الثلاثاء، 10 يونيو 2014

لم يثبت عن السلف التفريق بين صلاة [ التراويح ] وصلاة [ القيام ] في العشر الأواخر من رمضان ....



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

فمما اشتهر في هذه الأعصار التفريق بين صلاة التراويح وصلاة القيام في رمضان في الاسم والحقيقة !

فتجد أن الناس يصلون في أول عشرين ليلة صلاة التراويح ، ثم في العشر الأواخر يصلون صلاة القيام حتى إذا قلت أنا ذاهب أصلي التراويح  في العشر ربما سخر منه بعض الناس وقالوا : " هذه أيام قيام وليست أيام تراويح " !
وصلاة التراويح على النسق الموجود الآن تختلف عن صلاة القيام من ثلاثة أوجه :

الأول : الاسم
الثاني : وقت الصلاة فالتراويح تصلى أول الليل والقيام يصلى آخر الليل
الثالث : صفة القراءة فالقراءة في القيام أطول منها في التراويح

والسؤال هنا :
هل ثبت هذا التفريق بأوجهه الثلاثة عند السلف ؟

أما التفريق في التسمية فلا أصل له عند السلف ، فالصلاة التي يجتمع لها عند السلف هي التراويح وهي القيام
وإنما تسمى صلاة القيام إذا كان المصلي منفرداً ، ولا تسمى التراويح إلا عند الإجتماع وكذلك تسمى القيام

سئل ابن باز ما هو الفرق بين صلاة التراويح والقيام والتهجد . أفتونا مأجورين ؟

ج : الصلاة في الليل تسمى تهجدا وتسمى قيام الليل ، كما قال الله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}  وقال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلًا } وقال سبحانه في سورة الذاريات عن عباده المتقين : { آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}

أما التراويح فهي تطلق عند العلماء على قيام الليل في رمضان أول الليل مع مراعاة التخفيف وعدم الإطالة ويجوز أن تسمى تهجدا وأن تسمى قياما لليل ولا مشاحة في ذلك والله الموفق . اهـ
المصدر : من الأسئلة الموجهة من [  المجلة العربية ] .

وأما التفريق من جهة الوقت ، فهذا أكثر إشكالاً ، ولكي يتبين محل الإشكال نسأل عدة أسئلة :

السؤال الأول : متى قام النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى بالناس ومتى قام أصحابه ؟

أما النبي صلى الله عليه وسلم
فعن أبي ذر ، قال : [ صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى إذا كانت ليلة أربع وعشرين السابع مما يبقى صلى بنا حتى كاد أن يذهب ثلث الليل ، فلما كانت ليلة خمس وعشرين لم يصل بنا ، فلما كانت ليلة ست وعشرين الخامسة ، مما يبقى صلى بنا حتى كاد أن يذهب شطر الليل ، فقلت : يا رسول الله ، لو نفلتنا بقية ليلتنا ؟ فقال : لا ، إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة فلما كانت ليلة سبع وعشرين لم يصل بنا ، فلما كانت ليلة ثمان وعشرين ، أظنه ، قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أهله واجتمع له الناس فصلى بنا حتى كاد أن يفوتنا الفلاح ، ثم يا ابن أخي لم يصل بنا شيئا من الشهر ، قال : والفلاح السحور ]
 رواه أبو داود [ 1375 ]  والترمذي [ 803 ]  وابن خزيمة بنحوه [  2206 ] بسندٍ صحيح.

أقول : هذا نص صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قام أول الليل فقوله :" صلى بنا حتى كاد يذهب شطر الليل " واضح في أنه صلى قبل شطر الليل وهو ثلث الليل الأول ، وهذه الرواية صريحة في أنه قام في العشر الأواخر أول الليل ، على خلاف صنيع الناس اليوم  ، ومن أراد تحري سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلينوع في طول القيام في هذه الليال ، ومن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل كله استدلالاً بحديث شد المئزر فقد غلط ، أو يكون ذلك ما إذا كان منفرداً ، وأما الصلاة فلها شأنٌ آخر .

ومعنى [ أحيا ليله كله ] إما أن يحمل على قيام معظم الليل ، أو الإحياء بالذكر مع الصلاة ذكر هذين الوجهين شيخ الإسلام كما في [ مختصر الفتاوى المصرية ص84  ] وهذه الأوجه إنما وجدت لقوله صلى الله عليه وسلم عن نفسه [ وأصلي وأرقد ]  رواه البخاري ، أو يحمل على حاله في الإنفراد

وأما الصحابة فعملهم على القيام أول الليل طوال الشهر دون تخصيص العشر بشيء من التأخير :

قال البخاري [ 1906 ]  وعن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال
:[ خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله ] .

أقول : هذا معلق وموصول بإسنادٍ صحيح في عدد من الكتب منها الموطأ لمالك وتأمل قوله :" وكان الناس يقومون أوله " ، فدل على أن  فعل الصحابة الراتب هو القيام في أول سواءً في العشر الأخيرة أو غيرها ،
وما كان يقوم آخر الليل إلا المنفرد وما ثبت عنهم أنهم قاموا آخر الليل جماعة :

وجاء في مسائل أبي داود [ ص 90 ط مكتبة ابن تيمية ] :
قيل لأحمد وأنا أسمع :  يؤخر القيام يعني التراويح إلى آخر الليل ؟
 قال :  لا , سنة المسلمين أحبُ إلي . أهــ

أقول : هذا تنصيص من الإمام أحمد على أن سنة المسلمين في القرون الفاضلة تقديم القيام أول الليل
فأقل ما يقال في تأخير القيام أنه خلاف فعل الصحابة والتابعين ، وأما التأخير الراتب وتخصيصه بالعشر الأواخر أشد .

وقال ابن القيم في بدائع الفوائد [4/918 ]  :" واختلف قوله - يعني أحمد -  في تأخير التراويح إلى آخر الليل فعنه إن أخروا القيام إلى آخر الليل فلا بأس به كما قال عمر فإن الساعة التي تنامون عنا أفضل ولأنه يحصل قيام بعد رقدة وقال الله تعالى { إن ناشئة الليل ...} الآية
وروى عنه أبو داود لا يؤخر القيام إلى آخر الليل سنة المسلمين أحب إلي وجهه فعل الصحابة ويحمل قول عمر على الترغيب في الصلاة آخر الليل ليواصلوا قيامهم إلى آخر الليل لا أنهم يؤخرونها ولهذا أمر عمر من يصلي بهم أول الليل .
قال القاضي
:  قلت ولأن في التأخير تعريضا بأن يفوت كثيرا من الناس هذه الصلاة لغلبة النوم القيام " انتهى

أقول : هذا تنصيص من الإمام ابن القيم على أن الصحابة قاموا أول الليل ولا تفريق .
 وأما كلمة عمر فتحمل على المنفرد ، ونص أحمد الآخر يحمل على مجرد الجواز على أن الفعل في نفسه فاضل علماً بأن أحمد لم يفرق بين العشر الأخيرة وغيرها ، أو أنه أراد المنفرد كما أراد عمر ، والعلة التي ذكرها ابن القيم في تفضيل التراويح أول الليل يشمل الشهر ، كما أن فتيا أحمد هنا باعتبار الأرفق بالناس لا باعتبار تخصيص العشر بشيء دون غيرها لذا لم يفرق .
ولا يقال أن بعض التابعين أجاز صلاة القيام في أي وقتٍ للرفق بالناس .
فهذا لا يدل على فعل الناس اليوم ، فهم لا يراعون الأرفق بل يخصصون ذلك بالعشر الأواخر بآخر الليل ولو كان أشق على الناس ، بل إن المشقة حاصلة على طلاب المدارس والموظفين في القيام آخر الليل ، وقد عالج بعضهم هذا بعمل محدث آخر وهو أنهم أصبحوا يصلون التراويح أول الليل ولا يوترون ثم في عين المسجد وفي الليلة مثلها يصلون القيام آخر الليل ، وهذا لم يكن من فعل السلف أيضاً ، بل كلام ابن القيم السابق يدل على أن تأخيرها على آخر الليل أشق لغلبة النوم على الناس ، بل كثيرٌ من الناس في هذه الأعصار يفوتون صلاة الظهر بسبب هذا القيام !
وذكر المروزي في قيام الليل عن عمران بن حدير رحمه الله : أرسلت إلى الحسن رحمه الله فسألته عن صلاة العشاء في رمضان أنصلي ، ثم نرجع إلى بيوتنا فننام ، ثم نعود بعد ذلك ؟
 فأبى ، قال : لا ، صلاة العشاء ثم القيام  .

أقول : فنصص على أن القيام كان بعد العشاء وقبل النوم وهذا فعل السلف قاطبةً خلافاً للناس اليوم في العشر الأواخر .
وقال شيخ الإسلام كما في [ مختصر الفتاوى للبعلي ص81 ] :" والتراويح سنة بعد العشاء " انتهى ، كذا مطلقاً دون تفريق .
وقال كما في مجموع الفتاوى [ 23 /119]  :" السنة في التراويح أن تصلى بعد العشاء الآخرة كما اتفق على ذلك السلف والأئمة "
وقد وجدت في كلام بعض الحنابلة التنصيص على أن صلاتها في أول الليل أفضل ، بل يفهم من كلام بعضهم كراهية تأخيرها :

قال المرداوي في الإنصاف [ 3/116]  :" وأفتى بعض المتأخرين من الأصحاب بجوازها قبل العشاء ، وقال الشيخ تقي الدين : من صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة .
 ومنها : فعلها أول الليل أفضل : أطلقه في الفروع فقال فعلها أول الليل أحب إلى أحمد .
 وقال ابن تميم : إلا بمكة فلا بأس بتأخيرها ، وقال في الرعاية : ولا يكره تأخيرها بمكة .
 وليس ذلك منافيا لما في الفروع ، ومنها : فعلها في المسجد أفضل جزم به في المستوعب وغيره " اهــ

أقول : قوله في الرعاية :" ولا يكره تأخيرها بمكة " يفهم منه أنه يكره تأخيرها في غير مكة ، والتفريق بين مكة وغيرها لا أدري ما وجهه ؟
 والكراهة اليوم تستفاد من مخالفة الإتباع ومن المشقة على الناس
وقال في [ كشاف القناع ] :" [ و ]  فعلها [  أول الليل أفضل ]  ؛ لأن الناس كانوا يقومون على عهد عمر أوله " اهــ
وفي [ فتح المعين للمليباري الشافعي] :" وينوي بها التراويح أو قيام رمضان، وفعلها أول الوقت أفضل من فعلها أثناءه بعد النوم، خلافا لما وهمه الحليمي "

قلت : وأما من ذهب إلى استحباب تأخيرها إلى ثلث الليل أو نصفه ، فلا يسعفه الدليل أولاً .
 ولم يخصص ذلك بالعشر الأواخر ثانياً , بل عممه على جميع الشهر .
ومن استحب تأخيرها إلى نصف الليل جعلها تبعاً للعشاء لهذا كره صلاتها بعد النصف
[  وهو فعل الناس اليوم ]  طرداً لقياسه  .

وقال في [ مجمع الأنهر من كتب أهل الرأي  ]  :" والمستحب فعلها إلى ثلث الليل وقيل بعد العشاء قبل الوتر وهو قول عامة المشايخ .
لأنها إنما عرفت بفعل الصحابة فكان وقتها ما صلوها فيه وهو صلوها بعد العشاء قبل الوتر" اهــ

أقول : تأمل قوله :[  إنما عرفت بفعل الصحابة فكان وقتها ما صلوها فيه ]  وما فيه من الفقه.

وقال عبد الرزاق [7739] عن معمر عن مطر عن الحسن قال كان الناس يقومون في رمضان فيصلون العشاء حين يذهب ربع الليل وينصرفون وعليهم ربع آخر .
أقول : هذا صريحٌ في أنهم يقومون أول الليل ولكنهم يطيلون حتى يصيبوا الثلث الأخير من الليل .
 والإطالة ليست راجعةً إلى التطويل في القراءة فقط ، بل راجعةٌ أيضاً إلى الركوع والسجود وطول الإستراحة بين الترويحات حتى أن الفقهاء الأوائل يبحثون مسألة التطوع بين الترويحات .
 وصلاة القيام أو التراويح آخر الليل مظنة تقصير مخافة عدم إدراك السحور .
ومما يدل على  التطويل بين الترويحات ما قاله [ بحير بن ريسان ]  : رأيت عبادة بن الصامت رضي الله عنه  يزجر أناسا يصلون بعد تراويح الإمام في رمضان ، فلما أبوا أن يطيعوه قام إليهم فضربهم .[ رواه المروزي في قيام الليل ] .
واعلم أن مد الصلاة إلى ثلث الليل الآخر شيء ، وابتداؤها من ثلث الليل الآخر شيء آخر فالأول ثبت من فعل السلف والثاني لم يثبت البتة .
فإن قيل : إنهم يتحرون ساعة الإجابة .
أقول : النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أولى بهذا الفضل لو كان فيه فضلاً .
 فأين الصحابة والتابعون عن هذا الفقه ؟
ثم يقال : لماذا يتحرون هذه الساعة في العشر الأواخر ولا يتحرونها في بقية الشهر ؟
ويقال أيضاً:  أن فضل قيام الثلث الأخير من الليل يدركه من قام مع الإمام حتى ينصرف .
كما في الحديث :[  إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ]
والأهم من ذلك كله أن الصحابة لم يكونوا يتحرون القيام آخر الليل في العشر الأواخر ، وهم أفقه الناس ، وأحرص الناس على الخير .
 وإن قالوا : نتحرى ليلة القدر

قلنا : ليلة القدر تبدأ من المغرب ، ومن قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة .
 والصحابة وهم أحرص الناس على الخير لم يتحروا هذا التحري ؟!
وروى المروزي في قيام الليل عن عبد الله بن عمرو : من صلى العشاء الآخرة أصاب ليلة القدر .
 وعن الضحاك : من صلى المغرب والعشاء في مسجد جماعة في رمضان فقد أصاب من ليلة القدر حظا وافيا
والله أعلم بصحة الأثرين إذ لم أجد لهما إسناداً.
وأما إطالة القراءة في القيام دون التراويح ، فهذا أيضاً لا أصل له تخصيصاً .
وربما استدلوا له بالحث على الإكثار من الطاعات في العشر الأواخر .
 ومعيار فهم النصوص العامة تطبيق الصحابة لها .
 وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قصر القراءة في بعض ليالي العشر دون بعض كما في حديث أبي ذر الآنف الذكر

قال ابن أبي شيبة في [ المصنف]  حدثنا أبو معاوية عن عاصم عن أبي عثمان قال :
دعا عمر القراء في رمضان فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ ثلاثين آية والوسط خمسا وعشرين آية والبطيء عشرين آية .
وقال عبد الرزاق في المصنف [7732 ]  عن الثوري عن القاسم عن أبي عثمان قال :
 أمر عمر بثلاثة قراء يقرؤون في رمضان فأمر أسرعهم أن يقرأ بثلاثين آية وأمر أوسطهم أن يقرأ بخمس وعشرين وأمر أدناهم أن يقرأ بعشرين , قال الثوري وكان القراء يجتمعون في ثلاث في رمضان .
أقول : وإسناده قوي وعاصم هو ابن سليمان الأحول وأبو عثمان هو النهدي عبد الرحمن بن مل .
 وعمر هنا لم يفرق بين العشر الأواخر وغيرها ، وكذا عامة الآثار التي أوردها ابن أبي شيبة عن السلف ليس فيها التفريق
وقد عقد المروزي فصلاً في رسالة قيام الليل في قدر القراءة وما ذكر عن أحدٍ من السلف التفريق بين أول الشهر وآخره .
وقال عبد الرزاق [ 7749] عن الثوري عن إسماعيل بن عبد الملك قال كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان فكان يقرأ بالقراءتين جميعا يقرأ ليلة بقراءة بن مسعود فكان يصلي خمس ترويحات فإذا كان العشر الأواخر صلى ست ترويحات .
أقول : إسماعيل ضعيف تكلموا حتى في فهمه ، وليس في الأثر ما يدل على أفعال الناس اليوم فليس فيه التأخير إلى آخر الليل ، ولا التطويل بالقراءة بل فيه زيادة ركعتين فقط وهذا لا يفعلونه اليوم .
والاستدلال بحديث شد المئزر لا يستقيم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام بأصحابه لم يقم بهم الليل كله وما تحرى آخر الليل ولا حتى أصحابه , ثم إن صلاة الرجل بالناس غير صلاته بنفسه .
 فلعل العلة في قيامهم أول الليل التخفيف على الناس .
قال ابن نصر المروزي في [ قيام رمضان ص 9 ]  : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، ثنا عفان ، ثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس رضي الله عنه : [  كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان ، فجئت فقمت إلى جنبه ثم جاء آخر ثم جاء آخر ، حتى كنا رهطا  فلما أحس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خلفه تجوز  في الصلاة ثم دخل منزله ؟ فلما دخل منزله صلى صلاة لم يصلها عندنا ، فلما أصبحنا ، قلنا : يا رسول الله أو فطنت لنا البارحة  ؟ فقال : نعم ، وذاك الذي حملني على ما صنعت ]
قلت : تأمل قوله [  فلما أحس بنا تجوز ]  ، والحديث رواه أحمد أيضاً وهو صحيح .
ثم إذا كان بعض الإخوة ينكر الزيادة على إحدى ، عشر ركعةً ، مع جواز ذلك عند جماهير أهل العلم وثبوته عن عدد من التابعين ، فإنكار هذا الفعل الذي لم يثبت عن أحدٍ من السلف بهذه الصورة أولى .
وما جاء عن خارجة بن زيد :  أن زيد بن ثابت ,  كان لا يحيي ليلة من رمضان كإحيائه ليلة سبع وعشرين ، وليلة ثلاث وعشرين .
 قال خارجة : ولا كإحيائه ليلة سبع عشرة وكان يصبح صبيحتها وعلى وجهه السجدة يعني الورم والصفرة وأثر السهر .  رواه المروزي في قيام الليل
فهذا أولاً لا يعلم صحته ، وإن ثبت فقد خصص ليلةً واحدة وليس العشر كلها ! ، وهو منفرد وليس في جماعة ، وليس فيه أنه بدأ القيام آخر الليل بل الظاهر أنه يقوم من أول الليل حتى يبلغ آخره .
وأما الاستدلال بالتعقيب [  وهو الرجوع إلى المسجد بعد انقضاء الصلاة ]  ، فهذا كرهه جماعة من السلف ، ومن أثبته لم يثبت فيه صلاة جماعة أخرى غير التي انقضت ، ولم يخصص ذلك بالعشر الأواخر .
علماً بأن  أثر أنس في جواز التعقيب عند ابن أبي شيبة [ 2/291 ]  في سنده عباد بن العوام يروي عن سعيد بن أبي عروبة وقد تكلم في روايته عن سعيد فقال :" مضطرب الحديث عن سعيد بن أبي عروبة "
ذكره المزي في ترجمة عباد من تهذيب الكمال


وأقول أخيراً
[ أقل ما يقال في هذا التفريق أنه ليس من فعل السلف ]
ومن أراد التعليق على الموضوع لا بد له من مراعاة أمرين :
الأول : أن يتبع  أصول السلف في الإستدلال
فلا يحتج بأقوال العلماء المجردة أو أفعالهم فهي يستدل لها ولا يستدل بها ، وليقرأ المقال كاملاً
 حتى لا يورد ما أجبنا عليه فيعيد الكلام بلا فائدة ..
الثاني : ألا يخلط بين مقامين
المقام الأول : الكلام على هذا الفعل هل هو فاضل أو مفضول ؟
والصواب الذي لا يدفعه منصف أن هذا الفعل وهو التفريق مفضولٌ ولا شك وذلك أن السلف لم يفعلوه على هذه الصورة.
المقام الثاني : مشروعية هذا الفعل بعد ثبوت حدوثه بعد زمن الصحابة.
فمن أراد التعقيب
فليظهر لنا على أي مقامٍ يتحدث
وهل يرى أن هذا الفعل هو الأفضل .
 والذي أنفصل له بعد هذا البحث
أنه ليس من فعل السلف وأنه مفضول قطعاً
وهنا عدة تنبيهات مهمة في هذه المسألة

التنبيه الأول : التعلل بأن عبادتنا ليست كعبادة السلف ، لا يصلح أن يكون دليلاً على هذا التفريق ، فإن هذا التعليل يجعلنا نؤخر الصلاة الشهر كله وليس في العشر الأواخر فقط

ثم إن صلاتنا في العشر الأواخر هي بعيدة أيضاً عن عبادة السلف ، ولو فتحنا هذا الباب لانفتح باب الإحداث في الدين فيقول المرء :" نصلي بعد الظهر ثمانية " فليست عبادتنا كعبادة الصحابة

وما زال الناس يتحرون أوقات عبادة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوالها مع أنهم يعرفون أن حقيقة العبادة غير حقيقة العبادة من جهة الخشوع فيها وأدائها على وجهها

وقد اتفق عامة المجتهدين في عصرنا على أن صلاة التراويح أحد عشر ركعةً أفضل ، وذلك لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وما قالوا أن عبادتنا ليست كعبادة النبي صلى الله عليه وسلم فالأفضل أن نزيد

ثم إن السلف يسروا على أنفسهم بتيسيرات تركها المتأخرون بسبب هذا التفريق ، فإن الصحابة كانوا يطيلون الجلوس بين الترويحات رفقاً بأنفسهم ، والناس اليوم إذا صلوا آخر الليل لم يطيلوا الجلوس بين الترويحات بسبب أنهم يريدون ادراك السحور وهذا تشديد ، ولو قاموا قبل ذلك لأمكنهم إطالة الجلوس بين الترويحات وإدراك السحور أيضاً

التنبيه الثاني : ليس تحري سنة السلف الصالحين من التنطع في شيء ، فنحن أولاً نتكلم عن نافلة ليست لازمة ، وثانياً نتكلم عن فاضل ومفضول

والحق أن التفريق هو الذي فيه التشديد على الناس ، فإنك لو أخبرتهم بأن أحدهم يدرك ليلة القدر لو صلى في أول الليل مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة لارتاح الكثير من العوام الذين ظنوا أنهم لن يدركوا ليلة القدر إلا بالقيام آخر الليل

ومن المعلوم أن القيام أول الليل أيسر على عامة الناس من القيام آخره

فأخبروا العامة بهذه الحقائق وانظروا ما يختارون لأنفسهم فقولوا لهم بالحرف الواحد :" القيام أول الليل أفضل لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأنك إذا قمت مع الإمام حتى ينصرف فكأنك  قمت معه الليل كله _ بما فيه ثلثه الأخير _ "

وكثيرٌ من الناس الذين لم يعتادوا السهر إلى آخر الليل فيضطروا أن يسهروا ليدركوا القيام ثم ينامون طوال النهار فيفوتوا فريضة الظهر في جماعة وهذا حاصلٌ كثيراً ولو اتبعنا سنة السلف الصالحين وقمنا أول الليل لتجنبنا هذه المفسدة

ولو كان القول بأفضلية القيام أول اللليل من التنطع مع كونه فعل الصحابة وقول عامة فقهاء المسلمين ، فهلا قلنا بأن القول بحصر الاعتكاف بالمساجد الثلاثة من التنطع أيضاً والتضييق على الناس

التنبيه الثالث : هذا التفريق أحدث اعتقاداً فاسداً عند العامة ، وهو أن القيام آخر الليل في العشر الأواخر أفضل ، وفي بقية الشهر بعد العشاء أفضل ، وهذا الاعتقاد فاسد لم يقل به أحدٌ من أئمة المسلمين 

والقاعدة أن الفعل إذا كان يحدث اعتقاداً فاسداً وجب تركه ولو كان في نفسع جائزاً لذا كان عمر يترك بعض الأمور خشية أن يراها الناس واجبة 


ومن احتج بالعمومات الدالة على فضل القيام آخر الليل ، فالعمومات شاملةٌ لكل الشهر ، والصحابة أعلم الناس بالسنة ، وهلا استدل بالعمومات الواردة في فضل النافلة في البيت عليها في المسجد !

التنبيه الأخير : نرى استماتة من بعض الإخوة في الدفاع عما أحدثه الناس من هذا التفريق ، وقد أمرنا أن نستمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين لا ما أحدثه العوام فليت هذا الدفاع كان عن سنةِ ثابتة  بل بعضهم تأهب ليضع الاستشكالات  والله المستعان ! 

ومن ذلك الاستدلال بما روى أبو داود في سننه   1439 - حدثنا مسدد ثنا ملازم بن عمرو ثنا عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق قال
 : زارنا طلق بن علي في يوم من رمضان وأمسى عندنا وأفطر ثم قام بنا تلك الليلة وأوتر بنا ثم انحدر إلى مسجده فصلى بأصحابه حتى إذا بقي الوتر قدم رجلا فقال أوتر بأصحابك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول " لاوتران في ليلة "


وهذا دليل عليهم لا لهم فإن هذا فعل عارض للصحابي وليس فعلاً راتباً ، وليس فيه أنه خصص هذا الفعل في العشر الأواخر بل فعله في يوم واحد فقط ، وليس فيه أنه بدأ القيام بأصحابه في ثلث الليل الآخر 

ومثل هذا الاستدلال من باب تعلق الغريق بقشة