الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
ففي هذه الأيام كثيراً ما يسري إلى لساني أبيات قد علقتها عند قراءتي للمعجم
المختص للمرتضى الزبيدي وهي قول الشيخ أحمد السجاعي:
إن البلاء هو اجتماع الناس *** كم أدخلوا قلباً عظيم الياس
فاحذر هديت من الورى متحذراً *** من شرهم بالله رب الناس
وهذه الأبيات كانت سلوتي في فترات عديدة أجدني فيها وحيداً لظرف أو لآخر
وأحسن من ذاك التسلي بما روى البخاري
في صحيحه في كتاب الفتن 3300 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ
حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوشِكَ أَنْ
يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الرَّجُلِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ
الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ.
وفضول الخلطة باب ولج فيه كثيرون بحسن نية وسليم طوية ، فأورثهم ذلك حزناً
وحسرة لذا قررت أن أجمع في هذا الباب شيئاً عسى ان يصادف قلباً حياً فينتفع به في زمن
كثرت فيه القلوب الغلف والله المستعان.
قال ابن القيم في بدائع الفوائد (2/498): "إن فضول المخالطة هي الداء
العضال الجالب لكل شر وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة وكم زرعت من عداوة وكم غرست
في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول ففضول المخالطة فيه
خسارة الدنيا والآخرة وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ويجعل الناس
فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر:
أحدها: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة فإذا أخذ حاجته
منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام وهذا الضرب أعز من الكبريت
الأحمر وهم العلماء بالله تعالى وأمره ومكايد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون
لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله
القسم الثاني من مخالطته كالدواء
يحتاج إليه عند المرض فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته وهم من لا يستغنى عنه مخالطتهم
في مصلحة المعاش وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والإستشارة
والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من
القسم الثالث وهم من مخالطته كالداء
على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن
وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد من أن تخصر عليه الدين والدنيا
أو أحدهما فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف.
ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربا عليك فإذا فارقك سكن الألم، ومنهم
من مخالطته حمى الروح وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ولا يحسن
أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل
على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به فهو يحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك
يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على
الأرض.
ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب
الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر .
ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله وقد
ضعف القوى عن حمله فالتفت إلي وقال مجالسة الثقيل حمى الربع ثم قال لكن قد أدمنت أرواحنا
على الحمى فصارت لها عادة أو كما قال وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة
ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بد من معاشرته
ومخالطته فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا.
القسم الرابع من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم فإن اتفق
لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله
وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها الذين يصدون عن
سبيل الله ويبغونها عوجا فيجعلون البدعة سنة والسنة بدعة والمعروف منكرا والمنكر معروفا
إن جردت التوحيد بينهم قالوا تنقصت جناب الأولياء والصالحين وإن جردت المتابعة لرسول
الله قالوا أهدرت الأئمة المتبوعين.
وإن وصفت الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير
قالوا أنت من المشبهين وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله
عنه ورسوله من المنكر قالوا أنت من المفتنين وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا
أنت من أهل البدع المضلين وإن انقطعت إلى الله تعالى وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا
قالوا أنت من المبلسين وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم فأنت عند الله تعالى من
الخاسرين وعندهم من المنافقين فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم
وأن لا تشتغل بإعتابهم ولا باستعتابهم ولا تبالي بذمهم ولا بغضبهم فإن عين كمالك كما
قال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
وقال آخر:
وقد زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امريء غير طائل".
أقول : تأمل الشكاية المرة في قول ابن القيم ( وإن جردت المتابعة لرسول
الله قالوا أهدرت الأئمة المتبوعين)، واليوم إن جردت المتابعة للسلف اتهمك المبطلون
بإهدار العلماء المعاصرين فما أشبه الليلة بالبارحة
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة
(1/133): "وكلما طالت المخالطة ازدادت اسباب الشر والعداوة وقويت وبهذا السبب
كان الشر الحاصل من الاقارب والعشراء اضعاف الشر الحاصل من الاجانب والبعداء".
وقال ابن القيم في مدارج السالكين (1/455): "وكم جلبت خلطة الناس
من نقمة ودفعت من نعمة وأنزلت من محنة وعطلت من منحة وأحلت من رزية وأوقعت في بلية
وهل آفة الناس إلا الناس وهل كان على أبي طالب عند الوفاة أضر من قرناء السوء لم يزالوا
به حتى حالوا بينه وبين كلمة واحدة توجب له سعادة الأبد وهذه الخلطة التي تكون على
نوع مودة في الدنيا وقضاء وطر بعضهم من بعض تنقلب إذا حقت الحقائق عداوة ويعض المخلط
عليها يديه ندما كما قال تعالى : ويوم يعض الظالم على يديه يقول : يا ليتني اتخذت مع
الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني
وقال تعالى : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
وقال خليله إبراهيم لقومه إنما
اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم
ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين
وهذا شأن كل مشتركين في غرض يتوادون
ما داموا متساعدين على حصوله فإذا انقطع ذلك الغرض أعقب ندامة وحزنا وألما وانقلبت
تلك المودة بغضا ولعنة وذما من بعضهم لبعض لما انقلب ذلك الغرض حزنا وعذابا
كما يشاهد في هذه الدار من أحوال
المشتركين في خزيه إذا أخذوا وعوقبوا فكل متساعدين على باطل متوادين عليه : لا بد أن
تنقلب مودتهما بغضا وعداوة
والضابط النافع في أمر الخلطة : أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة
والأعياد والحج وتعلم العلم والجهاد والنصيحة ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات فإذا
دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر ولم يمكنه اعتزالهم
فالحذر الحذر أن يوافقهم وليصبر
على أذاهم فإنهم لا بد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر ولكن أذى يعقبه عز ومحبة
له وتعظيم وثناء عليه منهم ومن المؤمنين ومن رب العالمين وموافقتهم يعقبها ذل وبغض
له ومقت وذم منهم ومن المؤمنين ومن رب العالمين
فالصبر على أذاهم خير وأحسن عاقبة وأحمد مآلا وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم
في فضول المباحات فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه ويشجع نفسه ويقوي قلبه
ولا يلتفت إلى الوارد الشيطاني القاطع له عن ذلك بأن هذا رياء ومحبة لإظهار علمك وحالك
ونحو ذلك فليحاربه وليستغن بالله ويؤثر فيهم من الخير ما أمكنه فإن أعجزته المقادير
عن ذلك فليسل قلبه من بينهم كسل الشعرة من العجين وليكن فيهم حاضرا غائبا قريبا بعيدا
نائما يقظانا ينظر إليهم ولا يبصرهم ويسمع كلامهم ولا يعيه لأنه قد أخذ قلبه من بينهم
ورقى به إلى الملأ الأعلى يسبح حول العرش مع الأرواح العلوية الزكية
وما أصعب هذا وأشقه على النفوس
وإنه ليسير على من يسره الله عليه فبين العبد وبينه أن يصدق الله تبارك وتعالى ويديم
اللجأ إليه ويلقي نفسه على بابه طريحا ذليلا ولا يعين على هذا إلا محبة صادقة والذكر
الدائم بالقلب واللسان وتجنب المفسدات الأربع الباقية الآتي ذكرها ولا ينال هذا إلا
بعدة صالحة ومادة قوة من الله عز و جل وعزيمة صادقة وفراغ من التعلق بغير الله تعالى
والله تعالى أعلم".
كلام ابن القيم هنا نفيس غاية تأمله جيداً ولا تغفل منه سطراً
قال شيخ الإسلام كما في مجموع
الفتاوى (15/ 129): "فَالْمُخَالَّةُ إذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ مَصْلَحَةِ الِاثْنَيْنِ
كَانَتْ عَاقِبَتُهَا عَدَاوَةً وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَصْلَحَتِهِمَا إذَا كَانَتْ
فِي ذَاتِ اللَّهِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا وَإِنْ بَذَلَ لِلْآخَرِ إعَانَةً عَلَى مَا يَطْلُبُهُ
وَاسْتَعَانَ بِهِ بِإِذْنِهِ فِيمَا يَطْلُبُهُ فَهَذَا التَّرَاضِي لَا اعْتِبَارَ
بِهِ ؛ بَلْ يَعُودُ تَبَاغُضًا وَتَعَادِيًا وَتَلَاعُنًا".
وفي هذا موعظة للذين حملهم فضول الخلطة على التناصر على الظلم والباطل
ووالله أن عاقبة أمرهم إلى عداوة وخسران ، ولهم في غيرهم مثلات لو كانوا يعقلون.
قال أبو نعيم في الحلية (8/146) : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْعُثْمَانِيُّ , ثنا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْمِصْرِيُّ , ثنا مُحَمَّدُ
بْنُ آدَمَ، ثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصُ , ثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ
خُبَيْقٍ , قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْعِرَاقِيُّ: قَالَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ:
«خَالَطْتُ النَّاسَ خَمْسِينَ سَنَةً فَمَا وَجَدْتُ رَجُلًا غَفَرَ لِي ذَنْبًا وَلَا
وَصَلَنِي إِذَا قَطَعْتُهُ وَلَا سَتَرَ عَلَى عَوْرَةٍ , وَلَا ائْتَمَنْتُهُ إِذَا
غَضِبَ فَالِاشْتِغَالُ بِهَؤُلَاءِ حَمَقٌ كَبِيرٌ».
وهذا في عصره فما عسانا نقول نحن والله المستعان، قال ابن أبي الدنيا في
الصمت 36 - حدثني هارون بن عبد الله ، حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس ، عن وهيب بن الورد
رحمه الله ، قال : كان يقال: «الحكمة عشرة أجزاء : فتسعة منها في الصمت ، والعاشرة
عزلة الناس».
وهذا إسناد قوي وقد أراد عزلتهم في غير ما ينفع في أمر الآخرة، وهذا ما
نعبر عنه بفضول الخلطة.
وقال المروذي في أخبار الشيوخ ص135 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَبُو إِسْحَاقَ،
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، كَتَبَ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ : مِنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ إِلَى عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ، أَمَّا
بَعْدُ : فَإِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ : يَتَعَوَّذُونَ أَنْ يُدْرِكُوهُ
فِيمَا بَلَغَنَا، وَلَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ لَنَا، وَلَهُمْ مِنَ الْقِدَمِ
مَا لَيْسَ لَنَا، فَكَيْفَ بِنَا حِينَ أَدْرَكْنَا؟ ! عَلَى قِلَّةِ عِلْمٍ وَبَصَرٍ،
وَقِلَّةِ صَبْرٍ، وَقِلَّةِ أَعْوَانٍ عَلَى الْخَيْرِ، وَفَسَادٍ مِنَ النَّاسِ،
وَكَدَرٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَعَلَيْكَ بِالأَمْرِ الأَوَّلِ، وَالتَّمَسُّكِ بِهِ،
وَعَلَيْكَ بِالْخُمُولِ، فَإِنَّ هَذَا زَمَانُ خُمُولٍ.
وَعَلَيْكَ بِالْعُزْلَةِ، وَقِلَّةِ مُخَالَطَتِهِمْ، فَإِنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ يَقُولُ : إِيَّاكُمْ وَالطَّمَعَ، فَإِنَّ
الطَّمَعَ فَقْرٌ، وَإِنَّ الْيَأْسَ غِنًى، وَفِي الْعُزْلَةِ رَاحَةً مِنْ خُلَطَاءِ
السُّوءِ، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ : الْعُزْلَةُ عِبَادَةٌ.
وَكَانَ النَّاسُ إِذَا الْتَقَوُا انْتَفَعَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَأَمَّا
الْيَوْمَ فَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ، وَالنَّجَاةُ فِي تَرْكِهِمْ فِيمَا نَرَى.
وَإِيَّاكَ وَالأُمَرَاءَ أَنْ تَدْنُوَ إِلَيْهِمْ، أَوْ تُخَالِطَهُمْ
فِي شَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُخْدَعَ وَيُقَالُ لَكَ : تَشْفَعُ
فَتَدْرَأُ عَنْ مَظْلَمَةٍ، أَوْ تَرُدُّ مَظْلَمَةً، فَإِنَّ تِلْكَ خَدِيعَةُ إِبْلِيسَ،
وَإِنَّمَا اتَّخَذَهَا فُجَّارُ الْقُرَّاءِ سُلَّمًا، كَانَ يُقَالُ : اتَّقُوا فِتْنَةَ
الْعَابِدِ الْجَاهِلِ، وَالْعَالِمِ الْفَاجِرِ، فَإِنَّ فِتْنَتَهُمْ فِتْنَةٌ لِكُلِّ
مَفْتُونٍ، وَمَا كُفِيتُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ وَالْفُتْيَا، فَاغْتَنِمْ ذَلِكَ وَلا
تُنَافِسْهُمْ فِيهِ.
وَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يُحِبُّ أَنْ يُعْمَلَ بِقَوْلِهِ، أَوْ
يُنْشَرَ قَوْلُهُ، وَأَنْ يُسْمَعَ مِنْ قَوْلِهِ، فَإِذَا تُرِكَ ذَلِكَ مِنْهُ عُرِفَ.
الله أكبر سفيان يعتبر زمنه الزمن الذي تعوذ منه أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم
فما عسانا نقول نحن والله المستعان.
وقال البيهقي في الزهد 170 - أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أنبأنا عثمان
بن أحمد ، حدثنا الحسن بن عمرو قال : سمعت بشرا يقول : قال سفيان : «ليس الزهد في لبس
الخشن وأكل الجشب ، إنما الزهد في قصر الأمل ، ثم قال : ما أحسن ما قال أبو عبد الله
ثم قال : أنا أقول : إن الزهد في ترك معرفة الناس».
بشر هذا هو الحافي والسند إليه قوي.
وقال ابن حبان في روضة العقلاء ص27 : أنبأنا عمرو بن سعيد سنان الطائي
حدثنا حامد بن يحيى البلخي قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول ((رأيت الثوري في المنام،
فقلت له: أوصني، فقال: أقِلَّ معرفة الناس، أقل معرفة الناس، أقل معرفة الناس)).
وهذا إسناد قوي.
وقال ابن أبي الدنيا في إصلاح المال 470 - حدثني محمد بن إدريس ، قال
: سمعت ابن مهنا ، قال : قال الهيثم بن جميل: «إن الرجل ليبلغني عنه أنه ينقصني ، فأذكر
استغنائي عنه فيهون علي».
471 - حدثني محمد بن إدريس ، قال : سمعت ابن المهنا قال: «قال بعض العقلاء
: إن الرجل ليجفوني فإذا ذكرت استغنائي عنه وجدت لجفائه بردا على كبدي».
قال البيهقي في الشعب 1793 - أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال : سمعت أبا
الحسن السري يقول : سمعت عثمان بن سعيد يقول : نعيم بن حماد يقول : كان ابن المبارك
يكثر الجلوس في بيته فيقال له تكثر الجلوس في بيتك ألا تستوحش ؟ فيقول كيف استوحش و
أنا مع النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و التابعين لهم بإحسان.
أي أنه يجمع حديثهم ويستأنس به ، وإي والله ما ألذ حديثهم وما أطيبه ،
وما أبعده للهم والغم والمحروم والله من حرمه
قال أبو نعيم في الحلية (6/
388) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ رَوْحٍ، ثَنَا عَبْدُ
اللهِ بْنُ خُبَيْقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ يُوسُفَ بْنَ أَسْبَاطٍ، يَقُولُ: كُنْتُ مَعَ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ: وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ، وَرَبِّ هَذِهِ الْكَعْبَةِ لَقَدْ حَلَّتِ الْعُزْلَةُ.
يعني مما يرى من المنكرات فكيف بنا اليوم والله المستعان.
وقال ابن أبي الدنيا في مداراة الناس 122 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُصْلِحٍ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ
مُسْلِمٍ الْخَفَّافُ، قَالَ: قَالَ لِي سُفْيَانُ: " يَا عَطَاءُ احْذَرِ النَّاسَ،
وَأَنَا فَاحْذَرْنِي، فَلَوْ خَالَفْتَ رَجُلًا فِي رُمَّانَةٍ فَقَالَ: حَامِضَةٌ،
وَقُلْتَ: حُلْوَةٌ، أَوْ قَالَ: حُلْوَةٌ، وَقُلْتَ: حَامِضَةٌ؛ لَخَشِيتُ أَنْ يَشِيطَ
بِدَمِي".
وما أكثر هذا الصنف اليوم حبهم كلف وبغضهم تلف ما أسرع انقلابهم وما أشد
تقلبهم لا يرغبون في أخيهم إذا انقلبوا إلا ولا ذمة وليت ذاك بعلم وعدل ، وأنى لهم
العلم والعدل وقد صبغوا بنقيضهما.
قال أبو نعيم في الحلية (8/109) : حَدَّثَنَا أَبِي , ثنا مُحَمَّدُ بْنُ
جَعْفَرٍ , ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَزِيدَ , ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ، قَالَ:
سَمِعْتُ فُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ , يَقُولُ: «الذَّاكِرُ سَالِمٌ مِنَ الْإِثْمِ مَا
دَامَ يَذْكُرُ اللهَ , غَانِمٌ مِنَ الْأَجْرِ»، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنِ اسْتَوْحَشَ
مِنَ الوَحْدَةِ وَاسْتَأَنْسَ بِالنَّاسِ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ الرِّيَاءِ».
وقال أبو زرعة الدمشقي في تاريخه (1/50) : وأخبرني الحارث بن مسكين عن
ابن وهب قال: حدثني مالك بن أنس قال: كان الناس الذين مضوا يحبون العزلة والانفراد
من الناس، ولقد كان سالم أبو النضر، يفعل ذلك
وهذا إسناد صحيح.
وقال ابن أبي شيبة في المصنف 36522- حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، قَالَ
: حدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ ، قَالَ : قَالَ
أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلاَنِيُّ : كَانَ النَّاسُ وَرَقًا لاَ شَوْكَ فِيهِ ، وَإِنَّهُمَ
الْيَوْمَ شَوْكٌ لاَ وَرَقَ فِيهِ ، إنْ سَابَبْتَهُمْ سَابُّوك ، وَإِنْ نَاقَدْتَهُمْ
نَاقَدُوكَ ، وَإِنْ تَرَكْتَهُمْ لَمْ يَتْرُكُوك.
أبو مسلم تابعي من كبار التابعين فما عسانا نقول اليوم فيمن بقينا بين
أظهرهم بعد أربعة عشر قرناً ، والإسناد إلى أبي مسلم قوي والله المستعان.
قال أبو نعيم في الحلية (9/ 184) :حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ،
قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، يَقُولُ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَوْمًا
فَنَظَرَ إِلَى رِجْلَيَّ وَهُمَا لَيِّنَتَانِ لَيْسَ فِيهِمَا شِقَاقٌ
فَقَالَ لِي: مَا هَذَانِ الرِّجْلَانِ،
لِمَ لَا تَمْشِي حَافِيًا حَتَّى تَصِيرَ رِجْلَيْنِ خَشِنَتَيْنِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَخَرَجَ إِلَى طَرَسُوسَ مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَكَانَ أَبِي أَصْبِرَ النَّاسِ عَلَى الْوَحْدَةَ
لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ، أَوْ حُضُورِ جَنَازَةٍ، أَوْ عِيَادَةِ مَرِيضٍ،
وَكَانَ يَكْرَهُ الْمَشْيَ فِي الْأَسْوَاقِ .
وهذا إسناد صحيح إلى إمام أهل السنة وهذا الذي كان عليه الإمام هو الاعتدال
في هذا الباب إذا أضيف ما كان من تعلم وتعليم ، وزيارة بعض الصالحين لغرض التواصي على
الخير ، لا اللهو واللعب أو التواصي بأذية المسلمين كما يفعله البعض ويحسب أنه يحسن
صنعاً وإنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم