مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: رد نفيس لابن القيم على ( الطبائعيين )

رد نفيس لابن القيم على ( الطبائعيين )



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/261) :"  وَكَأَنِّي بك ايها الْمِسْكِين تَقول هَذَا كُله من فعل الطبيعة وَفِي الطبيعة عجائب واسرار فَلَو أَرَادَ الله ان يهديك لسالت نَفسك بِنَفْسِك وَقلت اخبريني عَن هَذِه الطبيعة اهي ذَات قَائِمَة بِنَفسِهَا لَهَا علم وقدرة على هَذِه الافعال العجيبة ام لَيست كَذَلِك بل عرض وَصفَة قَائِمَة بالمطبوع تَابِعَة لَهُ مَحْمُولَة فِيهِ فَإِن قَالَت لَك بل هِيَ ذَات قَائِمَة بِنَفسِهَا لَهَا الْعلم التَّام وَالْقُدْرَة والارادة وَالْحكمَة فَقل لَهَا هَذَا هُوَ الْخَالِق البارئ المصور فَلم تسمينه طبيعية وَيَا لله من ذكر الطبائع وَمن يرغب فِيهَا فَهَلا سميته بِمَا سمى بِهِ نَفسه على السن رسله وَدخلت فِي جملَة الْعُقَلَاء والسعداء فَإِن هَذَا الَّذِي وصفت بِهِ الطبيعة صفته تَعَالَى وَإِن قَالَت تِلْكَ بل الطبيعة عرض مَحْمُول مفتقر الى حَامِل وَهَذَا كُله فعلهَا بِغَيْر علم مِنْهَا وَلَا إِرَادَة وَلَا قدرَة وَلَا شُعُور اصلا وَقد شوهد من آثارها مَا شوهد فَقل لَهَا هَذَا مَالا يصدقهُ ذُو عقل سليم كَيفَ تصدر هَذِه الافعال العجيبة وَالْحكم الدقيقة الَّتِي تعجز عقول الْعُقَلَاء عَن مَعْرفَتهَا وَعَن الْقُدْرَة عَلَيْهَا مِمَّن لَا عقل لَهُ وَلَا قدرَة وَلَا حِكْمَة وَلَا شُعُور وَهل التَّصْدِيق بِمثل هَذَا إِلَّا دُخُول فِي سلك المجانين والمبرسمين ثمَّ قل لَهَا بعد وَلَو ثَبت لَك مَا ادعيت فمعلوم ان مثل هَذِه الصّفة لَيست بخالقة لنَفسهَا وَلَا مبدعة لذاتها فَمن رَبهَا ومبدعها وخالقها وَمن طبعها وَجعلهَا تفعل ذَلِك فَهِيَ إِذا من ادل الدَّلَائِل على بارئها وفاطرها وَكَمَال قدرته وَعلمه وحكمته فَلم يجد عَلَيْك تعطيلك رب الْعَالم وجحدك لصفاته وأفعاله الا مخالفتك الْعقل والفطرة وَلَو حاكمناك الى الطبيعة لرايناك انك خَارج عَن مُوجبهَا فَلَا انت مَعَ مُوجب الْعقل وَلَا الْفطْرَة وَلَا الطبيعة وَلَا الانسانية اصلا وَكفى بذلك جهلا وضلالا فَإِن رجعت الى الْعقل وَقلت لَا يُوجد حِكْمَة الا من حَكِيم قَادر عليم وَلَا تَدْبِير
متقن الا من صانع قَادر مُخْتَار مُدبر عليم بِمَا يُرِيد قَادر عَلَيْهِ لَا يعجزه وَلَا يؤؤده قيل لَك فَإِذا اقررت وَيحك بالخلاق الْعَظِيم الَّذِي لَا اله غَيره وَلَا رب سواهُ فدع تَسْمِيَته طبيعة اوعقلا فعالا اَوْ مُوجبا بِذَاتِهِ وَقل هَذَا هُوَ الله الْخَالِق البارئ المصور رب الْعَالمين وقيوم السَّمَوَات والارضين وَرب الْمَشَارِق والمغارب الَّذِي احسن كل شَيْء خلقه واتقن مَا صنع فمالك جحدت اسماءه وَصِفَاته وذاته اضفت صَنِيعه الى غَيره وخلقه الى سواهُ مَعَ انك مُضْطَر الى الاقرار بِهِ إِضَافَة الابداع والخلق والربوبية وَالتَّدْبِير اليه وَلَا بُد وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين على انك لَو تَأَمَّلت قَوْلك طبيعة وَمعنى هَذِه اللَّفْظَة لدلك على الْخَالِق الباريء لَفظهَا كَمَا دلّ الْعُقُول عَلَيْهِ"

وهذا الكلام النفيس من ابن القيم يصلح للرد على الحمقى القائلين ب( الانتخاب الطبيعي )

فكلمة ( انتخاب ) تعني اختيار دقيق ، وهم يزعمون أن هذا الاختيار يسير وفق قواعد معينة ، تعني التطور المستمر للأحسن واختيار الأقوى

فهذا الانتخاب يدل على قدرة في الطبيعة وإرادة وحكمة لأن ( المنتخب ) لا بد له من هذه الصفات الثلاث ، فهذا هو الله عز وجل ! يسمونه الطبيعة تدليساً وسفهاً

وأسفه من هذا نظرية التطور التي أثبتت الأحفورة التي وجدوها لأقدم إنسان _ في زعمهم _ على هيئة إنسان وليست على هيئة قرد فانهارت النظرية بشهادة أهلها

وتأمل يسير في تلك الأسطورة يهدمها من القواعد فعدة أسئلة تطرح لكل عاقل

كقولك لماذا توقف التطور منذ آلاف السنين ولا يوجد قردة يخرج من بينهم الناس ؟

ولماذا كل الكائنات حولنا لا تتطور الآن وقبل آلاف السنين ، فليس من المعقول أن تكون كل المخلوقات تطورت في آن واحد وتوقفت بل كان لا بد من بعض المخلوقات التي لا زالت تسير في مسارها التطوري ونراها تتطور أمامنا

وكون الدب القطبي لونه يخالف لون الدب الآخر فهذا دب وذاك دب اسمهم واحد وجيناتهم واحدة ، وهذه قدرة وضعها الله في خلقه ولا تدل على شيء من هرطقة القوم

ولماذا لم يعتقد أحد من البشر هذه العقيدة على مدى القرون السابقة فإن البشر اعتقدوا عقائد كثيرة غريبة ، ولم يحكَ عن أي أحد منهم أنه اعتقد هذه العقيدة مع أنه لا بد أن يكون أحد من البشر قد حضر التطور وشاهده أو سمعه من أجداده فاعتقده

والمشاهد أن الإنسان منتصب القامة ويتكلم وعنده قدرة على الإبداع ( صناعة الأشياء من المواد الأولية ) ، والقرد ليس عنده شيء من هذا فعملية التطور لا بد أن تكون مرت بأطوار من اكتساب الانتصاب أو النطق أو القدرة على الإبداع ، فلماذا لا نرى في الكون إلا القرد البدائي والإنسان المتطور للمرحلة الأخيرة ولا نرى شيئاً من المراحل الانتقالية كقرد يتكلم مثلاً أو قرد منتصب القامة

ولماذا لا يكون الأصل في القرد أنه إنسان خصوصاً مع وجود اعتقادات عند كثير من الناس أن اللعنة أو المسخ تحل على الإنسان فتحوله قرداً ، والطفرات الجينية التي نراها كلها أمراض وتشوهات ولا يوجد طفرة إلى الإمام كما يزعم القوم ولا يستطيعون إيجاد أمثلة ظاهرة

على أن السنة قد دلت على أنه ليس لمسخ نسل

وقد دل علم الوراثة الحديث على أن الصفات المكتسبة لا تورث وهذا يبطل نظريتهم من الأساس

ولم يحصل أي انقراض لكائن لمجرد ضعفه بانتخاب طبيعي ، وإنما يكون الانقراض بسبب كثرة الصيد أو غيره

وهذه النظرية تفسر بداية الخلق الحيواني ولا تفسر خلق السماوات والأرض

قال الله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ)

وذكر السماوات والأرض من أعظم ما يعجزهم

وأي عاقل يفكر في هذه الخرافات يستطيع أن يستخرج وجوهاً محرجة جداً للقائلين بها بل ويبطلها من القواعد

وتسمية مثل هذه الخرافات ( علماً ) مستفز إذ أنها فرضيات ثبت أنها خرافات والقائلون بها أنفسهم عندهم تردد شديد فتراه يقول ( إن ثبت كذا فنظريتي فاسدة ) و ( لا يمكن تفسير كذا ) و ( أنا قلق من كذا ) وهذا كثير جداً في كلامهم

وهذا نظير خرافة ( المادة لا تستحدث من العدم ) وخرافة ( الصعود إلى القمر ) وخرافة ( دوران الأرض حول الشمس )

وهذا كله يسمى علماً وهو فرضيات ثبت أنها خرافات ، وعامة من يعتقد مثل هذا من العرب الذي يحمله على هذا الانبهار العجيب بالحياة الغربية ( ولا أدري ما يبهره ) وخداعه بتسميتها ( علماً )، وكثير منهم الأمر عنده إنفاذ لمرض نفسي أو شهوة مخالفة المألوف وإظهار أنه يقدس المعرفة والمنطق وكل من رأيته منهم مريض نفسي 

ولهذا نجد أن محمد رشيد رضا وعدنان إبراهيم عظما هذه النظرية مع إنكارهما لعشرات الأحاديث الصحيحة ، ينكران الأحاديث المتواترة ويعظمان نظرية متهافتة كهذه وذلك لأنهما مرضى بداء مخالفة جمهور الناس على أي حال ، والتملق للغرب ودعوى تعظيم العقل فكل ما تريد من هؤلاء أن يقولوا به فقل لهم ( عقل عقل عقل علم علم علم ) ، وأظهر مخالفة العلماء التقليديين وسيؤمنون به مهما كان متهافتاً ومخالفاً للعقل والنقل

وهذه الفرضيات في واقعها مجموع بعض المعطيات مع تفسير العالم ( كذا يسمونه ) الناشيء عن مستواه العقلي ومقدماته النفسية والعقدية

وهذه المعطيات لا يوجد أي دليل أنها كل المعطيات اللازمة للوصول للحقيقة المطلقة ، بل ثبت بالبراهين أنها دائماً تكون ناقصة ، وأما التحليل فقد يخالفه غيره ويحلل تحليلاً آخر تماماً من المعطيات نفسها وهذا كثير في القوم

وقد أغنانا الله عز وجل بالكتاب والسنة وآثار السلف وقد حررت عقولنا من الخرافات القديمة والحديثة

والواقع في الملاحدة أنهم هربوا من الإيمان بالغيب الوارد في الشرع فآمنوا بغيب ( الانتخاب الطبيعي والأكوان اللامتناهية ) وهربوا من تصديق الأنبياء فصدقوا رجلاً يزعم أن أصله قرد

وهربوا من اعتقاد أن حواء خلقت من ضلع آدم وآمنوا بأنهم جميعاص كانوا من نسل القرود والقرد من أين جاء ؟

لعله جاء من كلب والكلب جاء من دجاجة والدجاجة جاءت من سمكة والسمكة جاءت من الماء ( هذه سخرية )

ومن أين جاء الماء وكيف خرجت السمكة من الماء ولم تمت ؟

ولا توجد أي سمكة بعد بلايين السنين تعيش خارج الماء !

وقد قال الله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، فتسخير كل ما في الكون لمصلحة البشر برهان على حكمة وقدرة الخالق ورحمته سبحانه وتعالى
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي