السبت، 3 يناير 2015

قاعدة في فقه كبار التابعين وأثره في الترجيح الفقهي



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

إننا لله وإنا راجعون ، يحتاج المرء في هذا الزمان إلى إنفاق وقت طويل في توضيح الواضحات ، وذلك أن البلادة قد استولت على عقول الكثيرين بسبب الثقافة المادية ، فآثروا مسالك الظاهرية كابن حزم وأضرابه والذي كان متأثراً بالمنطق

ومن أبرز سوآت هذا المسلك عدم اعتبار القرائن نفياً وإثباتاً

بل تجد أحدهم يذكر قاعدة سليمة ويطبقها أبداً بغض النظر عن القرائن التي قد تقترن بالقاعدة فتخرجها عن سمتها

وأما السلف فكان مسلكهم أدق من هذا بكثير

وقد تكلم ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية عن الحكم بالقرائن وأهميته بكلام حسن

وقد تكلمت في مقال عن سبب احتجاج الشافعي بخبر ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) مع انقطاعه الظاهر وبينت القرائن التي دلت الشافعي على صحة الخبر

وتكلمت في مقالي عن أن معظم الأحكام الشرعية الثابتة قطعية الثبوت عن أمر القرائن هذا

وخذ مثالاً أثر مجاهد في المقام المحمود

احتمل الناس رواية ليث عن مجاهد لكونها في خبر مقطوع وهذه قرينة حفظ كما أن رواية ليث عن مجاهد صحيفة أصلاً ثم إن متن الخبر مما يحفظ مثله

وقالوا بالمتن لأن مجاهداً مختص بالتفسير وحمله عن ابن عباس وقد تكلم بهذا التفسير بين ظهراني الأخيار فلو كان فيه ما يستنكر لتكلموا بل لا مجال في تفسير مجاهد هذا للرأي ومجاهد في التفسير بالذات مراسيله قوية لشدة لزومه لابن عباس

لهذا تلقى السلف الأوائل هذا الخبر بالقبول فلما ظهر من ينكره احتجوا بتلقي السلف له بالقبول فلما أظهر شبهة الجهمية في دفعه جهموه

ولهذا يقول ابن القيم في الكافية الشافية

إن كان تجسيماً فإن مجاهداً *** هو شيخهم بل شيخه الفوقاني

وشاء الله أن يخزي الجهمية فعلى مجاهد عولوا في إنكار الرؤية فجاءتهم هذه الصاعقة من مجاهد

نعم التابعون أقوالهم ليست حجة بإطلاق ، ولكنها قد تصير حجة بالقرائن

قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم :" أنت ترى عامة كلام أحمد إنما يثبت الرخصة بالأثر عن عمر، أو بفعل خالد بن معدان  ليثبت بذلك أن ذلك كان يفعل على عهد السلف، ويقرون عليه، فيكون من هدي المسلمين، لا من هدي الأعاجم وأهل الكتاب، فهذا هو وجه الحجة، لا أن مجرد فعل خالد بن معدان حجة."

فهذا هو الفهم الدقيق للتصرفات السلفية ولنأخذ ها هنا عدة أمثلة

المثال الأول : قال ابن أبي شيبة في المصنف 23224 - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، «أَنَّ رَجُلًا كَسَرَ طُنْبُورَ الرَّجُلِ فَخَاصَمَهُ إِلَى شُرَيْحٍ فَلَمْ يُضَمِّنْهُ شَيْئًا»

شريح القاضي من كبار التابعين وقد كان قاضياً عند عمر وعثمان وعلي

قضاؤه هذا يقتضي القول بتحريم الطنبور ومثله بقية المعازف

فلو لم يكن هذا الأمر فاشياً في ذلك العصر لما حكم شريح بهذا وهذا القضاء كان بمرأى ومسمع من أعيان الصحابة والتابعين

والأصل في الأشياء الإباحة فحين ينتقل القاضي شريح من الإباحة إلى التحريم فلا بد أن يكون قد صح عنده شيء عن شيوخه من كبار الصحابة


وقال ابن المنذر في الأوسط [7/ 33]:
حدثنا أبو حاتم الرازي، قال: حدثنا سليمان بن حرب سنة خمس عشرة بمكة، عن حماد بن زيد عن أيوب، عن محمد، أن شريحاً كان يرى رد اليمين.
قال سليمان: هذا قاضي عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي.
أقول: استدل سليمان بن حرب على سداد قول شريح بأنه كان قاضياً عند عمر وعثمان وعلي.

فهذا المثال اجتمعت فيه القرائن الموجودة في أثر مجاهد الذي تلقاه السلف بالقبول والقرائن الموجودة في أثر خالد بن معدان الذي احتج به أحمد وشرح ابن تيمية وجه احتجاجه به وزاد عليهم قرينة كون شريح من كبار التابعين وكونه كان قاضياً عند الراشدين فالأخذ بقضائه ما لم يرد مخالف من سنة الراشدين وكونه حكم بإهدار شيء الأصل أن له قيمة ولا يقدم عاقل على مثل هذا إلا بدليل شرعي

فهذا يدلك على الواقع العملي في زمن الصحابة في هذا الباب

واعلم أن شريحاً لا يروي إلا عن الصحابة فتأمل هذا بل لا يروي إلا عن كبارهم

قال ابن أبي شيبة في المصنف 16669- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، وَابْنُ مَهْدِيٍّ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُسلِم ، قَالَ : قَالَ لِي خَيْثَمَةُ : أما سَمِعْت سُوَيْدًا يَقُولُ : لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ دُفٌّ.

وهذا إسناد صحيح لسويد بن غفلة وهو تابعي مخضرم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمعه كاد أن يكون صحابياً قدم المدينة وقد انتهوا للتو من دفن النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه أخذ هذا الحكم من الصحابة الكرام إذ أنه لم يأخذ العلم إلا من كبارهم ولا شك أن الصحابة أخذوه من النبي صلى الله عليه وسلم

وقال ابن أبي شيبة في المصنف 16668- حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ , عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ , عَنْ مَغْرَاءَ العبدي , عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ دُفٍّ , فَقَالَ : الْمَلاَئِكَةُ لاَ يَدْخُلُونَ بَيْتًا فِيهِ دُفٌّ.

مغراء هذا روى عنه الأعمش وأبو إسحاق ويونس والحسن وليث بن أبي سليم وهذا يقوي حاله جداً خصوصاً وأنه يروي خبراً مقطوعاً

وشريح هذا قاضي عمر وعثمان وعلي وهو تابعي كبير فلا شك أنه أخذ هذا الحكم عن كبار الصحابة الذين أخذ عنهم
وهذا هو حال الدف الذي يرخص في العرس فكيف بما دونه ؟

فلو لم يكن في تحريم المعازف إلا هذه الآثار الثلاثة لكانت كافية عند من لم بصيرة وتعظيم لفقه السلف فكيف بالنصوص الأخرى المتكاثرة وأقل الباب تركها ورعاً ولعمري هي محرمة البتة

قال ابن أبي خيثمة في تاريخه 3574- ودفع إليَّ علي بن الْمَدِيْنِيّ كتاب أبيه بخط أبيه فرأيت فيه: قَالَ يَحْيَى بْن سَعِيدٍ: أَتَىَ شُعْبَة بن الحَجَّاج المِنْهالَ بن عَمْرو فسمع صوتًا فتركه؛ يعني: الغناء.

فشعبة هنا يهجر محدثاً من أجل أنه سمع الغناء من بيته

وهنا يقف الباحث العاقل ويعمل القرائن

فشعبة إمام من أئمة أهل الحديث وهو في كثير من الأحاديث يمكنه الوصول للنبي بواسطتين فقط

وكان فيه شره في الرواية والسماع على انتقاء حسن ، فإقدامه على ترك راو ثقة لا يكون من أجل أمر فيه شبهة أو بحث بل لا يكون من شيء ثبت عنده فيه أخبار أو آثار

والمرء لا يهتدي إلى جميع آثار الصحابة والتابعين في الباب إلا بكلفة ، وربما اهتدينا لبعض الآثار ولم نهتدِ إلى وجه الدلالة منها والسلف لهم فقه دقيق يخفى على كثير من المتأخرين ، والمتأخرون معترفون بفضل السلف عليهم ألا تراهم يعمدون إلى بعض الفقهاء في زمن السلف ويقلدونهم ، فتأتي هذه الآثار لتشير لك إلى وجود ما قد يخفى عليك فيجب عليك التأني والتؤدة وعدم البت بالجواز لمجرد أنك اتبعت منهجاً معيناً في التعامل مع الأخبار المرفوعة يصطبغ بشيء من التعنت ، وبعض الآثار عن الصحابة ربما لا تبلغك إلا بأسانيد ضعيفة ويكون لها أسانيد صحيحة مخفية في بعض الأجزاء أو يكون ضعف الخبر مما يحتمل عند المحدثين لقرائن عندهم

فحين نرى راوياً يهجر الزهري على إمامته لأنه يخضب بالسواد فهذا يعني أن البحث في جواز هذا الفعل _ أعني الخضاب بالسواد _ ينبغي أن يكون أكثر تحفظاً وتأنياً ، وبعيداً عن النفس الظاهري ( ضعف أحاديث الباب ثم قل الأصل كذا وكذا وهو خلاف الأحاديث )!

وإن كان الأمر في الخضاب أهون منه في الغناء والمعازف وقد أفسدت أبحاث ابن حزم الخبيثة في هذا الباب جبلاً كثيراً

ولنأخذ مثالاً آخر

قال الطبري في تفسيره حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية عن ابن عون عن محمد عن عبيدة في قوله (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ) فلبسها عندنا ابن عون قال: ولبسها عندنا محمد قال محمد: ولبسها عندي عبيدة قال ابن عون بردائه فتقنع به، فغطى أنفه وعينه اليسرى وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه أو على الحاجب.
حدثني يعقوب قال ثنا هشيم قال أخبرنا هشام عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن قوله (قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ) قال: فقال بثوبه، فغطى رأسه ووجهه، وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه.

وهذا إسناد صحيح إلى عبيدة السلماني

فهو من هو عبيدة السلماني ؟

هو تابعي مخضرم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره وقد صلى في حياة النبي في ناحيته فقد كاد أن يصير صحابياً

وكان علمه في القضاء يوازي علم شريح بل كان شريح إذا استشكل يرسل إليه
و كان أحد أصحاب عبد الله الذين يقرئون و يفتون
و كان شريح إذا أشكل عليه الشىء قال : إن ها هنا رجلا فى بنى سلمان فيه جرأة ، فيرسلهم إلى عبيدة

أضف إلى هذا أن أصح الأسانيد عن علي ما رواه ابن سيرين عن عبيدة عن علي

هذا التابعي المخضرم يتكلم هنا في التفسير والتابعي إذا تكلم في التفسير فإن قوله يصير أقوى لسببين

الأول : أنهم كانوا يتورعون عن الكلام في القرآن بالرأي تورعاً شديداً وكان من يفعل ذلك يظهر ذمه ولهذا كان عدد من أعيان الفقهاء كابن المسيب يجبن عن الكلام في التفسير

الثاني : إذا كان التابعي متتلمذاً على صحابي مختص بالتفسير وتكلم بالتفسير بأمر يبعد عن الرأي كان غالب الظن أنه حمله عن هذا الصحابي كما قدمنا في تفسير مجاهد

وعبيدة سمع من علي وابن مسعود

ويزداد هذا الظن قوة إذا لم يرد عن الشيخ نفسه أو بقية التلاميذ ما يعارض

وقد اعتضد خبر عبيدة هذا بالمروي في صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وهي صحيفة قوية فيها مناكير غير أن ورود هذا الخبر من طريق عبيدة يقوي الظن بالرواية هنا



وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (4-156) : ومن تأمل كتب الائمة ومن بعدهم وجدها مشحونة بالاحتجاج بتفسير التابعي . ا.هــ -

وهذا للقرائن السابق ذكرها

وقد نص الترمذي علىة أن قتادة ومجاهداً لم يفسرا هذا التفسير من قبل أنفسهما فكيف بعبيدة وهو أكبر وأقعد بالعلم


وقال شيخ الإسلام في أجوبة الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية ص16 :" ثم نعلم أن الصحابة إذا كانوا حفظوا فالتابعون لهم بإحسانٍ الذين أخذوا عنهم وتَلقَّوا منهم لا يجوز أن يكونوا عَدَلوا في ذلك عما بلَّغَهم إيَّاه الصحابة، لا يجوز ذلك في العادة العامة، ولا في عادةِ القوم وما عُرِف من عقلهم ودينهم، مع ما علموه من وجوب ذلك عليهم في دينهم"

وقال الدارمي في الرد على المريسي ص594 :" وَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ سَمَّوْهُمُ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يَزَالُوا يَأْثِرُونَ عَنْهُمْ بِالْأَسَانِيدِ كَمَا يَأْثِرُونَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَيَحْتَجُّونَ بِهِمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَيَرَوْنَ آرَاءَهُمْ أَلْزَمَ مِنْ آرَاءِ من بعدهمْ، للاسم تَابِعِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: "وَلَا تُفْتِ النَّاسَ بِرَأْيِكَ" فَقَالَ: "رَأْيُنَا لَهُمْ خَيْرٌ مِنْ آرَائِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ"


تأمل هذين النقلين جيداً

أضف إلى جميع القرائن السابقة أن عبيدة هنا يحكي واقعاً عملياً يشاهده أمام عينيه وقد علم أن الصحابيات كن يغطين وجوههن حتى في الحج فهل فعلن ذلك على الإيجاب أم الاستحباب

هنا عبيدة ينزل الآية على فعلهن

ولهذا حمل ابن تيمية ما توهم مخالفته لأثر عبيدة هذا مع ما روي عن ابن عباس في صحيفة علي بن أبي طلحة على الناسخ والمنسوخ واعتبر هذا المتأخر باعتبار نزول الآيات ، وغيره حمل جواز كشف الوجه والكفين على عورة الصلاة دون الخروج

وهذه المسألة بحثها يطول غير أنني أردت التنبيه على ما يغفل عنه كثيرون عند بحث هذه المسائل

ويغتر ببعض شقاشق الظاهرية فإذا أتيتهم بتفسير تابعي أو فتيا أقرها الناس قالوا لك ( الحجة في الكتاب والسنة )

وهذه كلمة حق إلا أن اتباع القوم من اتباع الكتاب والسنة بالتفصيل الذي ذكرنا ونبهنا عليه
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم