مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: براءة أهل الحديث من افتراءات أهل الزيغ

براءة أهل الحديث من افتراءات أهل الزيغ



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

                          
فقد كنت مقالاً بعنوان ( الإمام أحمد وحمل المجمل على المفصل في كلام الناس ) ، فانبرى أحد المقتاتين على الفتن ممن لا يحسن الكلام إلا في الفتن بالتخبط والتشغيب للرد عليه وبنى رده على عدة أمور:

أولها : دعوى أن للأئمة نصوصاً هي من قبيل حوادث الأعيان يأخذها بعض الناس ويجعلونها منهجاً
 وهذه النقطة لو نزلها المعترض على نفسه لكان أولى بها ، والمقال الذي كتبته كان حول موقف الإمام أحمد ممن قال ( لفظي بالقرآن مخلوق ) ، ولو كان قبل ذلك معروفاً بالسنة والذب عنها
 ونصوص الإمام أحمد لا تختلف في تبديع اللفظية وتضليلهم ، فلماذا يجعل كلامه فيمن قال هذا ( من حوادث الأعيان ).

قال الخلال في السنة [2113 ] : عبد الله بن أحمد: قال : وسمعت أبي يقول : من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي .
2114- قال : وسمعت أبي يقول : كل من قصد إلى القرآن بلفظ أو غير ذلك فهو جهمي .

فهذه نصوص عامة فكيف تجعل حوادث أعيان

 قال الخلال في السنة أيضاً 2121- أخبرني حنبل بن إسحاق بن حنبل ، أنه سمع أبا عبد الله قيل له :
 فمن قال : لفظي بالقرآن مخلوق يكلم ؟ قال : وأي شيء بقي ؟ هذا لا يكلم ، ولا يصلى خلف من قال : القرآن مخلوق ، ولا خلف من يقف ولا خلف من قال : لفظي بالقرآن مخلوق
 وإن صلى خلف رجل منهم وهو لا يعلم ثم علم أعاد الصلاة
 ثم قال أبو عبد الله : وأي شيء بقي إذا وقف وشك ؟ إن كلام الله غير مخلوق ، أو قال : لفظه بالقرآن مخلوق فكيف تتم به الصلاة ؟ لا تتم الصلاة بمخلوق والقوم قد جهلوه أو هم لا يعلمون.

بهذا كان يفتي العوام فتأمل !

النقطة الثانية : جاء بكلام مسلمة بن القاسم في نعيم بن حماد حيث قال كما في تهذيب التهذيب :" كان صدوقا وهو كثير الخطأ وله أحاديث منكرة في الملاحم انفرد بها وله مذهب سوء في القرآن كان يجعل القرآن قرآنين فالذي في اللوح المحفوظ كلام الله تعالى والذي بأيدي الناس مخلوق"

أقول : وهكذا هم أهل التمييع ، يريدون أن يصير جميع أئمة الإسلام مبتدعة يصدقون كل ما قيل فيهم ليتوصلوا بذلك للدفاع عن أسيادهم

أولاً : القول الذي نقله مسلمة عن نعيم يختلف عن قول اللفظية بل هو قول الكلابية ، ولو علم الكلابية أن نعيماً سبقهم إلى مقالتهم لطاروا بذلك فرحاً ، فهذا النص خارج بحثنا في نسبة قول اللفظية له.

ثانياً : مسلمة بن القاسم لا يعتمد عليه إذا انفرد بحكاية مذهب إمام معروف بما لم يتابع عليه إذ له مجازفات في هذا الباب
 فقد قال مسلمة بن القاسم في أبي حاتم الرازي الإمام المعروف كما في تهذيب التهذيب :" كان ثقة وكان شيعيا مفرطا وحديثه مستقيم"
 فعلق الحافظ بقوله :" ولم أر من نسبه إلى التشيع".

أقول : وهذه مجازفة فإن اللالكائي قال في السنة 285 :
 أخبرنا محمد بن المظفر المقرئ ، قال : حدثنا الحسين بن محمد بن حبش المقرئ ، قال : حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ، قال : سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين ، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار ، وما يعتقدان من ذلك
 فقالا : " أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا فكان من مذهبهم : الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص ، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته ، والقدر خيره وشره من الله عز وجل
 وخير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام أبو بكر الصديق ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان ، ثم علي بن أبي طالب عليهم السلام ، وهم الخلفاء الراشدون المهديون
 وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد لهم بالجنة على ما شهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله الحق ، والترحم على جميع أصحاب محمد والكف عما شجر بينهم"
 فما أبعد هذا عن التشيع.

وقال مسلمة بن القاسم كما في ترجمة البخاري من تهذيب التهذيب :
" وألف علي بن المديني كتاب العلل وكان ضنينا به فغاب يوما في بعض ضياعه فجاء البخاري إلى بعض بنيه وراغبه بالمال على أن يرى الكتاب يوما واحدا فأعطاه له
فدفعه إلى النساخ فكتبوه له ورده إليه فلما حضر علي تكلم بشئ فأجابه البخاري بنص كلامه مرارا ففهم القضية واغتنم لذلك فلم يزل مغموما حتى مات بعد يسير واستغني البخاري عنه بذلك الكتاب
 وخرج إلى خراسان ووضع كتابه الصحيح فعظم شأنه وعلا ذكره وهو أول من وضع في الاسلام كتابا صحيحا فصار الناس له تبعا بعد ذلك"
 فعلق الحافظ على كلامه بقوله :" قلت: إنما أوردت كلام مسلمة هذا لابين فساده فمن ذلك إطلاقه بأن البخاري كان يقول بخلق القرآن وهو شئ لم يسبقه إليه أحد وقد قدمنا ما يدل على بطلان ذلك
وأما القصة التي حكاها فيما يتعلق بالعلل لابن المديني فإنها غنية عن الرد لظهور فسادها وحسبك أنها بلا إسناد وأن البخاري لما مات علي كان مقيما ببلاده وأن العلل لابن المديني قد سمعها منه غير واحد غير البخاري فلو كان ضنينا بها لم يخرجها إلى غير ذلك من وجوه البطلان لهذه الأُخلوقة والله الموفق".

فهذا مسلمة وهذه مجازفاته ، فقد نسب البخاري للجهمية ، أفلا ينسب شيخه للكلابية
 ولعل السبب في ذلك أنه كان أندلسياً ، فكانت تبلغه أخبار أهل المشرق عن غير ثقة ، فيقع في كلامه تلك الأغاليط التي يتلقفها أولئك الفسقة الطعانون في الأئمة المنافحون عن أهل البدع ليشغبوا بها على أهل السنة ، فكما غلط مسلمة على البخاري وأبي حاتم ، فقد غلط على نعيم
 وتأمل حالهم بالأمس طعنوا في يحيى بن معين ونسبوه للشذوذ ، اعتماداً على نقولات الأزدي
 واليوم يطعنون في نعيم وينسبونه إلى قول الكلابية
 ويا قرة عين أهل البدع بهؤلاء الفجرة، ومسلمة نفسه ضعيف ، وقد نسبوه إلى التشبيه
لكن الحافظ دافع عنه في لسان الميزان والله يحب الإنصاف
 ثم لماذا لم يتأول مسلمة كلام نعيم ؟!

النقطة الثالثة : شكك في توبة نعيم وقال بأن سندها لا يصح
 وقد قلت في ذلك المقال :" وبقي أن نقول : أن الإمام أحمد علق الحكم على نعيم بالصحة ، ولا يصح ذلك عنه إن شاء الله تعالى ، وإن صح فقد روي عنه التراجع "
 فأنا أولاً لم أصحح القول عن نعيم بل قلت أن أحمد قد شكك فيه
 وأما خبر التوبة فلم أجزم به بل قلت ( روي ) وهذه صيغة تمريض
 وليسمح لي أبا (الاستهبال) أن أتحفه بتحفة ، وهي أن الإمام أحمد قد برأ نعيماً تبرئةً صريحة بسندٍ كالاسطوانة ثبوتاً ، وكالطود رسوخاً.

قال الخلال في السنة 2108: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : سألت أبي عن من قال لفظي بالقرآن مخلوق ، قال : يقال لمن قال هذه المقالة : لا إله إلا الله هو مخلوق هو يلزمه في مقالته هذه
 هذا ويقال له لفظ جبريل به مخلوق ، ولفظ محمد به مخلوق . قال : هذا كلام سوء رديء وهو كلام الجهمية ، قال : وبلغني أنهم أنحلوه نعيم ( كذا) وكذبوا عليه
وما نعلم يضع كتاباً يقرأه على الناس هذه الكتب بدعة.

فكذب الإمام أحمد المنقول عن نعيم
 وهذا مذهب المميعة البخاري قال بقول المرجئة ، وشعبة مرجيء ، ونعيم لفظي أو كلابي
 وعلي الحلبي السارق المتناقض الكذوب إمام في السنة لا أخطاءَ في العقيدة والمنهج، وعلى وزن (ودت الزانية لو كل النساء كن زواني) يقال (ود الحلبي ومن معه لو كل الناس كانوا من أهل البدع).

ثم يقال لهذا الصبي : إذا كان نعيم يقول بقول الكلابية ، فما حكم من يقول بقوله هذا عندك اليوم ، وقد قدمت لك فتيا الإمام أحمد في اللفظية ، ولا فرق في مسألة المعاملة بين الكلابية واللفظية ؟

ومن جهل كاتب ذاك المقال قوله بأن ( إسحاق بن أبي إسرائيل كان مرجئاً )
 ولم يكن مرجئاً وإنما كان واقفياً وقد وردت في ترجمته فائدة عزيزة، قال المزي في تهذيب الكمال (2/ 398) :" وَقَال أبو سَعِيد عثمان بْن سَعِيد الدارمي : سمعت يحيى ابن مَعِين يقول: إسحاق بْن أَبي إسرائيل ثقة.

قال أبو سَعِيد: إسحاق بْن أَبي إسرائيل، لم يكن أظهر الوقف ، حين سألت يحيى بْن مَعِين عنه، وهذه الأشياء التي ظهرت عليه بعد، ويوم كتبنا عنه كان مستورا عنه"

فتأمل كيف أن الدارمي قد استقر عنده أنهم لا يثنون على الواقفة ، فاعتذر لابن معين بأن ذلك كان قبل أن يظهر ما أظهر ، وذكر ثناء أحمد على رأس المرجئة أبي معاوية الضرير.

ويقال : بأن أحمد لم يكن عنده أبو معاوية رأساً في الإرجاء بل نص على أنه لم يكن داعية
 قال المزي في تهذيب الكمال (12/343) : " قال أَحْمَد بْن أَبي يَحْيَى : سمعت أحمد بْن حنبل وذكر شبابة، فقال: تركته، لم اكتب عنه للإرجاء، فقيل له: يا أبا عَبد اللَّهِ، وأَبُو معاوية؟
 فقال: شبابة كَانَ داعية".

ويفهم من هذا أن أبا معاوية لم يكن داعية ، وهذا مذهب مطرد عند الإمام أحمد ، وهو أن من كانت بدعته مكفرة ، فإنه يهجر مباشرةً ولا يصلى خلفه ولا يؤخذ عنه العلم كما تقدم في فتاويه في الجهمية وفروعها
 وأما من كانت بدعته مفسقة ، فإنه يروى عنه للحاجة إذا لم يكن داعية.

فالذي يأتي بحوادث الأعيان ويجعلها منهجاً ، ويغفل عن النصوص العامة هو أنتم ولست أنا
 فموقف أحمد من المرجئة معروف ، من كان منهم داعية يهجر
 قال حرب الكرماني في مسائله عن أحمد (3/1051) وسمعت أحمد يقول: لا يصلي خلف من يزعم أن الإيمان قول إذا كان داعية
 وإنما يروى عنهم عند الضرورة بدليل ما روى العقيلي (1/56) : حدثنا عبد الله بن أحمد قال : سألت أبي عن أسد بن عمرو صدوق ؟ قال : أصحاب أبي حنيفة ليس ينبغي أن يروى عنهم شيء
 فنهى عن الكتابة عنهم لعدم الحاجة إليها.

ثم إن الخلاف معكم ليس في المعاملة بل في أصل التبديع ثم يأتي البحث في المعاملة
 وهؤلاء الذين تتحدث عنهم لم يختلفوا في تبديعهم
 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (1/62) :" وتنازعوا في شهادة سائر أهل الأهواء هل تقبل مطلقا أو ترد مطلقا أو ترد شهادة الداعية إلى البدع
وهذا القول الثالث هو الغالب على أهل الحديث لا يرون الرواية عن الداعية إلى البدع ولا شهادته ولهذا لم يكن في كتبهم الأمهات كالصحاح والسنن والمسانيد الرواية عن المشهورين بالدعاء إلى البدع
 وإن كان فيها الرواية عمن فيه نوع من بدعة كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية وذلك لأنهم لم يدعوا الرواية عن هؤلاء للفسق كما يظنه بعضهم
ولكن من أظهر بدعته وجب الإنكار عليه بخلاف من أخفاها وكتمها وإذا وجب الإنكار عليه كان من ذلك أن يهجر حتى ينتهي عن إظهار بدعته
ومن هجره أن لا يؤخذ عنه العلم ولا يستشهد، وكذلك تنازع الفقهاء في الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور منهم من أطلق الإذن ومنهم من اطلق المنع
والتحقيق أن الصلاة خلفهم لا ينهى عنها لبطلان صلاتهم في نفسها لكن لأنهم إذا أظهروا المنكر استحقوا أن يهجروا وأن لا يقدموا في الصلاة على المسلمين
ومن هذا الباب ترك عيادتهم وتشييع جنائزهم كل هذا من باب الهجر المشروع في إنكار المنكر للنهى عنه"
 وقد استفاد بعض الأصحاب من تقريرات أحمد هذه مذهباً دقيقاً في التبديع.

قال ابن مفلح في الفروع (12/ 450) :" قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ : وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ كَفَّرْنَا فِيهَا الدَّاعِيَةَ فَإِنَّا نُفَسِّقُ الْمُقَلِّدَ فِيهَا ، كَمَنْ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ ، أَوْ أَنَّ أَلْفَاظَنَا بِهِ مَخْلُوقَةٌ ، أَوْ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ ، أَوْ أَنَّ أَسْمَاءَهُ مَخْلُوقَةٌ ، أَوْ أَنَّهُ لَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ ، أَوْ يَسُبَّ الصَّحَابَةَ تَدَيُّنًا ، أَوْ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الِاعْتِقَادِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَمَنْ كَانَ عَالِمًا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ يَدْعُو إلَيْهِ وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ ، نَصَّ أَحْمَدُ صَرِيحًا عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ ، قَالَ : وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِ الْقَدَرِيَّةِ بِنَفْيِ خَلْقِ الْمَعَاصِي عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، وَلَهُ فِي الْخَوَارِجِ كَلَامٌ يَقْتَضِي فِي تَكْفِيرِهِمْ رِوَايَتَيْنِ".

واعلم -رحمك الله- أن التبديع كالتكفير فيه إطلاق عام ، لا يعترض عليه بوجود بعض الأفراد المستثناة شأنه شأن نصوص الوعيد
 فعلى سبيل المثال : قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج :" كلاب أهل النار " ، لا يمكن لعاقل أن يعترض عليه بأن في الخوارج من هو متأول أو جاهل جهلاً وتأويلاً يعذر به وإلا فهناك تأويل وجهل لا يعذر به  ، فيتخلف عن الوعيد بذلك
 فإن هذا إطلاق عام، ولهذا جاء عن غير واحد من السلف أنه قال :" الجهمية كفار " وقال :" من قال القرآن مخلوق فهو كافر "

تنبيه : هذا كتبته قديماً ثم تبين لي أن السلف يطلقون تكفيرهم بأعيانهم 
 


وجاء في مسائل ابن هانيء 3948 :  وسئل -يعني أحمد- عن: قول شعبة: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة.
فقال: لعل شعبة كان يصوم، فإذا طلب الحديث وسعى فيه يضعف فلا يصوم، أو يريد شيئًا من الأعمال -أعمال البر - فلا يقدر أن يفعله للطلب، فهذا معناه.

أقول : أورده المعترض مستدلاً به على تأويل أحمد لكلام شعبة ، وما ذكره أحمد هو ظاهر كلام شعبة
 فالإمام أحمد لم يقل أن الطلب لا يصد عن كثرة النوافل وأعمال البر ، بل قرر ذلك
 ولكن لا يخفى أن النفع العام الحاصل بالطلب ، أولى من النفع الخاص عند التزاحم.

ثم طنطن على عادتهم حول موقف الإمام ممن أجاب في المحنة
 وهم دائماً يظهرون أحمد في صورة المتشدد المتعنت ، ومأخذ الإمام أحمد في مسألة المحنة دقيق
 وهو يرى أن من وقع منهم عليه الإكراه بالتعذيب فلم يصبر فهو معذور لحديث عمار ، ولكنه أخذ على أصحابه أنهم أجابوا بمجرد التهديد اللفظي فلم تكن حقيقة الإكراه واقعة عليهم
 لهذا قال شيخ الإسلام كما في المستدرك على مجموع فتاويه (1/3) :
" تأملت المذهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بتعذيب من ضرب أو قيد، ولا يكون الكلام إكراها"، ولهذا عذر الإمام أحمد من عذبوا كسجادة والقواريري "

قال المقريزي كما مفاتيح الفقه الحنبلي (1/242) :" وكان أبو عبد الله يقيم عذرهما ويقول: أليس قد حبسا وقيدا، قال الله تعالى: (إلا من أكره وقبله مطمئن بالايمان) قال أبو عبد الله: القيد كره والحبس كره والضرب كره، فأما إذا لم تنل بمكروه فلا عذر له".

وهذا معنى تلك القصة المشهورة التي رواها ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ص389 :
" بإسناده عن أبي بكر المروذي يقول: جاء يحيى بن معين فدخل على أحمد بن حنبل وهو مريض، فسلم فلم يرد عليه السلام، وكان أحمد قد حلف بالعهد أن لا يكلم أحدا ممن أجاب حتى يلقى الله عز وجل
 فما زال يحيى يعتذر ويقول: حديث عمار، وقال الله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان
 فقلت أحمد وجهه إلى الجانب الآخر، فقال يحيى: أف وقام، وقال: لا يقبل لنا عذرا، فخرجت بعده وهو جالس على الباب
 فقال: أي شيء قال أحمد بعدي؟ قلت: قال: يحتج بحديث عمار، وحديث عمار مررت وهم يسبونك فنهيتهم فضربوني، وأنتم قيل لكم نريد أن نضربكم
 فسمعت يحيى يقول: مر يا أحمد غفر الله لك، فما رأيت والله تحت أديم سماء الله، أفقه في دين الله منك".

فتأمل هذا الفقه ، وإذعان ابن معين له ، غير أن البهائم أنى لهم أن يفهموا
فإنهم لما لم يقع عليهم مسمى الإكراه الشرعي أنزلهم الإمام أحمد منزلة من أجاب طوعاً ، ثم لما أنزلوا مسمى الإكراه على أنفسهم كانت تلك عند أحمد سوأة أخرى لهم
 ولهذا تفطن ابن معين لدقة مأخذ صاحبه وأثنى عليه
 وعلى هذا , ما فعله أحمد صالحٌ للتطبيق في هذا العصر إذا حصل نظيره ، فإنه حكمٌ شرعي عام تتفرع عليه فروع كثيرة ، لهذا يبحث الفقهاء حد الإكراه المبيح للمحرمات.

قال ابن أبي شيبة في المصنف 28890: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ شُرَيْحٍ ، قَالَ : الْقَيْدُ كُرْهٌ ، وَالسِّجْنُ كَرْهٌ ، وَالْوَعِيدُ كَرْهٌ.

فمن لم يقع عليه هذا ، وزعم أنه أكره لم يقبل عذره ، وألزم بجنايته بحسبها ، فلو جاء رجل إلى امرأةٍ وراودها عن نفسها ، وهددها إن لم تفعل بالضرب أو نحوه فلا يحل لها الاستجابة له حتى يسمها بشيء من العذاب
 قال شيخ الإسلام في الاستقامة (2/347) :" ومن المعلوم أن الذين كانوا يكرهون الإماء لم يكن بوعيد القتل بل بالضرب ونحوه".

ومن فروع هذه المسألة المرأة التي جامعها زوجها في نهار رمضان ، متى يصدق عليها مسمى الإكراه ، ولا تلزمها الكفارة في قول من يوجب الكفارة عليها إذا كانت مطاوعةً ، وشرح هذا يطول وإنما أردت الإشارة
 وهكذا هم المنتكسون فقراء من العلم في شتى أبوابه، حتى إنني لما قلت أن كثيراً مما يزعم أنه ( مجمل ) و (مفصل ) هو في حقيقته (ظاهر ) و ( مؤول ) ، ظن أبو ( الاستهبال ) أنني أشير أن الخلاف لفظي ، وليس الأمر كذلك بل أنا أشير إلى أن القوم مدلسون.

وعوداً على موقف أحمد ممن أجاب في المحنة، أقول : قد كان الأئمة الأخيار يعتبرون موقف أحمد هذا أصلاً يقيسون عليه ، ولم يقولوا ( هذه حادثة عين ) كما يشغب الزائغون.

جاء في المسودة لآل تيمية (1/264) :
" قلت التعليل بخوف الكذب ضعيف لأن ذلك قد يخاف على الدعاة إلى مسائل الخلاف الفروعية وعلى غير الدعاة وإنما الداعي يستحق الهجران فلا يشيخ في العلم
وكلام أحمد يفرق بين أنواع البدع ويفرق بين الحاجة إلى الرواية عنهم وعدمها كما يفرق بين الداعى والساكت
 مع أن نهيه لا يقتضى كون روايتهم ليست بحجة لما ذكرته من أن العلة الهجران ولهذا نهى عن السماع من جماعة في زمنه ممن أجاب في المحنة
وأجمع المسلمون على الاحتجاج بهم وهو في نفسه قد روى عن بعضهم لأنه كان قد سمع منهم قبل الابتداع ولم يطعن في صدقهم وأمانتهم ولا أنكر الاحتجاج بروايتهم
وكذلك الخلال ترك الرواية عن أقوام لنهى المروذى وروى عنهم بعد موته وذلك أن العلة استحقاق الهجر عند التارك واستحقاق الهجر يختلف باختلاف الاحوال والاشخاص
كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم على من أمر أصحابه بالصلاة عليه وكذلك لما قدم عليه أبو سفيان بن الحارث وابن أبي أمية أعرض عنهما ولم يأمر بقية أصحابه بالاعراض عنهما بل كانوا يكلمونهما
والثلاثة الذين خلفوا لما أمر المسلمين بهجرهم لم يأمرهم بفراق أزواجهم إلا بعد ذلك وهذا باب واسع ولهذا ذكر القاضي أن الشروط في قبول الخبر خمسة العقل والعدالة والبلوغ والضبط وإن لا يكون داعيا إلى بدعة فجعل الدعاء إلى البدعة قسما ليس بداخل في مطلق العدالة"

 وهذا بخلاف موقف الزائغين ، ممن ما بقي إلا أن يقولوا ( الإمام أحمد هجرهم لحظ نفسه )
 وقد كان الإمام أحمد من أبعد الناس عن هذا وهو الذي روي عنه أنه كان يترحم على المعتصم ، وقد فعل به ما فعل.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي