الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
سئل ناصر العقل في شرحه للطحاوية السؤال:كيف يبدع الإمام أحمد الكرابيسي
ونترحم عليه؟
الجواب: هذه المعضلة قد ترد كثيراً عندما نتأمل أمور السلف، وعلى أي حال
فنحن عندنا موازين شرعية عن السلف أنفسهم
هذه الموازين هي أن نزن الرجال
بمجموع أعمالهم وأقوالهم، وبما مات عليه الشخص منهم، فالمعاصرون للشخص الذي تكلم ببدعة
قد يكون لهم منه موقف شديد وصعب
كموقف الإمام أحمد من بعض السلف
الذين قالوا ببدع جزئية، وكذلك غير الإمام أحمد من الأئمة الذين وقفوا موقفاً فيه نوع
من الهجر أو السب أو التحذير من الشخص، فهذا المقصود بذلك سد الذرائع
والمقصود به محاصرة البدعة لئلا
تنتشر، خاصة إذا خرجت من شخص ينسب للسنة، فكانوا يشددون عليه ويهجرونه إذا أصر على
قوله
لكن لا يعني هذا بالضرورة أنهم
يكفرونه أو أنهم يحجرون على الآخرين أن يكون لهم رأي آخر فيه، فلو قرأتم -مثلاً- أقوال
المترجمين للرجال -كـالذهبي وغيره- لوجدتم أنهم يحكمون على مثل هؤلاء الذين تكلم عنهم
السلف وهم ليسوا من أصحاب البدع الأصليين بتوازن
فينقلون ما قال فيهم النقاد وما
قال فيهم المزكون، ثم يخرجون بنتيجة، فنحن لا نلغي موقف الإمام أحمد رحمه الله، لكننا
نفسره
ولا شك في أن الكرابيسي ليس بصاحب
بدعة مغلظة في غير هذه المسألة التي جرت بينه وبين الإمام أحمد ، وهي قوله: لفظي بالقرآن
مخلوق، فهو في بقية أمور السنة يعتبر من أنصار السنة ومن الذين نافحوا عن السنة ودافعوا
عنها وقرروها وكتبوا فيها
إلا في هذه المسألة، فالإمام أحمد
معذور في وقفته ضده فيها خشية أن تنتشر فتفضي إلى القول بأن القرآن مخلوق إذا تساهل
الإمام أحمد فيها وفيمن قالها.
فهذه المواقف مواقف فردية جزئية، لا تلغي اعتبار الشخص في الجوانب الأخرى،
وأمثالها في التاريخ كثير عند أئمة السلف ورواة الحديث وأئمة الهدى، خاصة في المتعاصرين
والأقران، حيث يحدث بينهم من الكلام ما يكون لهم عذر فيه لكونه لحماية الدين وسد الذريعة،
وهذا يحدث في كل زمان، فوطنوا أنفسكم على حدوث مثله في زمانكم."
أقول : ظاهر كلامه أن اللفظية ليسوا من أهل البدع الغلظة وأنهم من أهل
السنة
والجواب على ذلك من وجوه:
أولها : أن هذا خلاف إجماع أهل السنة؛ قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان
في عقيدتهما :" من قال لفظي في القرآن مخلوق فهو جهمي أو القرآن بلفظي مخلوق فهو
جهمي"
والجهمي ليس من أهل السنة بالجملة
، ولا من أصحاب البدع الخفيفة.
قال اللالكائي في السنة 287 : ووجدت في بعض كتب أبي حاتم محمد بن إدريس
بن المنذر الحنظلي الرازي رحمه الله مما سمع منه ، يقول :
مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ومن بعدهم بإحسان ، وترك النظر في موضع بدعهم
، والتمسك بمذهب أهل الأثر مثل أبي عبد الله أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن إبراهيم ، وأبي
عبيد القاسم بن سلام ، والشافعي .
ولزوم الكتاب والسنة ، والذب عن الأئمة المتبعة لآثار السلف
واختيار ما اختاره أهل السنة من
الأئمة في الأمصار مثل : مالك بن أنس في المدينة ، والأوزاعي بالشام ، والليث بن سعد
بمصر ، وسفيان الثوري ، وحماد بن زياد بالعراق من الحوادث مما لا يوجد فيه رواية عن
النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين .
وترك رأي الملبسين المموهين المزخرفين
الممخرقين الكذابين ، وترك النظر في كتب الكرابيسي ، ومجانبة من يناضل عنه من أصحابه
وشاجر فيه مثل داود الأصبهاني وأشكاله ومتبعيه .
والقرآن كلام الله وعلمه وأسماؤه وصفاته وأمره ونهيه ، ليس بمخلوق بجهة
من الجهات .
ومن زعم أنه مخلوق مجعول فهو كافر
بالله كفرا ينقل عن الملة ، ومن شك في كفره
ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر . والواقفة واللفظية جهمية ، جهمهم أبو عبد الله أحمد بن
حنبل .
والاتباع للأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين
بعدهم بإحسان . وترك كلام المتكلمين ، وترك مجالستهم وهجرانهم ، وترك مجالسة من وضع
الكتب بالرأي بلا آثار."
فتأمل نقله الاتفاق على تبديع الكرابيسي ، وتجهيم اللفظية.
وقال الآجري في الشريعة :" احذروا رحمكم الله هؤلاء الذين يقولون
: إن لفظه بالقرآن مخلوق ، وهذا عند أحمد بن حنبل ، ومن كان على طريقته منكر عظيم
وقائل هذا مبتدع ، خبيث ولا يكلم
، ولا يجالس ، ويحذر منه الناس ، لا يعرف العلماء غير ما تقدم ذكرنا له ، وهو أن القرآن
كلام الله غير مخلوق ، ومن قال مخلوق ، فقد كفر
ومن قال : القرآن كلام الله ووقف
فهو جهمي ، ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي أيضا
كذا قال أحمد بن حنبل ، وغلظ فيه
القول جدا".
وقال الطبري في صريح السنة :" وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن
، فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى ، ولا تابعي قضى ، إلا عمن في قوله الغناء والشفاء
رحمة الله عليه ورضوانه ، وفي اتباعه الرشد والهدى ، ومن يقوم قوله لدينا مقام قول
الأئمة الأولى : أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه فإن أبا إسماعيل الترمذي
حدثني قال : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : « اللفظية جهمية ؛ لقول الله جل
اسمه : ( حتى يسمع كلام الله () ، فممن يسمع » . ثم سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ
أسماءهم يذكرون عنه أنه كان يقول : « من قال : لفظي بالقرآن مخلوق ، فهو جهمي ، ومن
قال : هو غير مخلوق ، فهو مبتدع».
وقال شيخ الإسلام كما في مجموعة الرسائل والمسائل (3/125) :" ويدخلون
في ذلك القرآن الملفوظ المتلو المسموع فأنكر الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة هذا وقالوا:
اللفظية جهمية
وقالوا: افترقت الجهمية ثلاث فرق:
فرقة قالت القرآن مخلوق، وفرقة قالت: نقف فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، وفرقة قالت:
تلاوة القرآن واللفظ بالقرآن مخلوق
فلما انتشر ذلك عن أهل السنة غلطت
طائفة فقالت: لفظنا بالقرآن غير مخلوق وتلاوتنا له غير مخلوقة.
فبدع الإمام أحمد هؤلاء وأمر بهجرهم
ولهذا ذكر الأشعري في مقالاته
هذا عن أهل السنة وأصحاب الحديث فقال: والقول باللفظ والوقف عندهم بدعة: من قال اللفظ
بالقرآن مخلوق فهو مبتدع عندهم ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع".
فها أنت ترى تتابع العلماء على موافقة الإمام أحمد فيما ولم يتحاذقوا عليه
تحاذق العقل.
قال الذهبي في تاريخ الإسلام (4/ 376) :" وقال المروذي في كتاب القصص:
عزم حسن بن البزاز، وأبو نصر بن عبد المجيد، وغيرهما على أن يجيئوا بكتاب المدلسين
الذي وضعه الكرابيسي يطعن فيه على الأعمش، وسليمان التيمي. فمضيت إليه في سنة أربع
وثلاثين فقلت: إن كتابك يريد قوم أن يعرضوه على عبد الله، فأظهر أنك قد ندمت عليه.
فقال: إن أبا عبد الله رجل صالح، مثله يوفق لإصابة الحق. قد رضيت أن يعرض
عليه. لقد سألني أبو ثور أن أمحوه، فأبيت.
فجيء بالكتاب إلى عبد الله، وهو لا يعلم لمن هو، فعلموا على مستبشعات من
الكتاب، وموضع فيه وضع على الأعمش، وفيه: إن زعمتم أن الحسن بن صالح كان يرى السيف
فهذا ابن الزبير قد خرج.
فقال أبو عبد الله: هذا أراد نصرة الحسن بن صالح، فوضع على أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وقد جمع للروافض أحاديث في هذا الكتاب.
فقال أبو نصر: إن فتياننا يختلفون إلى صاحب هذا الكتاب.
فقال: حذروا عنه.
ثم انكشف أمره، فبلغ الكرابيسي، فبلغني أنه قال: سمعت حسينا الصايغ يقول:
قال الكرابيسي: لأقولن مقالة حتى يقول أحمد بن حنبل بخلافها فيكفر، فقال: لفظي بالقرآن
مخلوق.
فقلت لأبي عبد الله: إن الكرابيسي قال: لفظي بالقرآن مخلوق. وقال أيضا:
أقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق من كل الجهات، إلا أن لفظي بالقرآن مخلوق. ومن
لم يقل إن لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر.
فقال أبو عبد الله: بل هو الكافر، قاتله الله، وأي شيء قالت الجهمية إلا
هذا؟
قالوا كلام الله، ثم قالوا: مخلوق. وما ينفعه وقد نقض كلامه إلا خير كلامه
الأول حين قال: لفظي بالقرآن مخلوق.
ثم قال أحمد: ما كان الله ليدعه وهو يقصد إلى التابعين مثل سليمان الأعمش،
وغيره، يتكلم فيهم. مات بشر المريسي، وخلفه حسين الكرابيسي.
ثم قال: أيش خبر ابي ثور؟ وافقه على هذا؟ قلت: قد هجره.
قال: قد أحسن.
قلت: إني سألت أبا ثور عمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: مبتدع.
فغضب أبو عبد الله وقال: أيش مبتدع؟! هذا كلام جهم بعينه. ليس يفلح أصحاب
الكلام.
وقال عبد الله بن حنبل: سئل أبي وأنا أسمع عن اللفظية والواقفة فقال: من
كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي".
فالإمام أحمد ينكر على أبي ثور قوله في اللفظي ( مبتدع ) فكيف لو رأى العقل
الذي يقول (سني).
الثاني : أن الإمام أحمد قد كفر الكرابيسي ولم يبدعه فقط
قال ابن عبد الهادي في بحر الدم
:" قال المروذي: قلت لابي عبد الله: إن الكرابيسي يقول: من لم يقل: لفظه بالقرآن
مخلوق فهو كافر، فقال: بل هو كافر، وقال: مات بشر المريسي وخلفه حسين الكرابيسي
وقال لي: هذا قد تجهم وأظهر الجهمية،
ينبغي أن يحذر عنه وعن كل من ابتعد"
فكيف تكون بدعته غير مغلظة والإمام
أحمد يصفه بأنه وقع في الكفر.
الثالث : أن السلف إذا اشتدوا في النكير على مبتدع ، وجب علينا أن نتابعهم
، ولا نقول هذا مختص بعصرهم فإن البدع لا تموت بموت أصحابها، وما ينبغي أن يجعل المتأخر
حاكماً على السلف.
الرابع : أن الإمام أحمد قد حذر ممن يجالس الكرابيسي ، فجعله محنة فكيف
يجعله محنة وبدعته غير مغلظة
قال الخطيب في تاريخ بغداد
(8/611) : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَر بن بكير الْمُقْرِئ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
حمزة بن أَحْمَدَ بْنِ مخلد الْقَطَّان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد
بن الْحَسَن بن هَارُون الموصلي
قَالَ: سألت أبا عَبْد اللَّهِ
أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بْنِ حنبل، فقلت: يا أبا عَبْد اللَّهِ أنا رجل من أهل الموصل
والغالب عَلَى أهل بلدنا الجهمية، وفيهم أهل سنة نفر يسير يحبونك، وقد وقعت مسألة الكرابيسي
نطقي بالقرآن مخلوق؟
فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إياك إياك وهذا الكرابيسي لا تكلمه
ولا تكلم من يكلمه، أربع مرات أو خمس مرات؛ وهذا إسناد صحيح.
الخامس : أن الإمام أحمد قد بدع الكرابيسي أيضاً لدفاعه عمن يرى السيف
قال ابن رجب في شرح علل الحديث
(2/337) : "وقد تسلط كثير ممن يطعن في أهل الحديث عليهم بذكر شئ من هذه العلل
. وكان مقصوده بذلك الطعن في الحديث جملة والتشكيك فيه .
أو الطعن في غير حديث أهل الحجاز ، كما فعله حسين الكرابيسي في كتابه الذي
سماه بكتاب المدلسين ، وقد ذكر كتابه هذا للإمام أحمد فذمه ذماً شديداً، وكذلك أنكره
عليه أبو ثور وغيره من العلماء.
قال المروزي : (( مضيت إلى الكرابيسي وهو إذ ذاك مستور يذب عن السنة ويظهر
أبي عبد الله
فقلت له : إن كتاب المدلسين يريدون
أن يعرضوه على أبي عبد الله ، فأظهر أنك قد ندمت حتى أخبر أبا عبد الله . فقال لي
: (( عن أبا عبد الله رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق ، وقد رضيت أن يعرض كتابي عليه
، وقال : قد سألني أبو ثور وابن عقيل وحبيش أن أضرب على هذا الكتاب فأبيت عليهم وقلت
بل أزيد فيه ، ولج في ذلك وأبى أن يرجع عنه .
فجئ بالكتاب إلى أبي عبد الله وهو لا يدري من وضع الكتاب ، وكان في الكتاب
الطعن على الأعمش والنصرة للحسن بن صالح.
وكان في الكتاب : (( إن قلت إن الحسن بن صالح كان يرى رأي الخوارج فهذا
ابن الزبير قد خرج))، فلما قرئ على أبي عبد الله قال : ((هذا قد جمع للمخالفين مالم
يحسنوا أن يحتجوا به ، حذروا عن هذا)) ونهى عنه؛ وهذا كصنيع العقل وإخوانه في الذب
عن القطبيين عن رؤوس القطبيين.
والخلاصة أن قول العقل بأن بدعة اللفظية ليست من البدع المغلظة ، وأن أهلها
من أهل السنة، قولٌ مخترع محدث مخالف لما كان عليه الجماعة من السلف.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم