الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما
بعد :
قال الكاتب عبد الرحمن الصبيح :" بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، هو حسبي، وأصلي على محمد، هو
نبيي وحبيبي وشفيعي، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد..
انتشرت رسالة هذا نصها " ( أخبث من
إبليس) ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن من أطلقها على مسلم فإنه يكفر كفراً معلوماً
بالضرورة من الدين. [ منهاج السنة 507/ 4]" ووردت إِليَّ بصيغة أخرى " شرُّ
من إبليس أو الشيطان " ، وكلها برقم الجزء و الصفحة ، و لا أحصي عدد ما وصلت
إِليَّ وعدد ما شاهدتها وقرأتها؛ فقد سَرت سَريان النار في الهشيم، ولهذا أردت
توضيح الأمر، و أسأله سبحانه التوفيق والسداد والإعانة.
وفيها أربع مسائل:
الأولى: إذا أخذنا هذه العبارة بمعناها
المتبادر للذهن فهي شتيمة قذف بها لسان بذيء، هذا كل ما في الأمر، فهل يكفر
الإنسان، وينتقل من الإسلام إلى الكفر بسبب شتمية؟ والعمل الموجب للردة مراتب
ودرجات، فمنه ما يعتذر فيه للمرء ويلتمس له فيه العذر، ومنه ما لا يعذر فيه المرء،
وضربوا مثالاً لما لا يعذر الإنسان به : سب الله سبحانه ، أو إهانة المصحف، وفي
المسألة تفصيل ليس هذا محله، والمراد أن الذي تقتضيه هذه العبارة أن قائلها فعل
فعلاً نظير الفعلين اللذين تقدم ذكرهما، لأنه " كفر كفراً معلوماً بالضرورة
من الدين " والمعلوم بالضرورة من الدين هو: ما أجمعت عليه الأمة كلها لوضوحه
و عدم خفائه ، بحيث لا يختص بعلمه الخاصة، كأن الله خالق الخلق، وهو رب العالمين،
و أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيٌ مرسل من الله، وأنه خاتم النبيين، وأن
الصلوات خمس صلوات و الظهر أربع ركعات، وهكذا. فهذا لا يعذر أحد بجهله، ومنكره
كافر، وهذه المقولة المنسوبة تضع هذا الفعل المكفر بمنزلة هذه الأمور، ويعني : أن
تكون معلومة بالدين بالضرورة، أننا لا نحتاج لابن تيمية رحمه الله حتى يبين لنا
حكمها لأنها مما ذاع واشتهر.
ولو قلنا بكفر قائلها، فهل يكفر القائل
لأنه كَفَّر مسلماً بغير حق أم لأنه شتمه؟ ه يكفر بهذا؟ لأن هذا غاية ما فعل، وهل
الأمر كذلك أصلاً؟ الجواب: لا، لأن العِلة ليست في تكفير مسلم بغير حق، وإنما في
الخلل العقدي حين خالف المُعتقِد ما هو معلوم بالضرورة من الدين؛ أن إبليس الرجيم
اللعين أكفر الكافرين، فهذا مناط الحكم، ومن شكك في هذا فهو كافر.
إذاً، هي شتمية ما لم يعتقد المسلم
معناها، فيرى أن إبليس أحسن حالاً من المسلمين المذنبين ، فيكون حينئذٍ معتَقِدا!
ولا أشك أن ناشر الرسالة أراد خيراً
بالتذكير بعفة الألسن، ولكنه وقع فيما هو شر من هذا، فقد أغلق باباً من أبواب
بذاءة اللسان وفتح باباً من أبواب تكفير المسلمين بغير حق.
الثانية: هل قالها شيخ الإسلام ابن تيمية؟
ولو كان قالها، هل أخطأ؟
أقول: أول ما قرأت الرسالة أنكرتها،
واستبعدت أن تكون من مقوله ، وذلك أنها تخالف بقية كلامه المبثوث في الاعتذار
والاحتراس في مسائل التكفير؛ حتى في التكفير المطلق، وليس ابن تيمية ممن يطلق هذه
الإطلاقات، و العبارة مُستلة من ( منهاج السنة ) وهو كتاب مناظرة وجدال، واستلال
العبارة منه يحتاج إلى تأني واحتراس وفَهمٍ لكلامه ومراده.
وممن نبه على هذا المنهج في التعامل مع
كتب الردود والمناظرة وأشباهها الإمام ابن الوزير اليَماني في مقدمة كتابة القيم (
العواصم والقواسم في الذب عن سنة أبي القاسم ) حيث قال : " وقد سلكت في هذا
الجواب مسالك الجدليين، فيما يُلْزِم الخصم على أصوله ، و لم أتعرض في بعضه لبيان
المختار عندي، وذلك لأجل التقية من ذوي الجهل و العصبية، فلينتبه الواقف عليه على
ذلك، فلا يجعل ما أجبت به الخصم مذهباً لي" [162/ 1 ]
ثم كَثُر توارد الرسالة، وكَثُر نشرها في
مواقع التواصل الاجتماعي، فأخذت الأمر محمل الجد وقلتُ أراجعها. وكانت المفاجأة: أنني
لم أجد هذه العبارة بهذا اللفظ و السياق مطلقاً!!
فما الذي وجدته؟
كان ابن تيمية يناقش ابن المنجس الرافضي
الذي يقول إن معاوية رضي الله عنه " شر من إبليس!" [ منهاج السنة 506/ 4
]، لا بأس أيها الرافضي، ولكن لماذا قاتلك الله ؟ قال –وأعْجِب من خبال عاقلهم!-: لأن
معاوية لم يسبق إبليس في سالف طاعته وجرى معه في ميدان معصيته، وذلك أن إبليس كما
هو معلوم – كما يقول الرافضي!- كان أعبد من الملائكة، وحمل العرش وحده ستة آلاف
سنة، ثم جرى له ما جرى بعد خلق آدم، فإبليس كان صالحا عابدا قبل كفره، فمن لم يكن
مثله في طاعته ثم جرى معه في ميدان معصيته شرٌ منه!!
قال الرافضي " ومعاوية لم يزل في
الإشراك وعبادة الأصنام إلى أن أسلم بعد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم بمدة
طويلة، ثم استكبر عن طاعة الله في نصب أمير المؤمنين عليه إماماً " [ منهاج
السنة 506/ 4 ] فابن تيمية كان يناقش جهالات وحماقات الرافضي، ومعرفة مورد النص
مهم جداً.
يقول شيخ الإسلام ردَّاً على الكلام
المتقدم ذكره: "فيقال: هذا الكلام فيه من الجهل والضلال والخروج عن دين
الإسلام وكل دين، بل وعن العقل الذي يكون لكثير من الكفار، ما لا يخفى على من
تدبره." ويعني شيخ الإسلام هذا الاعتقاد المتقدم ذكره وليس حكم شتم أحدٍ بهذا
اللفظ.
ثم ردَّ هذا الاعتقاد الفاسد بأن إبليس
أكفر من كل كافر، و كل من في نار أتباع له، وذكر دليل ذلك، ثم تساءل: " فكيف
يكون أحد شرا منه؟ لا سِيَّما من المسلمين، لا سِيَّما من الصحابة؟ . وقول هذا
القائل: " شر من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعة، وجرى معه في ميدان المعصية "
يقتضي أن كل من عصى الله فهو شر من إبليس، لأنه لم يسبقه في سالف طاعة، وجرى معه
في ميدان المعصية. وحينئذ فيكون آدم وذريته شرا من إبليس ; فإن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» " .
و أما النص الذي يظهر لي أن الناقل فهم
منه ما نقله هو قول شيخ الإسلام:
" ثم هل يقول من يؤمن بالله واليوم
الآخر: إن من أذنب ذنبا من المسلمين يكون شرا من إبليس؟ أَوَ ليس هذا مما يُعلم
فساده بالاضطرار من دين الإسلام؟ وقائل هذا كافر كفرا معلوما بالضرورة من الدين ."
والنص لمن تأمله مجرداً من سياقه أو من
خلال سياقه يقصد فيه الشيخ ، أن من رأى أن المذنب من المسلمين شراً من إبليس كافر،
وليس من قال للمسلم أنت أخبث أو شر من إبليس على سبيل الشتم والتنقص، وهذه المسألة
( العقدية ) معلومة من الدين بالضرورة كما يقول شيخ الإسلام.
وردَّ شيخ الإسلام على بقية كلام الرافضي
الذي لا يستقيم عقلاً و ديناً، وما حمله عليه إلا بغضه لمعاوية رضي الله عنه،
فركَّب القواعد الفاسدة، وجعلها مسلمات ينطلق منها، وهو نسبها لبعض الفضلاء كما
يسميهم ! والطيور على أشكالها تقع !
وتبين من خلال ما سبق أن ابن تيمية رحمه
الله لم يُرِد هذا المعنى الذي أجراه بعضهم على لسانه، و لم يتحدث عنه أصلاً،
وأنصح من رأى هذه الرسالة أن ينكرها، ويبين الحق فيها، حفظاً لحق الشريعة أولاً
وذباً عن شيخ الإسلام ثانياً، وكما قلتُ، فالمسألة قد تبدو يسيرة، ولكنها ليست
كذلك، فهي تتعلق بباب عظيم بُلينا به، هو الاستهانة بإخراج الناس من دين الله .
الثالثة: لا أحد ينكر مكانة ابن تيمية،
شيخ الإسلام رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، ولا شك أن النفوس ترتاح بمجرد سماع
اسمه، وتسلم له ناصيتها باستسلام تام حتى أصبح شيخ الإسلام عند بعضهم بمثابة
الدليل الشرعي –وهذا خطأ- لثقتهم أن ابن تيمية غالباً ما يوفق إلى إصابة الحق.
ولكن هذه الثقة استغلت أبشع استغلال ،
فيأتي من يكذب على ابن تيمية خصوصاً وغيره عموماً، ويجري الأقوال الباطلة على
لسانهم، ويذيل ذلك رقم الجزء و الصفحة، فيصدق الناس أن ابن تيمية قال، و هو ما
شَهِد و ما قال، وهؤلاء المفتونون، أهل الشبهات، عجزوا أن يتسللوا للعقلية السلفية
الأثرية التي تعتمد النص إلا من خلال ابن تيمية، ويقولون للمعارض: إذا عندك اعتراض
فرُدَّ على شيخ الإسلام فهو خصمك! فلا يجد أمامه إلا التسليم و الإذعان لأن ابن تيمية
قال ذلك كما يتصور، ولو أنه رجع للمسألة في مصدرها لتبين له الأمر، ولعرف كذب هذا
المدعي.
ورأيتُ عدداً من التنويريين و الليبراليين
وأهل البدع الذين يزعمون أنهم يعظمون ويفخمون ابن تيمية، بل لسخافتهم يزعمون أن
السلفيين لم يعرفوا قدره و لم يفهموا كلامه، وهم من فهم كلامه! أقول رأيتُ عدداً
منهم فإذا هم يحرفون كلامه، ولغبائهم، فكثير منهم ينقل من بعض، وعبر مصدر وسيط!
فإذا رأيت من أصوله تخالف ابن تيمية فلا
تثق في نقله، ولا تصدق أنه يحب من جلب له الصداع!
ومن مسالك عفاريت الشبهات القدح في الدليل
الشرعي بالقدح فيه أو تحريف دلالته، أو إسقاط أئمة السلف، وقد رأينا ما تقيأ به
أحدهم؛ إذ تابع فَطيس القَليب ، أبا جهل في ذمه للصحابي الجليل عبدالله بن مسعود
رضي الله عنه وحشرنا معه، فأعاد مذمته جَذعه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أو
تحريف كلام الأئمة، فيظهرون بمظهر المتابع لا المبتدع.
الرابعة: الطريق إلى الله ، ودلالة الناس
إليه، لا تكون إلا بطريقٍ؛ الله ورسوله أرشدا إليه، وأهم ما ينبغي أن نتواصى عليه :
التثبت فيما ننسبه لدين الله وسنة ورسول الله، واحذر ، احذر أن تكون ممن يوقع
زوراً عن الله !
وأحيل في هذه الفقرة لخاطرة سبق كتبتها
بعنوان ( تجاوزات الوعَّاظ *) نبهت فيها على ما أريد ذكره في المسألة الرابعة،
فأحيل إليه.
قال شيخ الإسلام: " فالواجب على من
شرح الله صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها حتى
يتقلدها، بل يسكت عن ذكرها إن تيقن صحتها، و إلا توقف في قبولها، فما أكثر ما
يُحكى عن الأئمة ما لا حقيقة، وكثير من المسائل يُخرجها بعض الأتباع على قاعدة
متبوعة، مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تُفضي إلى ذلك لما التزمها، و الشاهد يرى ما
لا يرى الغائب، ومن علم فقه الأئمة وورعهم علم أنهم لو رأوا هذه الحيل و ما أفضت
إليه من التلاعب بالدين، لقطع بتحريمها من لم يقطع به أولاً" [ بيان الدليل
على بطلان التحليل 157 ]"
أقول : إضافة إلى ما ذكر يقال أن قائل هذه
الكلمة قد يريد أنه أضر على الأمة من إبليس لخفاء حاله لا للعلة التي تكلم عليها
الرافضي الخنزير
وهذا قد وقع في كلام بعض الأئمة ولم ينكر
عليهم أحد فضلاً عن التكفير
قال البربهاري في شرح السنة :" فليس
لأحد رخصة في شيء أحدثه مما لم يكن عليه أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
أو يكون [رجل] يدعو إلى شيء أحدثه من قبله [أو من قبل رجل] من أهل البدع، فهو كمن
أحدثه، فمن زعم ذلك أو قال به، فقد رد السنة وخالف [الحق و] الجماعة، وأباح البدع،
وهو أضر على هذه الأمة من إبليس"
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام :" 173
- موسى بن نصر بن دينار. أبو سهل الرازيّ.
سمع: جرير بن عبد الحميد، وعبد الرحمن بن
مغراء، وجماعة.
وعنه: أهل الرِّيّ.
لكن قال أبو حاتم: هو أكفر من إبليس. يقول:
الجنّة والنّار لم يخلقا، وإن خلقتا فسيفنيان.
نقله الخلاّل في كتاب السُّنّة له.
توفي سنة إحدى وستيّن ومائتين"
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان :" وذكر
لأحمد: أن امرأة كانت تريد أن تفارق زوجها، فيأبى عليها، فقال لها بعض أرباب الحيل:
لو ارتددت عن الإسلام بنت منه، ففعلت، فغضب أحمد رحمه الله وقال: من أفتى بهذا أو
علمه أو رضى به فهو كافر.
وكذلك قال عبد الله بن المبارك ثم قال: ما
أرى الشيطان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فتعلمه منهم"
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم