مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: توجيه قول الإمام أحمد : فارجعوا إليه فإن كان فيه وإلا فليس بحجة - يعني المسند -

توجيه قول الإمام أحمد : فارجعوا إليه فإن كان فيه وإلا فليس بحجة - يعني المسند -



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :                   

قال أبو موسى المديني في كتابه خصائص المسند ص13 أخبرنا والدي وغيره رحمهما الله تعالى أن المبارك بن عبد الجبار أبا الحسين الكتب إليهما من بغداد أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد ابن إبراهيم البرمكي قراءة عليه حدثنا أبو حفص عمر بن محمد بن رجاء حدثنا موسى بن حمدون البزار قال: قال لنا حنبل بن إسحاق جمعنا عمي لي ولصالح ولعبد الله وقرأ علينا المسند وما سمعه منه يعني تماما غيرنا وقال :
 لنا إن هذا الكتاب قد جمعته وأتقنته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفا فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فارجعوا إليه فإن كان فيه وإلا فليس بحجة"

هذه الكلمة استشكلت لوجود أحاديث صحيحة ( قليلة ) خارج المسند ، وقد رأيت بعض الإخوة يستدل بها على ( جهل ) الإمام أحمد بعدد من الأحاديث الصحيحة ، لذا يضعف كلامه في العلل ! ، والله المستعان

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (11/ 329) :" في " الصحيحين " أحاديث قليلة، ليست في " المسند "،
لكن قد يقال: لاترد على قوله.
فإن المسلمين ما اختلفوا فيها، ثم ما يلزم من هذا القول: أن ما وجد فيه أن يكون حجة، ففيه جملة من الاحاديث الضعيفة مما يسوغ نقلها، ولا يجب الاحتجاج بها.
وفيه أحاديث معدودة شبه موضوعة، ولكنها قطرة في بحر"

وأحسن من توجيه الذهبي توجيه ابن القيم حيث قال في الفروسية ص271:" وقد استشكل بعض الحفاظ هذا من أحمد وقال في الصحيحين أحاديث ليست في المسند وأجيب عن هذا بأن تلك الألفاظ بعينها وإن خلا المسند عنها فلها فيه أصول ونظائر وشواهد وأما أن يكون متن صحيح لا مطعن فيه ليس له في المسند أصل ولا نظير فلا يكاد يوجد ألبتة"

وقال ابن الجزري في القصد الأحمد ص 32 :
وقوله ... وإلا فليس بحجة
يريد أصول الأحاديث , وهو صحيح فإنه ما من حديث غالباً إلا وله أصل في هذا المسند , والله أعلم .اهـ

فهذا كلام من يعرف قدر الأئمة ، واعلم رحمك الله أن الإمام أحمد - رحمه الله - كان يحفظ ألف ألف حديثاً ، ولو كان - رحمه الله - يعلم من نفسه أنه فاته الكثير من الأحاديث الصحيحة لما تجرأ على هذه الكلمة ، وإلا لما كان الإمام أحمد المعروف بالورع

وقال ابن عبد الهادي في بحر الدم ص174 :" 1167 : يحيى بن معين: قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: أعلمنا بالرجال يحيى بن معين، واحفظنا للابواب سليمان الشاذكوني، وعلي أحفظنا للطوال.
وقال محمد بن رافع: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس بحديث"

فقول أحمد ( كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس بحديث) صواب لأنه أحاط بالأحاديث الصحيحة علماً

وقال السيوطي في تدريب الراوي (1/39) :" وقال ابن الجوزي حصر الأحاديث يبعد إمكانه غير أن جماعة بالغوا في تتبعها وحصرها قال الإمام أحمد صح سبعمائة ألف وكسر وقال جمعت في المسند أحاديث انتخبتها من أكثر من سبعمائة ألف وخمسين ألفا قال شيخ الإسلام ولقد كان استيعاب الأحاديث سهلا لو أراد الله تعالى ذلك بأن يجمع الأول منهم ما وصل إليه ثم يذكر من بعده ما اطلع عليه مما فاته من حديث مستقل أو زيادة في الأحاديث التي ذكرها فيكون كالدليل عليه وكذا من بعده فلا يمضي كثير من الزمان إلا وقد استوعبت وصارت كالمصنف الواحد"

فمن أحاط بسبعمائة ألف طريق صحيح ، كيف يخفى عليه متن صحيح ثابت من حديث قتادة عن أنس ، أو ابن المنكدر عن جابر ؟

وقول العالم ( لا أعرف الحديث ) يساوي قوله ( منكر )

وقال محمد بن علي الوراق: سمعت أحمد بن حنبل يقول: في أحاديث يزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن سنان، عن أنس. قال: روى خمسة عشر حديثاً منكرة كلها، ما أعرف منها واحداً. «ضعفاء العقيلي» (596)

فتأمل جمعه بين قوله ( لا أعرفها ) وقوله ( منكرة ) ، فكيف إذا اقترن بعدم معرفته بقرائن كعدم إخراج الأئمة لهذا الحديث ، وانفراد مجهول عين به عن غير أهل بلده ، وورده من طريق إمام مصنف وليس الحديث في مصنفاته

وتأمل قول الذهبي ( أحاديث قليلة ) في الأحاديث الصحيحة التي في الصحيحين خارج المسند

وقال ابن الجوزي في صيد الخاطر ص260 :" ومثل هذا تغفيل قوم قالوا: إن البخاري لم يخرج كل ما صح عنده، وإن ما أخرج كالأنموذج؛ وإلا فكان يطول. وقد ذهب إلى نحو هذا أبو بكر الإسماعيلي، وحكى عن البخاري أنه قال: ما تركت من الصحيح أكثر؛ وإنما يعني الطرق. يدل على ما قلته أن الدارقطني -وهو سيد الحفاظ- جمع ما يلزم البخاري ومسلمًا إخراجه، "فبلغ" ما لم يذكراه أحاديث يسيرة، ولو كان كما قالوا، لأخرج مجلدات"

فالدارقطني لم يستدرك من الصحيح على أصحاب الصحيح إلا القليل ، وأصحاب الصحيحين لم يخرجا من الحديث الثابت ما هو خارج المسند إلا القليل ، مما يدل على أن الصحيح محصور معروف ، فما خرج عن الدواوين المشهورة صار محل نظر

قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 355) :" وَبِالْجُمْلَةِ ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا صَرِيحٌ صَحِيحٌ ، بَلْ فِيهَا عَدَمُهُمَا ، أَوْ عَدَمُ أَحَدِهِمَا ، وَكَيْفَ تَكُونُ صَحِيحَةً ، وَلَيْسَتْ مُخَرَّجَةً فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّحِيحِ ، وَلَا الْمَسَانِيدِ ، وَلَا السُّنَنِ ، الْمَشْهُورَةِ "

فاستدل على ضعف هذه الأحاديث بخروجها عن الكتب المشهورة

قال ابن رجب في فتح الباري (4/366) :" فمن اتقى وأنصف علم أن حَدِيْث أنس الصحيح الثابت لا يدفع بمثل هذه المناكير والغرائب والشواذ الَّتِيْ لَمْ يرض بتخريجها أصْحَاب الصحاح ، ولا أهل السنن مَعَ تساهل بعضهم فيما يخرجه ، ولا أهل المسانيد المشهورة مَعَ تساهلهم فيما يخرجونه "

قال ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 151) :" فمتى رأيت حديثا خارجا عن دواوين الاسلام، كالموطأ ومسند أحمد والصحيحين وسنن أبى داود ونحوها، فانظر فيه، فإن كان كان له نظير من الصحاح والحسان قرب أمره، وإن ارتبت فيه ورأيته يباين الاصول فتأمل رجال إسناده وام تبر أحوالهم من كتابنا المسمى بالضعفاء والمتروكين، فإنك تعرف وجه القدح فيه"

قال البيهقي في مناقب الشافعي (2/ 321) :"فإنه ذكر فيما رويناه عنه توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه الذي لا يحفظون حديثهم ، ولا يحسنون قراءته من كتبهم ، ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن تكون القراءة من أصل سماعهم .
ووجه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقعت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث ولا يجوز أن يذهب شئ منها على جمعيهم ، وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها "

قال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة ص26 :" وقد ألفته نسقا على ما وقع عندي فإن ذكر لك عن النبي صلى الله عليه و سلم سنه ليس مما خرجته فاعلم أنه حديث واه إلا أن يكون في كتابي من طريق آخر فإني لم أخرج الطرق لأنه يكبر على المتعلم ولا أعرف أحدا جمع على الاستقصاء"

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (9/ 469) :" وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الوَاقِدِيَّ ضَعِيْفٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الغَزَوَاتِ، وَالتَّارِيْخِ، وَنُوْرِدُ آثَارَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِجَاجٍ أَمَّا فِي الفَرَائِضِ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فَهَذِهِ الكُتُبُ الستة ومسند أَحْمَدَ، وَعَامَّةُ مَنْ جَمَعَ فِي الأَحْكَامِ نَرَاهُم يَتَرَخَّصُوْنَ فِي إِخْرَاجِ أَحَادِيْثِ أُنَاسٍ ضُعَفَاءَ بَلْ متروكين، وَمَعَ هَذَا لاَ يُخَرِّجُوْنَ لِمُحَمَّدِ بنِ عُمَرَ شَيْئاً"

وهذا كله يؤكد ما ذكرته ، والأئمة الكبار كأمثال أحمد والبخاري ومسلم وأبي حاتم وأبي زرعة كأن الرجل منهم يحفظ مئات آلاف الأخبار ، ويستحضرها حتى سئل عن شيء منها أجاب على البديهة ولم يتلكأ ، ويحفظون المقطوع والمرسل والموقوف ، والمرفوعات فإذا جاء راو وأخطأ فوصل المرسل أو رفع الموقوف أو المقطوع عرفوا غلطه وبينوه وهذا هو علم علل الحديث

وبعض الناس يقول ( منهج فقهاء ) و ( منهج محدثين ) وهذا غلط فأحمد والبخاري وابن المنذر وابن تيمية وابن القيم وابن رجب كانوا فقهاء كبار ، وهم على منهج المحدثين في العلل

فالصواب أن يقال ( منهج كبار المحدثين ) و ( منهج بعض الأصوليين) ، والمرجع في كل فن إلى أهله

وفي الحقيقة لا أفهم الدعوة التي يدعو إليها بعض الناس من إهدار جهود المتقدمين والمتأخرين بل والمعاصرين إلا عالم واحد معاصر ، لا ينظر إلى كلام البقية إلا في كلامه ، ولا يستشهد إلا بكلامه احتجاجاً وغيره استئناساً

والعجب _ أن عندهم _ من خالفه من المتقدمين قاصر اطلاع لم يقف على جميع طرق الحديث ، أو وهم الثقات بدون دليل

وأما المتأخرون فلا يذكرون معه

فالإمام أحمد يكتب بعضهم المقالات في التدليل على قصور اطلاعه ، وكذلك بقية الأئمة !

ولو سأل سائل : ما دام هذا العالم المعاصر وقف على ما لم يقف عليه الأوائل في العشرات من الأحاديث ، أفلا يجوز أن يأتي من يخالفه ويقف على من لم يقف عليه هو ؟

فجواب أهل التعصب : لا بل من خالفه ممن جاء بعده متعجل ، ولو وقف على طرق لم يقف عليها الشيخ فمتعجل ، ولو سبقه أحمد أو الدارقطني أو ابن معين أو أبو حاتم أو أبو زرعة أو ابن رجب فمتعجل !

فالذي يقف على العلة متعجل ، والذي لم يقف عليها ليس متعجلاً ؟!

فنعوذ بالله من الظلم

وإذا جاز أن نقول الترمذي متساهل والبزار متساهل وابن عدي متساهل وابن حبان متساهل وابن خزيمة متساهل والحاكم متساهل ، ولا يكون ذلك طعناً في أحد منهم

كما أن قولنا أبو حاتم متشدد وابن معين متشدد والقطان متشدد لا يكون طعناً

أفلا يجوز أن تخالف عالماً ببينة ودليل وأدب دون وصف بالتساهل أو أو التشدد

إذا اعتبرنا ذلك طعناً ، فلمتعصب من الجهة الأخرى أن يعتبر قولك في تساهل الأئمة أو تشددهم طعناً
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي