الأربعاء، 30 يوليو 2014

من نفائس ابن تيمية : الحكمة من وجود من يلقي الشبهات على الحق



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

فمما يتساءل بعض الناس عن حكمته وجود أهل الشبهات الذين يشبهون على الحق في كل زمان ومكان ولله عز وجل في ذلك الحكمة البالغة فإنه يجعل بذلك تدبيرهم تدميرهم

وهنا كلام نفيس لابن تيمية في بيان الحكمة من ذلك

قال ابن تيمية في الجواب الصحيح (1/88) :" وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَعْدَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْمُجْرِمِينَ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، الَّذِينَ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا إِذَا أَظْهَرُوا مِنْ حُجَجِهِمْ مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى دِينِهِمُ الْمُخَالِفِ لِدِينِ الرَّسُولِ، وَيُمَوِّهُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا يُلَفِّقُونَهُ مِنْ مَنْقُولٍ وَمَعْقُولٍ - كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ ظُهُورِ الْإِيْمَانِ الَّذِي وَعَدَ بِظُهُورِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ بِالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ ثُمَّ بِالسَّيْفِ وَالْيَدِ وَالسِّنَانِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] .
وَذَلِكَ بِمَا يُقِيمُهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْخَالِيَ مِنَ الْعَاطِلِ، وَالْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ، وَالصِّدْقَ مِنَ الْمُحَالِ، وَالْغَيَّ مِنَ الرَّشَادِ، وَالصَّلَاحَ مِنَ الْفَسَادِ، وَالْخَطَأَ مِنَ السَّدَادِ، وَهَذَا كَالْمِحْنَةِ لِلرِّجَالِ الَّتِي تُمَيِّزُ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ. قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] .

وَقَالَ تَعَالَى: {الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ - أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 1 - 4] .
وَالْفِتْنَةُ هِيَ الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155] .
أَيِ امْتِحَانُكَ وَاخْتِبَارُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ خَالَفَ الرُّسُلَ وَتَهْدِي بِهَا مَنِ اتَّبَعَهُمْ.
وَالْفِتْنَةُ لِلْإِنْسَانِ كَفِتْنَةِ الذَّهَبِ إِذَا أُدْخِلَ كِيرَ الِامْتِحَانِ، فَإِنَّهَا تُمَيِّزُ جَيِّدَهُ مِنْ رَدِيئِهِ، فَالْحَقُّ كَالذَّهَبِ الْخَالِصِ، كُلَّمَا امْتُحِنَ ازْدَادَ جَوْدَةً، وَالْبَاطِلُ كَالْمَغْشُوشِ الْمُضِيءِ، إِذَا امْتُحِنَ ظَهَرَ فَسَادُهُ.
فَالدِّينُ الْحَقُّ كُلَّمَا نَظَرَ فِيهِ النَّاظِرُ، وَنَاظَرَ عَنْهُ الْمُنَاظِرُ، ظَهَرَتْ لَهُ الْبَرَاهِينُ، وَقَوِيَ بِهِ الْيَقِينُ، وَازْدَادَ بِهِ إِيْمَانُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَشْرَقَ نُورُهُ فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ.
وَالدِّينُ الْبَاطِلُ إِذَا جَادَلَ عَنْهُ الْمُجَادِلُ، وَرَامَ أَنْ يُقِيمَ عُودَهُ الْمَائِلَ، أَقَامَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَنْ يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ
فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ صَاحِبَهُ الْأَحْمَقَ كَاذِبٌ مَائِقٌ، وَظَهَرَ فِيهِ مِنَ الْقُبْحِ وَالْفَسَادِ، وَالْحُلُولِ، وَالِاتِّحَادِ، وَالتَّنَاقُضِ
والْإِلْحَادِ، وَالْكُفْرِ، وَالضَّلَالِ، وَالْجَهْلِ وَالْمُحَالِ، مَا يَظْهَرُ بِهِ لِعُمُومِ الرِّجَالِ أَنَّ أَهْلَهُ مِنْ أَضَلِّ الضُّلَّالِ، حَتَّى يَظْهَرَ فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ الْعِبَادِ، وَيَتَنَبَّهُ بِذَلِكَ مِنْ سِنَةِ الرُّقَادِ مَنْ كَانَ لَا يُمَيِّزُ الْغَيَّ مِنَ الرَّشَادِ، وَيَحْيَا بِالْعِلْمِ وَالْإِيْمَانِ مَنْ كَانَ مَيِّتَ الْقَلْبِ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِيِنَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ، فَإِنَّ مَا ذَمَّ اللَّهُ بِهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي كِتَابِهِ مِثْلُ تَكْذِيبِ الْحَقِّ الْمُخَالِفِ لِلْهَوَى، وَالِاسْتِكْبَارِ عَنْ قَبُولِهِ، وَحَسَدِ أَهْلِهِ، وَالْبَغْيِ عَلَيْهِمْ، وَاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْغَيِّ، وَالْبُخْلِ، وَالْجُبْنِ، وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ، وَوَصْفِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمِثْلِ عُيُوبِ الْمَخْلُوقِينَ، وَنَقَائِصِهِمْ، وَجَحْدِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ صِفَاتِ

الْكَمَالِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ الَّتِي لَا يُمَاثِلُهُ فِيهَا مَخْلُوقٌ، وَبِمِثْلِ الْغُلُوِّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْإِشْرَاكِ فِي الْعِبَادَةِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْقَوْلِ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِي يَجْعَلُ الْعَبْدَ الْمَخْلُوقَ هُوَ رَبُّ الْعِبَادِ، وَالْخُرُوجِ فِي أَعْمَالِ الدِّينِ عَنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْعَمَلِ بِمُجَرَّدِ هَوَى الْقَلْبِ وَذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ اتِّبَاعِ الْعِلْمِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، وَاتِّخَاذِ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ، وَالْعُبَّادِ أَرْبَابًا يُتَّبَعُونَ فِيمَا يَبْتَدِعُونَهُ مِنَ الدِّينِ الْمُخَالِفِ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] .
وَمُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ، بِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنَ التَّنَزُلَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْفُتُوحَاتِ الْقُدْسِيَّةِ، مَعَ كَوْنِهِ مِنْ وَسَاوِسِ اللَّعِينِ، حَتَّى يَكُونَ صَاحِبُهَا مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] "

وقال السعدي في تفسيره وهو يعدد فوائد قصة طالوت مع بني إسرائيل :"  ومنها: أن الحق كلما عورض وأوردت عليه الشبه ازداد وضوحا وتميز وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلاء، لما اعترضوا على استحقاق طالوت للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها الإقناع وزوال الشبه والريب"
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم