنا عائشة بفقهها العميق لاحظت تغير أحوال المكلفين ، وتذرعهم بالمباح إلى المحرم الصريح

وهذا ينبغي أن يلاحظه من يتكلم في الاختلاط أو سفر المرأة بدون محرم ، فإن الرجل أو المرأة قد يكون في نفسه غير مأمون الجانب وفيه ميل إلى المحظور فلا يمكن من ذلك

وسفر المرأة بدون محرم ليس فقط لحمايتها ، بل لمنعها أيضاً من إرادة الشر التي قد تقع في قلبها حال بعدها عن بلدها ، وهذا ما لم يراعه من يفتي بأمر الرفقة الآمنة ، والتفريق بين المرأة التي فيها نزوع إلى الشر والتي ليست كذلك أمر يعسر على المفتي بل ربما لا يتراءى لأهل البيت المرأة ما دامت في خدرها ، والشريعة جاءت بالأحكام العامة التي تضبط الناس

وقال البخاري في صحيحه 3006 : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ وَلَا تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا وَخَرَجَتْ امْرَأَتِي حَاجَّةً قَالَ اذْهَبْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ

ولا شك أنها كانت مع رفقة آمنة ومع ذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحق بها ، بل تحريم سفر المرأة بدون ذي محرم محرم سداً للذريعة ، ولو أبحناه لكل حاجة لعطلنا دلالة الحديث

وهذا يرشدك بأن لا تأتي لشاب أعزب الله أعلم بما أودع الله عز وجل فيه من شهوة الرجال ، وتفتيه بدخول جامعة اختلاطية لا يدرى من سيرى بها من النساء ، والرجال بطبعهم يميلون إلى النساء مع قوة في الجسد والنساء بطبعهن يملن إلى الرجال مع ضعف في الجسد

بل حتى مع عفة الجانب لا يؤمن على المرء من الوقوع في العشق ، وقد تكلم ابن القيم في روضة المحبين على مفاسد العشق كلاماً طويلاً

وإذا كان طائفة من أئمة السلف كسفيان وابن المبارك والفضيل كانوا ينهون عن الدخول على السلاطين خوفاً من الفتنة ، فكيف بدخول شاب في مقتبل العمر في مكان يعج بالشابات الصغيرات بشكل يتكرر يومياً

الافتاء بمثل هذا أقل ما يقال فيه أنه غير مسؤول وأن المفتي به ما راعى مقاصد الشريعة ومراميها

وإذا كنا سنبيح الولوغ في المحرمات وهذه المخاطر لطلب الرزق فما فائدة إيماننا بقوله تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) ؟

وما فائدة إيماننا بأن الرزق مكتوب ؟

والله عز وجل يقول ( الشيطان يعدكم الفقر )

وإنما وعدنا الفقر لنترخص في المحرمات خوفاً منه

قال ابن القيم في روضة المحبين ص445 :" الباب السابع والعشرون فيمن ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا أو أعاضهالله خيرا منه
عنوان هذا الباب وقاعدته أن من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه كما ترك يوسف الصديق عليه السلام امرأة العزيز لله واختار السجن على الفاحشة فعوضه الله أن مكنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء وأتته المرأة صاغرة سائلة راغبة في الوصل الحلال فتزوجها فلما دخل بها قال هذا خير مما كنت تريدين فتأمل كيف جزاه الله سبحانه وتعالى على ضيق السجن أن مكنه في الأرض ينزل منها حيث يشاء وأذل له العزيز امرأته وأقرت المرأة والنسوة ببراءته وهذه سنته تعالى في عباده قديما وحديثا إلى يوم القيامة ولما عقر سليمان بن داود عليهم السلام الخيل التي شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس سخر الله له الريح يسير على متنها حيث أراد ولما ترك المهاجرون ديارهم لله وأوطانهم التي هي أحب شيء إليهم أعاضهم الله أن فتح عليهم الدنيا وملكهم شرق الأرض وغربها ولو اتقى الله السارق وترك سرقة المال المعصوم لله لآتاه الله مثله حلالا قال الله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه إذا اتقاه بترك أخذ مالا يحل له رزقه الله من حيث لا يحتسب وكذلك الزاني لو ترك ركوب ذلك الفرج حراما لله لأثابه الله بركوبه أو ركوب ما هو خير منه حلالا"

وما ذكره من زواج يوسف بامرأة العزيز لا أعلمه ثابتاً

المثال الرابع :
 ما صح عن جماعة من السلف من تركهم الرواية عن داعية البدعة
قال شيخ الإسلام في الفتاوى مقرراً لهذا المعنى (10/ 376):" وكذلك يجوز قتال (البغاة) وهم الخارجون على الإمام أو غير الإمام بتأويل سائغ مع كونهم عدولا ومع كوننا ننفذ أحكام قضائهم ونسوغ ما قبضوه من جزية أو خراج أو غير ذلك إذ الصحابة لاخلاف فى بقائهم على العدالة أن التفسيق انتفى للتأويل السائغ وأما القتال فليؤدوا ما تركوه من الواجب وينتهوا عما ارتكبوه من المحرم وان كانوا متأولين
وكذلك نقيم الحد على من شرب النبيذ المختلف فيه وان كانوا قوما صالحين فتدبر كيف عوقب أقوام في الدنيا على ترك واجب أو فعل محرم بين في الدين أو الدنيا وان كانوا معذورين فيه لدفع ضرر فعلهم في الدنيا كما يقام الحد على من تاب بعد رفعه إلى الإمام وان كان قد تاب توبة نصوحا وكما يغزو هذا البيت جيش من الناس فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم وفيهم المكره فيحشرون على نياتهم وكما يقاتل جيوش الكفار وفيهم المكره كأهل بدر لما كان فيهم العباس وغيره وكما لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إلا بقتالهم فالعقوبات المشروعة والمقدورة قد تتناول في الدنيا من لا يستحقها في الآخرة وتكون في حقه من جملة المصائب كما قيل في بعضهم القاتل مجاهد والمقتول شهيد وعلى هذا فما أمر به آخر أهل السنة من إن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد ولا يروى عنه ولا يستفتى ولا يصلى خلفه قد يكون من هذا الباب فإن هجرة تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها وإن كان في نفس الأمر تائبا أو معذورا إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين أما ترك الذنوب المهجورة وأصحابها وأما عقوبة فاعلها ونكاله فأما هجرة بترك في غير هذا الموضع"

قلت: فانظر كيف صرح بوقوع العقوبة على داعية البدع وإن كان في نفسه متأولاً مراعاةً للمصلحة العامة في ترك الناس لبدعته

وقال ابن رجب شرح علل الترمذي ص 363:" والمانعون من الرواية لهم مأخذان:
أحدهما: تكفير أهل الأهواء أو تفسقيهم، وفيه خلاف مشهور.
والثاني: الإهانة لهم والهجران والعقوبة بترك الرواية عنه، وإن لم نحكم بكفرهم أو فسقهم.
ولهم مأخذ ثالث: وهو أن الهوى والبدعة لا يؤمن معه الكذب، ولاسيما إذا كانت الرواية مما تعضد هوى الراوي "

أقول: فتأمل كيف حكى إيقاع العقوبة عليهم مع عدم تكفيرهم وتفسيقهم

فلماذا لم يقل ( الأخذ عن أهل البدع محرم سداً للذريعة وما حرم سداً للذريعة يباح للحاجة ) ؟

فالجواب : أن المصلحة في إخماد ذكرهم خصوصاً إذا كانوا دعاة أرجح من مصلحة الرواية عنهم

قال الخطيب في الكفاية(1/160) أخبرنا أبو بكر احمد بن عمر بن أحمد الدلال قال ثنا جعفر بن محمد بن نصير الخلدي املاء قال ثنا عبد الله بن الصقر السكري قال ثنا إبراهيم بن المنذر قال ثنا معن ومحمد بن صدقة أحدهما أو كلاهما قال سمعت مالك بن أنس يقول :"لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ ممن سوى ذلك لا يؤخذ من رجل صاحب هوى يدعو الناس الى هواه ولا من سفيه معلن بالسفه وإن كان من أروى الناس ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس وان كنت لا تتهمه ان يكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة لا يعرف ما يحدث "

قلت : تأمل نهي الإمام مالك عن الكتابة عن المبتدع الداعية مطلقاً سواءً كان ثقةً أو غير ثقة سواءً كان فقيهاً أو غير فقيه ، فلا يقال هذا حرم سداً للذريعة فيباح للحاجة

قال ابن حجر  في هدي الساري ص358 :" مال أبو الفتح القشيري إلى تفصيل آخر فيه فقال إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه هو اخماد لبدعته واطفاء لناره وأن لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث الا عنده مع ما وصفنا من صدقه وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالدين وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة اهانته وإطفاء بدعته والله أعلم "

فهذا معناه أن المبتدع لا يكتب عنه إلا للضرورة

قال ابن حبان في الثقات :" شداد بن حكيم البلخي أبو عثمان يروى عن زفر بن الهذيل روى عنه البلخيون وكان مرجئا مستقيم الحديث إذا روى عن الثقات غير أنى أحب مجانبة حديثه لتعصبه في الارجاء وبغضه من انتحل السنن أو طلبها "

قلت : انظر كيف مال ابن حبان إلى ترك الرواية عنه مع استقامة حديثه حرصاً على إخماد ذكره

وجاء في ترجمة شبابة بن سوار من تهذيب التهذيب :" قال أحمد بن حنبل تركته لم اكتب عنه للإرجاء قيل له يا أبا عبد الله وأبو معاوية قال شبابة كان داعية "

وجاء في ترجمة الحسن بن صالح بن حي في الضعفاء الكبير و تهذيب التهذيب :" أن زائدة بن قدامة كان يستتيب من يذهب للحسن بن صالح "

قلت : والحسن بن صالح بن حي كان ثقةً ثبتاً فقيهاً يقارن بسفيان في الفقه والورع

قال العقيلي في ترجمة حماد بن أبي سليمان من الضعفاء الكبير (1/303) :" حدثنا محمد بن مسلم بن وارة قال سمعت عبيد الله بن موسى يقول سمعت سفيان يقول ما كنا نأتي حماد إلا خفية من أصحابنا وقال شريك ترونى لم أدرك حمادا كنت أختلف إلى الضحاك أربعةأشهر وكنت أدعه خوفا من أصحابنا وقال إسرائيل لم يكن يمنعني منه إلا فرقا من أبى إسحاق "

قال العقيلي (4/444) :" حدثنا عبد الله بن أحمد قال سألت أبي عن أسد بن عمرو وأبو يوسف فقال أصحاب أبي حنيفة لا ينبغي أن يروى عنهم "

قلت : الله أكبر !

و قال أبو جعفر العقيلى : قلت لعبد الله بن أحمد بن حنبل : لم لم تكتب عن على ابن الجعد ؟ فقال : نهانى أبى أن أذهب إليه ، و كان يبلغه عنه أنه يتناول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وعلي بن الجعد هذا ثقة ثبت جداً ! ، وفيه قبول أخبار الثقات في الجرح

وقال المزي في تهذيب الكمال في ترجمة علي بن أبي هاشم :" و كتب عنه أبو حاتم ، و لم يحدث عنه لأنه كان يتوقف فى القرآن ، و قال : ما علمته إلا صدوقا ، ترك الناس حديثه لأنه كان يتوقف فى القرآن "

تأمل قوله ( ترك الناس ) وما فيه من أن هذا المنهج كان سائداً

قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (1/62) :" وهذا القول الثالث هو الغالب على أهل الحديث لا يرون الرواية عن الداعية إلى البدع ولا شهادته ولهذا لم يكن في كتبهم الأمهات كالصحاح والسنن والمسانيد الرواية عن المشهورين بالدعاء إلى البدع وإن كان فيها الرواية عمن فيه نوع من بدعة كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية وذلك لأنهم لم يدعوا الرواية عن هؤلاء للفسق كما يظنه بعضهم ولكن من أظهر بدعته وجب الإنكار عليه بخلاف من أخفاها وكتمها وإذا وجب الإنكار عليه كان من ذلك أن يهجر حتى ينتهي عن إظهار بدعته ومن هجره أن لا يؤخذ عنه العلم ولا يستشهد "

وهذا الكلام غاية في التحقيق


وقد كرهوا نقل الحق عنهم ، وهي رواية الحديث مراعاة لمصلحة إخماد ذكرهم وعدم علو بدعهم بعلو اسمهم

فقارن هذا اليوم بحال من يبيح للشباب الدراسة عند المخالفين ، والناس اليوم لا يأخذون رواية بل يأخذون رأياً ، والرأي أخطر بكثير من الرواية بل الرواية عن الثقات وإن كانوا أهل بدع لا خطر فيها ، ومع ذلك كرهوا الرواية عنهم

وقارن هذا بحال من يضع ( ضوابط لهجر المبتدع ) وكأن الأصل مخالطته !

ولماذا لا يعكس الأمر فيقال ( ضوابط مخالطة المبتدع ) فيقال مثلاً :
1- ألا يكون داعية وصاحب شبهات
2- أن يكون السلفي المخالط ذا علم يدعو به هذا المخالف
3- أن تقدر هذه الخلطة بقدرها لأن الضرورة تقدر بقدرها
4- ألا يغتر الناس بهذه الخلطة فيتبعوا المبتدع

فإن لم تتوفر هذه الشروط رجع الأمر إلى الأصل وهو الهجر الذي أجمع عليه السلف

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (15/ 324) :" وَهَكَذَا السُّنَّةُ فِي مُقَارِنَةِ الظَّالِمِينَ وَالزُّنَاةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يُقَارِنَهُمْ وَلَا يُخَالِطَهُمْ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَسْلَمُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا لِظُلْمِهِمْ مَاقِتًا لَهُمْ شَانِئًا مَا هُمْ فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} الْآيَةُ
وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ وَعَمَلِهِ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِ مِصْرَ لِقَوْمِ كُفَّارٍ. وَذَلِكَ أَنَّ مُقَارَنَةَ الْفُجَّارِ إنَّمَا يَفْعَلُهَا الْمُؤْمِنُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا عَلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى مَفْسَدَةِ الْمُقَارَنَةِ أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي تَرْكِهَا مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ فِي دِينِهِ فَيَدْفَعُ أَعْظَمَ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا وَتَحْصُلُ الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ بِاحْتِمَالِ الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ"

فهنا ابن تيمية يضع ضوابط للمقارنة والمصاحبة فلماذا لا يتم نقل هذا الكلام في كثير من الأبحاث التي تتحدث عن هذا الأمر

والعجيب أن كثيراً من الناس إذا سمع ( الهجر مرتبط بالمصلحة ) ، فهم أنه يذهب ويخالط ودائماً المصلحة تقتضي المخالطة !

وهنا ابن تيمية يقول ( المخالطة مرتبطة بالمصلحة ) فهل يعني هذا أن الأصل هو الهجر !
نعم هذا الذي يريده

وبعض الناس أسقط أحكام السلف بحيلة خسيسة فتراه يقول ( التبديع للعلماء ) ثم يعامل أهل التحزب على أنهم أهل السنة بناءً على أن ( التبديع للعلماء ) والأصل في الناس العدالة ! وصغار المتحزبة لا يعرفهم العلماء ليبدعوهم !

فينفذ إلينا الكبار عن طريق الصغار ويهدم المنهج !

ولا زال أئمة السلف يقولون ( إذا رأيت يحب فلان فاعلم أنه صاحب سنة ) و ( إذا رأيت الرجل يحب فلان فاعلم أنه صاحب بدعة )



جعلوا هذه العلامة الواضحة البينة ليميز العوام وصغار الطلبة السني من المبتدع ، وقولهم ( فاعلم ) لكي يعمل بما يعلم فيعامل كلاً بما يستحق

قال البربهاري في شرح السنة :" 112 :  وإذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة وأنس بن مالك وأسيد بن حضير فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله وإذا رأيت الرجل يحب أيوبا وابن عون ويونس بن عبيد وعبد الله بن ادريس الأودي والشعبي ومالك بن مغول ويزيد بن زريع ومعاذ بن معاذ ووهب بن جرير وحماد بن زيد وحماد بن سلمة ومالك بن أنس والأوزاعي وزائدة بن قدامة فاعلم أنه صاحب سنة وإذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل والحجاج بن المنهال وأحمد بن نصر وذكرهم بخير وقال قولهم فاعلم أنه صاحب سنة"

ونصوص السلف في هذا كثيرة جداً

 نعم قد يقع من السني مدح لبعض المخالفين ولا يكون قادحاً فيه لأنه يكون من اغترار أو تساهل أو مدح مقيد في سياق معين ولكن يكون السني قد أظهر مخالفة هذا الشخص في عقيدته عن طريق تقرير عقيدة خلاف عقيدته فمثل هذا لم يكن السلف يسقطونه بمدحه للمخالف 

فهذا ما أردت بيانه في هذه المسائل التي قد تشكل على البعض 
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي