السبت، 26 يوليو 2014

على خطى المتكلمين في الرد على الملحدين



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

فإن الرد على المخالفين من باب إنكار المنكر ، وهذا الباب له فقهه ولا بد فيه من السير على خطى السلف ، وقد يوحي الشيطان للمرء برد شبهة تقطع الملحد أو المعطل ولكنها تفتح باب إحداث في الدين

وهذا ما حصل للمتكلمين قديماً ويحصل لعدد من الرادين على الملاحدة حديثاً

قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية والزنادقة :" بشرًا كثيرًا. فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله، أنه كان من أهل خرسان. من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله تعالى، فلقي أناسًا من المشركين يقال لهم: السمنية فعرفوا الجهم فقالوا له: نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك3، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له:
"ألست تزعم أن لك إلَهًا؟
قال الجهم: نعم.
فقالوا له: فهل رأيت إلهك!.
قال: لا.
قالوا: فهل سمعت كلامه؟
قال: لا.
قالوا: فشممت له رائحة؟
قال: لا.
قالوا: فوجدت له حسًّا؟
قال: لا.
قالوا: فوجدت له مجسًّا؟
قال: لا.
قالوا: فما يدريك أنه إله؟.
قال: فتحير الجهم فلم يدرِ من يعبد أربعين يومًا. ثم إنه

استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما يشاء وينهى عما يشاء، وهو روح غائبة عن الأبصار.
فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني:
ألست تزعم أن فيك روحًا؟
قال: نعم.
فقال: هل رأيت روحك؟
قال: لا.
قال: فسمعت كلامه؟
قال: لا.
قال: فوجدت له حسًّا؟
قال: لا.
قال: فكذلك الله لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان. ووجد ثلاث آيات من المتشابه:
وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] .
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] .
{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]"

أقول : فالجهم أراد الرد على الملاحدة فوقع في الكفر من جهة جهله وأخذ يحرف كتاب الله عز وجل ، وهذا الذي وقع فيه الجهم وقع فيه عمرو الشريف في كتابه ( رحلة عقل ) وهو فعلاً رحلة عقل ! حيث أجاب على سؤال الملاحدة عن رؤية الله عز وجل

فأجاب : بأن الله لا تدركه الحواس واستدل بقوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار )

فاستدل بعين استدلال الجهمية وخلط بين الإدراك ومطلق الرؤية وأحاديث الرؤية متواترة وقد قال الله تعالى ( وجوه يؤمئذ ناضرة إلى ربها ناظرة )

والإدراك أخص من مطلق الرؤية

والجواب من ثلاثة أوجه على استدلال الجهمية :
الأول: أن المعنى لا تدركه الأبصار، أي في الدنيا، فلا ينافي الرؤية في الآخرة.
الثاني: أنه عام مخصوص برؤية المؤمنين له في الآخرة، وهذا قريب في المعنى من الأول.
الثالث: وهو الحق: أن المنفي في هذه الآية الإدراك المشعر بالإحاطة بالكنه. أما مطلق الرؤية فلا تدل الآية على نفيه، بل هو ثابت بهذه الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة واتفاق أهل السنة والجماعة على ذلك.
وحاصل هذا الجواب: أن الإدراك أخص من مطلق الرؤية، لأن الإدراك المراد به الإحاطة. والعرب تقول: رأيت الشيء وما أدركته، فمعنى: لا تدركه الأبصار: لا تحيط به، كما أنه تعالى يعلمه الخلق، ولا يحيطون به علمًا.
وقد اتفق العقلاء على أن نفي الأخص، لا يستلزم نفي الأعم، فانتفاء الإدراك لا يلزم منه انتفاء مطلق الرؤية، مع أن الله تعالى لا يدرك كنهه على الحقيقة أحد من الخلق.
والدليل على صحة هذا الوجه ما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى مرفوعًا: "حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" فالحديث صريح في عدم الرؤية في الدنيا ويفهم منه عدم إمكان الإحاطة مطلقًا ( ملخص من كلام بعض المعاصرين )

فعمرو الشريف وقع فيما وقع فيه الجهم بالضبط وهو يتحدث عن تجديد الخطاب الديني ولم يأتِ بجديد بل أعاد لنا قصة الجهم بن صفوان

وقد صرح في كتابه بأن الله عز وجل غير مادي وأن هذا اعتقاد الأديان السماوية ! ( وهذه الكلمة فيها نظر فالدين واحد عند الله والشرائع تختلف )

وهذا من كلام الجهمية وليس من كلام المسلمين واليهود والنصارى

ولما تكلم عن السببية وتأثيرها لم يذكر إلا قول الجبرية الأشعرية وسماه قول أهل السنة والجماعة ، وأغفل قول أهل السنة والمعتزلة والماتردية مما يدل على ضعف معرفي شديد في باب العقيدة ثم يتحدث عن تجديد الخطاب الديني

ولما نظرت في كلام السير أنتوني فلو الذي وصفه بالفيلسوف الكبير ، فمع أنه أحرج الملاحدة وحطمهم إلا أن كلامه في الفلسفة بدائي جداً كل من له أدنى إلمام يعرف هذا إلا أنه في الغرب هم ضعفاء جداً في هذه الأبواب لطغيان المادية عليهم

وعوداً على الموضوع الأصل لو نظرنا في حال المتكلمين في الإسلام تجد أنهم جعلوا مسألة وجود الله مسألة المسائل ، ثم صاروا يتكلفون لإثبات وجود الله عز وجل طريقة معقدة جداً وطويلة وهي طريقة الحدوث

فتبدأ هذه الطريقة بإثبات وجود الأعراض في الجواهر ثم إثبات حدوث الأعراض ثم إثبات أن ما حلت به الحوادث لم يخل منها وهذا يدل على حدوثه ، ثم تأتي مقدمة أن المحدث _ بفتح الدال _ لا بد له من محدث _ بكسر الدال _

وهذه المقدمات الطويلة لو أردت أن تجمع فيه كلامهم في أوراق ثم أضرمت فيها ناراً لما استطاعت النار أن تحرق كلامهم كله من كثرته

ثم التزموا من أجل هذه الطريقة نفي الصفات كلها لأنها أعراض وإثباتها يقتضي حدوث الرب ( وهذا التزمته المعتزلة والجهمية )

وأما الكلابية والأشعرية والماتردية فقالوا أن الأعراض لا تدوم زمانين فأخرجوا الصفات الذاتية أو الصفات السبع ، وامتثلوا نفي الصفات الفعلية

والتزموا أموراً أخرى فصدقوا الأنبياء في باب وكذبوهم في أبواب

وجاء نقد شيخ الإسلام ابن تيمية عليهم ونقض أدلتهم ونبه على عدة أمور

أهمها أن وجود الله عز وجل مسألة فطرية يشترك فيها عامة الناس ولا يخالف إلا شرذمة قليلون منتكسي الفطرة والرد عليهم سهل ميسر ، وعامة أقوام الأنبياء كانوا يؤمنون بوجود الله عز وجل وأنه الخالق العليم وإنما الإشكال كان في باب العبادة

ولهذا ما ذكره عمرو الشريف في كتابه ( رحلة عقل ) عن بعض الأجانب أنه قال أن لا حاجة إلى معجزات الأنبياء لإثبات وجود الله عز وجل وأن العلم الحديث اكتشف وجود الله عز وجل

يجاب عليه بأنه من قال لك أن آيات الأنبياء جاءت لتبين وجود الله عز وجل فهذه لم تكن مسألة خلافية بينهم وبين أقوامهم

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ )

بل هم يعرفون من صفات الله عز وجل ما لا يعرفه الجهمية والفلاسفة فيقرون بعلوه ورحمته وقدرته وعزته

وإنما جاءت لبيان أنه لا يستحق العبادة إلا الله وأن هؤلاء الرجال أنبياء يبلغون أقوامهم ما يريده الله عز وجل منهم ، ويخبرونهم عن صفاته التي لا تدرك بالعقل المجرد ولا شك أن العقل لا يحيلها إذ لا تعارض بين العقل والنقل

فالذي توصل إليه السير أنتوني فلو بعد 65 عاماً من رحلة عقله من وجود الله عز وجل كان أبو جهل ومسيلمة الكذاب وأبو لهب يعلمون ما هو أعمق منه وأكثر موافقة لما جاء به الأنبياء وأقرب للعقل السليم

والمرتدون الذين قاتلهم الصحابة لم يكن أحدهم منهم ينكر وجود الله أو أي صفة من صفاته الثابتة ، ولم يجحد أحد منهم النبوة بل جحدوا ختمها ولم يجوزوا عبادة غير الله عز وجل فتأمل هذا جيداً

ثم ذكر شيخ الإسلام أن الأدلة على وجود الله عز وجل لا تدخل في الحصر ولا تحتاج إلى هذه المقدمة المعقدة وأنها منتقضة بالعقل السليم وما فيها من الصواب قد دل عليه الوحي أحسن دلالة وأخصرها

( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون )

والخلاصة أن عدداً من الرادين على الملاحدة يسيرون على خطى أهل الكلام من حيث لا يشعرون كأمثال محمد العوضي الذي يثني على كتاب رحلة عقل وعلى ما كتب سعيد فودة في الباب ، والمدعو أحمد الشقيري وغيرهم

وبعض الناس اتخذ هذا الباب وسيلة لترويج ضلاله كعدنان إبراهيم الذي بدأ الأمر بالرد على الملاحدة ثم لما ظهرت أطروحاته الغبية المتناقضة التي اتضح منها أن قصد الإغراب طاغ على البحث العلمي النزيه أصدر مقطعاً عنون له ب( ماذا قدم شيوخكم في الرد على الملاحدة ) ، وكذا أحمد الشقيري الذي صار يجعل من أسباب الإلحاد أخلاق المتدينين ( كمن يبرر جريمة قتل بأن القاتل هناك من سرق منه حلوى وهو صغير ) ، وكذلك هارون يحيى الذي اقتبس من مايكل بيهي كثيراً وزاد ونقص وغيره ممن نقد نظرية التطور ثم ظهر إيمانه بالحلول

حتى أن مسألة الإلحاد تم تضخيمها أكثر مما ينبغي ، لغاية معلومة والله المستعان

والذي ينبغي التنبه له عند الكلام على الإلحاد عدة أمور

أولها : أن كثيراً من هؤلاء دعي إلحاد ليس ملحداً حقاً قد يكون رافضياً أو نصيرياً أو نصرانياً أو يهودياً كما ثبت بأدلة قاطعة ، وهؤلاء يكون هجومهم على دين الإسلام بالخصوص ودين أهل السنة بالذات والملحد ينبغي أن يكون معادياً لكل الأديان

فمثل هذا الكلام معه فيما يرد فيه الملحد الحقيقي لا يجدي لأنه مغتاظ من الإسلام وحسب ، وهذا لا يرد على شبهاته إلا العالم بدين الله عز وجل وفي العادة تكون شبهات مكرورة للمنصرين والمستشرقين

ثانيها : أن أكثر الملحدين إلحادهم نفسي كما ثبتت بذلك الدراسات ومقدمته معضلة الخير والشر الذي كانت من أسخف المعضلات التي استغنى الدهريون منذ زمن طويل لسخفها ولجواب عامة أهل الأديان عليها والذي يكفي لحلها الإيمان باليوم الآخر يوم العدل المطلق ، وهذه الجواب عليها يحسنه أهل السنة الذين يتكلمون في باب الحكمة والتعليل بكلام متزن

والذي أريد قوله من ذكر هذا أن كثيراً من الردود وترجمة الأبحاث المتعلقة بأمر التطور لا يصيب أصل الشبهة ولا يضربه في مقتل لأنه لا يضرب المقدمة فأولئك الذين كان سبب إلحادهم أمر التطور قليلون حقاً وما هذا الأمر إلا ذريعة تبرر ذلك السلوك النفسي المنحرف

والرد على مزاعم التطوريين جيد ولا إشكال فيه غير أن بقية شبه الملحدين شبه قديمة تجد الجواب عليها في كلام ابن تيمية وابن القيم وعدد من المشيخة المعاصرين ، وفي الغرب الكافر توجد ردود كثيرة جداً ومحرجة للملحدين فالأمر ليس بذلك الخطب الجلل

والذي يتطلب التنازل عن بعض الدين فيما يرى هؤلاء أو التحالف مع كل مبطل ضدهم  

ثم لو فرضنا أن شخصاً ترك الإلحاد ودخل في الإسلام ( وهذا يحصل كثيراً والحمد لله ) وأراد تعلم دينه فإنه لن يجد إلا طريق من تسمونهم ب( التقليديين ) إذا أراد أن يسلم من البدع ويتعلم دينه حقاً فلا داعي لتحقير أهل العلم من السلف والخلف وتلك الدعاوى الفارغة لتجديد الخطاب الديني ( ويريدون بالتجديد الإحداث )  

وأخيراً أخاطبهم بلغة يحبون سماعها 

 يقول ا  الفلكي و الفزيائي و المسوؤل السابق في مؤسسة النازا Robert Just Row في كتابه God And The Astronomers:


"العالم الذي يمضي حياته مؤمناً بقوة المنطق حكايته تنتهي ككابوس حيت يتسلّق فيه جبل المعرفة و عنذ إقترابه من القمة يصعد الحجر الأخير ليجد اللا هوتيين" أي الدينيين " قد سبقوه إلى القمة بقرون ! "

وأقول اللاهوتيون المسلمون من أهل السنة وصلوا إلى ما هو أعلى من ذلك حيث عرفوا صفات الرب وما يحب وما يكره 

وقال ابن الوزير الزيدي في ترجيح أساليب القرآن ص46 :" ومن جحد آيات الله وبراهين القرآن فهو لدقائق الكلام أجحد " 

وهذه رسالة عميقة ينبغي تأملها من رجل اكتوى بنار الكلام وبقي فيه من ضلالاته ما بقي 
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم