الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فقد كتب بعضهم مقالاً يذكر فيه أن الذهبي اعتبر جرح شعبة اجتهاداً منه
، وأن الذهبي رده ، وأحسب أن هذا الرجل يريد التملص من جروح أهل العلم المفسرة لبعض
من يعدلهم ، ويستقبلهم لإقامة الدورات العلمية
وإذا نظرت إلى ما استدل به ، وجدته قد أتي من سوء التطبيق للقياس كما روي
عن الإمام أحمد :" أكثر ما يخطيء الناس في الرأي والقياس "
والآن لنأتي إلى ما احتج به
قال الذهبي في ترجمة هشام بن حسان من الميزان :"قال يحيى بن آدم:
"حدثنا أبو شهاب قال لي شعبة عليك بحجاج ومحمد ابن إسحاق فإنهما حافظان، واكتم
على عند البصريين في خالد و هشام".
قال الذهبي : زلة من عالم فإن خالداً الحذاء وهشام بن حسان ثقتان ثبتان
والآخران فالجمهور على أنه لا يحتج بهما فهذا هدبة بن خالد يقول عنك يا شعبة أنك ترى
الإرجاء نسأل الله التوبة"
أقول : وهذا النقل الكلام عليه من عدة أوجه
الأول : أن جرح شعبة لو صح عنه ، فهو مبهم وقد عارضه تعديل عامة الأئمة
لهذين الرجلين ، ومن ذا الذي يقول أن الجرح المبهم يقدم على التعديل ، بل التعديل والحال
هذه ملزم
وبيان ذلك أنه لو جاء رجل وتناكد ، وأخذ بقول شعبة في هذين الرجلين ، بحجة
أنه إمام وجبل ومن أئمة الجرح والتعديل ، معرضاً عما قيل فيهم من تعديلات والمسألة
اجتهادية ! لكان صاحب هوى عندنا وعند الذهبي ، ولا أدري ما يكون حاله عند الناقل !،
فهو بمنزلة من يتمسك بالشذوذات الفقهية لبعض أهل العلم ويأخذ بها ، وهذا تفضحه شواهد
الامتحان وتجده متناقضاً
ولنعكس المثال ولنأتي برجل شذ شعبة بتعديله ، فمحمد بن عبيد الله العرزمي
روى عنه شعبة وبقية الأئمة على أنه متروك
فلو جاء شخصٌ وجعل حديثه صالحاً في الشواهد ، معتمداً على رواية شعبة عنه
، لكان صاحب هوى لأنه أعرض عن الجرح المفسر فيه ، وإذا كان التعديل ملزماً إذا صدر
من عامة أئمة النقد ، ولم يعارضه إلا جرح مبهم ، ولا نجد في أنفسنا حرجاً من إطلاق
الزلل على شعبة والحال هذه ، فالواجب أن نرى الجرح المفسر ملزماً وإن عارضه تعديل ،
كائناً المعدل من كان ، إذ الجرح المفسر من معتبر أعلى من التعديل في عامة حالاته
الثاني : أن جرح شعبة يمكن تخريجه على وجه لا يدفع
فأما كلامه في هشام بن حسان فقد يكون من أجل التشيع
قال المزي في تهذيب الكمال (30/ 188) :" وَقَال شعيب بْن حرب، عن
شعبة: لو حابيت أحدا لحابيت هشام بن حسان، كان خشبيا ، ولم يكن يحفظ"
وخشبياً صارت في بعض مطبوعات الميزان :" ختني " ، فإن صحت اللفظة
الأولى لكان تخريج مقالة شعبة على وجه لا يدفع ممكناً ، وقوله ( ولم يكن يحفظ ) ، لعله
أراد اعتماده على الكتاب ، أو أن حفظه لم يكن بالدرجة العليا
وعندي تخريج لهذه الكلمة أحسن من هذا كله ، وهو أن هشام بن حسان كان يدلس
عن عطاء والحسن فتقع الأوهام في حديثه من قبل الذين دلس عنهم وما علم شعبة بذلك فحمل
ذلك عليه
وقد اجتنب الأئمة روايته عن عطاء
وأما خالد الحذاء فقد قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب :" قلت
: و الظاهر أن كلام هؤلاء فيه من أجل ما أشار إليه حماد بن زيد من تغير حفظه بآخرة
، أو من أجل دخوله في عمل السلطان ، و الله أعلم . اهـ "
ولعل مما يؤيد هذا المعنى أن شعبة بن الحجاج قد روى عن خالد الحذاء ، وروايته
عنه في الصحيحين فكيف يكون مجروحاً عنده ويحذر منه ، ثم يروي عنه ، هذا لا يستقيم مع
كون شعبة ينتقي في شيوخه ، بل قد روى شعبة عن هشام بن حسان أيضاً ، ولكنه لم يرو عنه
خبراً مرفوعاً فيما أعرف
قال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي ص81 :" لو روى شعبة خبراً عن
شيخ له لم يعرف بعدالة ولا جرح، عن تابعي ثقة، عن صحابي، كان لقائل أن يقول: هو خبر
جيد الإسناد، فإن رواية شعبة عن الشيخ مما يقوي أمره "
الثالث : أن قياس كلام هدبة بن خالد في شعبة على كلام شعبة في غيره باطلٌ
من وجوه
الأول : أن هدبة بن خالد ليس من الأئمة المعتمدين في الجرح والتعديل بخلاف
شعبة فإنه من أئمة الجرح والتعديل
الثاني : أن شعبة أعلى قدراً من هدبة وكلام هدبة يسيء لهدبة لهذا أورد
ابن عدي كلمته هذه في ترجمة هدبة من الكامل ، إشارةً منه إلى أن كلامه في شعبة منقصةٌ
في حقه وجرحة فيه
الثالث : أن هدبة لم يلق شعبة ولم يرو عنه ، ولم يكن نقاداً ، فلعله احتمل
هذه الفرية من بعضهم فصدقها ، وإلا لو كان شعبة مرجئاً لطار بذلك الضعفاء الذين تكلم
فيهم شعبة ، ومرجئة الفقهاء لينتسبوا إلى إمام جليل وما زالت كتب السنة والعقيدة تنص
على أن شعبة من أئمة أهل السنة
وقد صح عنه أنه يجرح بالإرجاء قال ابن أبي حاتم في ترجمة عمرو بن مرة في
الجرح والتعديل حدثنا بشر بن مسلم بن عَبد الحميد الحمصي، حَدثنا حيوة، يَعني ابن شريح،
حَدثنا بقية، قال: قلتُ لشُعبة لم تروي عن عَمرو بن مرة وكان مرجئا؟ قال: كان أصغر
القوم وأكثرهم علما.
أقول : سؤال بقية يدل على أنه تقرر عنده أن شعبة يجتنب المرجئة ، وعمرو
كان من أقل المرجئة خطراً فقد كان من مرجئة الفقهاء ، فكيف يقر مدعي التحقيق رمي شعبة
بالإرجاء مع ما ظهر لك من بطلان هذه الفرية ، بل نقل ترجمة هدبة وما فيها من توثيقه
لإقرار هذه الفرية ! ، ثم فرع أن شعبة يغتفر إرجاؤه لأنه كان سنياً ، ولا أدري كيف
يكون سنياً ومرجئاً ؟!
وتأمل ما وصل إليه حال القوم ، دفعهم حبهم للدفاع عن أهل البدع إلى جرح
أئمة أهل السنة
وقد سبق لهم الطعن في يحيى بن معين ، ونسبوا الإمام أحمد إلى مجالسة الرافضة
مع معرفته بهم
والطريف أن هدبة قرن كلامه في شعبة بتزكية حماد بن سلمة ، واليوم يأتي
من يقرن كلامه في أئمة أهل السنة بتزكية أهل البدع كمن يقرن كلامه في بعض المشايخ بتزكية
سيد قطب وأسامة ابن لادن ، وجماعتي الإخوان والتبليغ ، ثم يأتي من يهوش بجرحه على أهل
السنة !
والخلاصة : قياس رد الجرح المبهم في مقابل التعديل من عامة الأئمة في مسألة
الرواية ، على الجرح المفسر من معتبر تابعه عدد من العلماء في مقابل تعديل مجمل في
باب السنة والبدعة ، من باب قياس البيض على الباذنجان !
وكذا قياس الجرح المفسر من معتبر في حق من هو دونه علماً وقدراً مع متابعة
أهل العلم له وعدم مخالفة إلا من عرف بالتساهل ، على جرح من هو ليس معتبراً في إمام
من أئمة أهل السنة ولم يتابع على ذلك قياسٌ فاسد أيضاً
وأختم هنا بكلمة للذهبي حيث قال في سير أعلام النبلاء ( 11/82)
:" قلت: هذا القول من عبد الله بن الرومي غير مقبول، وإنما قاله باجتهاده، ونحن
لا ندعي العصمة في أئمة الجرح والتعديل، لكن هم أكثر الناس صوابا، وأندرهم خطأ، وأشدهم
إنصافا، وأبعدهم عن التحامل.
وإذا اتفقوا على تعديل أو جرح، فتمسك به، واعضض عليه بناجذيك، ولا تتجاوزه،
فتندم.
ومن شذ منهم، فلا عبرة به.
فخل عنك العناء، وأعط القوس باريها، فوالله لولا الحفاظ الأكابر، لخطبت
الزنادقة على المنابر، ولئن خطب خاطب من أهل البدع، فإنما هو بسيف الإسلام وبلسان الشريعة،
وبجاه السنة وبإظهار متابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله من الخذلان"
تنبيه : هذا المقال كتبته قديماً وعنيت أن الذهبي لم يرد الجرح المفسر في هذه المسألة وإلا فقد ثبت عنه مخالفات عديدة لمنهج السلف ذكرتها في مقال ( مجازفات ابن جماعة في نصرة التجهم ) وقد رد الذهبي ما قيل في يحيى بن أكثم من جرح مفسر واتهام له بسرقة الحديث وكذلك ما قيل في تكذيب الواقدي
تنبيه : هذا المقال كتبته قديماً وعنيت أن الذهبي لم يرد الجرح المفسر في هذه المسألة وإلا فقد ثبت عنه مخالفات عديدة لمنهج السلف ذكرتها في مقال ( مجازفات ابن جماعة في نصرة التجهم ) وقد رد الذهبي ما قيل في يحيى بن أكثم من جرح مفسر واتهام له بسرقة الحديث وكذلك ما قيل في تكذيب الواقدي
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم