السبت، 9 مايو 2015

تقويم المعاصرين ( الحلقة السابعة )



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :



فهذه هي الحلقة السابعة من تقويم المعاصرين ولا زلنا في باب التكفير والإيمان والموقف من المخالف

وهذه الحلقة سنناقش فيها مسائل هامة جداً والله المستعان

الخطأ الحادي والعشرون : جعل عدم فهم الحجة عذراً مطلقاً

قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/102) :" و"إنما المراد سلب السمع الذي يترتب عليه فائدته وثمرته والقدر حق ولكن الواجب تنزيل القرآن منازله ووضع الآيات مواضعها واتباع الحق حيث كان ومثل هذا إذا لم يحصل له فهم الخطاب لا يعذر بذلك لان الآفة منه وهو بمنزلة من سد اذنيه عند الخطاب فلم يسمعه فلا يكون ذلك عذرا له ومن هذا قولهم قلوبنا في أكنة مما تدعونا اليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب يعنون انهم في ترك القبول منه ومحبة الاسماع لما جاء به وإيثار الاعراض عنه وشدة النفار عنه بمنزلة من لا يعقله ولا يسمعه ولا يبصر المخاطب لهم به فهذا هو الذي يقولون لا خلود في النار ولو كنا نسمع او نعقل ما كنا في أصحاب السعير ولهذا جعل ذلك مقدورا لهم وذنبا اكتسبوه فقال تعالى فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير"


فصرح ابن القيم أن من لم يفهم الحجة لا يكون معذوراً لأن العيب إنما كان منه


وفي هذا إبطال لقول من يقول أن الحجة من القرآن والسنة إذا بلغت الشخص لا ترفع عذره الذي يقيه العذاب حتى يفهمها فإن لم يفهمها بقي معذوراً


وهذا غلط عظيم فإن عدم الفهم إن تصور في المسائل الخفية فلا يتصور في جليات المسائل ومباني الدين العظام خصوصاً ما دل عليه حتى الفطرة كتوحيد العبادة وعلو الله عز وجل على خلقه


فمن فرض أن عربياً سمع أدلة الكتاب والسنة في علو الله أو توحيد العبادة ولم يفهم فقد فرض أمراً مستحيلاً فإن الله عز وجل سماه كتابه تبياناً لكل شيء وهدى ونور


فكيف يكون ما هذه صفته معجوزاً عن فهمه في أظهر مسائل الدين التي يعرف حتى اليهود والنصارى أنها من دين الإسلام؟


قال شيخ الإسلام في درء التعارض  (5/62) :"  وهو كما قال فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور وبين الباطل والظلام وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها ولولا ما في القلوب من الإستعداد لمعرفة الحقائق لم يكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولولا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها وكما أن في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافى ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك "


قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (3/272) :" فإن المسلمين متفقون على ما علموه بالإضطرار من دين الإسلام أن العبد لا يجوز له أن يعبد ولا يدعو ولا يستغيث ولا يتوكل إلا على الله وأن من عبد ملكا مقربا أو نبيا مرسلا أو دعاه أو استغاث به فهو مشرك فلا يجوز عند أحد من المسلمين أن يقول القائل يا جبرائيل أو يا ميكائيل أو يا إبراهيم أو يا موسى أو يا رسول الله اغفر لي أو ارحمني أو ارزقني أو انصرني أو أغثني أو أجرني من عدوي أو نحو ذلك بل هذا كله من خصائص الإلهية"


فصرح أن أمر توحيد العبادة من المعلوم من الدين بالاضطرار


وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (4/54) :" وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال إنه فيها مخطىء ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدا بعث بها وكفر مخالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ومثل أمره بالصلوات الخمس وإيجابه لها وتعظيم شأنها ومثل معاداته لليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو"


فصرح أن توحيد العبادة ليس من الأمور الخفية بل الجلية الواضحة التي يعلم حتى اليهود والنصارى أنها من دين الإسلام فالقبورية أجهل من اليهود والنصارى بالإسلام


وكذا الجهمية الذين ينكرون علو الله على خلقه فعلو الله لم ينكره حتى عباد الأوثان ولم ينكروا أن الله يفعل لحكمة ولا أنه تقوم به الصفات الفعلية


قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهو يتكلم عن الجهمية الأشعرية (1/51) :" فإن نظرت في كتاب التوحيد في آخر الصحيح، فتأمل تلك التراجم، وقرأت في كتب أهل العلم من السلف، ومن أتباعهم من الخلف، ونقلهم الإجماع على وجوب الإيمان بصفات الله تعالى، وتلقيها بالقبول، وأن من جحد شيئا منها، أو تأول شيئا من النصوص، فقد افترى على الله، وخالف إجماع أهل العلم، ونقلهم الإجماع: أن علم الكلام بدعة وضلالة، حتى قال أبو عمر ابن عبد البر: أجمع أهل العلم في جميع الأعصار والأمصار، أن أهل الكلام أهل بدع وضلالات، لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء؛ والكلام في هذا يطول.

والحاصل: أنهم عمدوا إلى شيء أجمع المسلمون كلهم، بل وأجمع عليه أجهل الخلق بالله عبدة الأوثان، الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فابتدع هؤلاء كلاما من عند أنفسهم، كابروا به العقول أيضا، حتى إنكم لا تقدرون تغيرون عوامكم عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، ثم مع هذا كله تابعهم جمهور من يتكلم في علم هذا الأمر، إلا من سبقت لهم من الله الحسنى، وهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود"


قال شيخ الإسلام في درء التعارض (7/27) :" ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم بل يكون ذلك الامتناع مانعا له من حصول العلم بذلك كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره لا سيما إذا قام عنده اعتقاد أن الرسول لا يقول مثل ذلك فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري"


فصرح بأن علو الله عز وجل على خلقه من المعلوم من الدين بالضرورة


وقال شيخ الإسلام في بيان الدليل ص275 :" ولا تعبأ بما يفرض من المسائل ويدعي الصحة فيها بمجرد التهويل أو بدعوى أن لا خلاف في ذلك وقائل ذلك لا يعلم أحداً قال فيها بالصحة فضلاً عن نفي الخلاف فيها وليس الحكم فيها من الجليات التي لا يعذر المخالف فيها"


فصرح بأن الجليات لا يعذر المخالف فيها وهذا من أنفس نصوصه في المسألة


وأما اليوم فيعمد أحدهم إلى رجل اجتمعت فيه عدة أمور


1_ الوقوع في بدعة مغلظة


2_ كون هذه البدعة مكفرة


3_ كون هذه البدعة مخالفة لما عليه أصحاب الفطر السليمة بل واليهود والنصارى ومخالفة للمعلوم من الدين بالاضطرار


4_ اجتهاده في الانتصار لهذه البدعة وتحريف كل ما يخالفها من النصوص وجعل ذلك في شروح على دواوين الإسلام وفي تفسير كتاب الله عز وجل


5_ تشنيعه على المخالف واتهامه إياه بالتجسيم أو تكفيره حتى


6_ كون هذه البدعة مما كثر إنكار السلف على القائلين بهذا وهذا الضال من العارفين بنصوصهم


7_ تحريفه لكلام أئمة السلف وكذبه عليهم وتقويله لهم ما لم يقولوا كدعوى أنهم مفوضة أو مذهب ابن كلاب


8_ مخالفته لأهل السنة في عامة المسائل التي خالفوا فيها الأشعرية الجهمية في الإيمان والقدر والنبوات والصفات مع نفس قبوري واضح يظهر في الكلام على التوسل والتبرك وشد الرحال


9_ توقيره لأئمة الجهمية الأشعرية الذين سبقوه بالضلال وإظهار الولاء التام لهم وجعله لكلامهم جنباً إلى جنب مع كلام أئمة الإسلام حقاً


يعمدون إلى مثل هذا فلا يكتفون بإعذاره حتى يجعلونه سنياً ! ثم إماماً في السنة ثم محنة يؤذى الموحدون من أجله


فلو فرضنا أن هناك إعذراً في الجليات والواضحات ولو فرضنا أنه يعذر في الجليات أفيعذر من اجتمعت فيه كل هذه الأمور ولا يعذر من قال عنه ( جهمي )!، ونص شيخ الإسلام الذي يحتجون به دائماً على عدم تكفير بعض أفراد هؤلاء فيه أنه سماهم ( جهمية ) مع كونه يراهم جهلة والجهمي لا يكون سنياً عندهم


فيا من تزعم الاقتداء بشيخ الإسلام لم لا تسميهم جهمية كما سماهم ؟


وهل يمتنع أحد من تسمية المعتصم جهمياً مع كونه مضرباً للمثل في البلادة في هذه المسائل ؟


وشيخ الإسلام نفسه قال أن السلف تكلموا في تكفير الجهمية ما لم يتكلموا في تكفير غيرهم من الفرق ، وقال أيضاً أن السلف ذموهم بما لم يذموا به الخوارج والمرجئة والرافضة


قال الإمام المجدد كما في الدرر السنية (10/94) :" بسم الله الرحمن الر حيم

إلى الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: ما ذكرتم من قول الشيخ: كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة؟ فهذا من العجب، كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مرارا؟! فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف.

وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هو القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة؛ ولكن أصل الإشكال، أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين، لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}.

وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر; وكفرهم ببلوغها إياهم، وإن لم يفهموها. إن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم " ،وقوله: " شر قتلى تحت أديم السماء " ، مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلو والاجتهاد؛ وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها.

وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاتهم وصيامهم، وهم يظنون أنهم على حق.

وكذلك إجماع السلف: على تكفير غلاة القدرية وغيرهم، مع علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؛ ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا. إذا علمتم ذلك، فإن هذا الذي أنتم فيه كفر: الناس يعبدون الطواغيت، ويعادون دين الإسلام، فيزعمون أنه ليس ردة

، لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بين.

وأظهر مما تقدم: الذين حرقهم علي، فإنه يشابه هذا. وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم، فلا يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم، فإن كان معكم بعض الإشكال، فارغبوا إلى الله تعالى أن يزيله عنكم، والسلام"


وهذا تحرير حسن في المسألة


قال شيخ الإسلام في رفع الملام ص69:" الرابع : أن هذا العذر لا يكون عذرا إلا مع العجز عن إزالته وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق فقصر فيها لم يكن معذورا "


وهل من بلغته أدلة الكتاب والسنة وإجماع السلف في مخالفة مذهبه لم يتمكن من إزالة عذره إن كان ثمة عذر ، وأما التأويلات الباردة فحتى إبليس كان عنده شبهة داحضة في مقابلة الحق المبين


وإذا كان حكم المعرض أنه كافر في قول الكافة من أهل العلم فكيف بمن بلغته الحجة وسمعها 


وقال ابن تيمية في كتاب الإيمان ص25 :"  وكذلك قالوا: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ} [هود: 91] ، قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] أي: لأفهمهم ما سمعوه، ثم قال: ولو أفهمهم مع هذه الحال التي هم عليها، {لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] ، فقد فسدت فطرتهم فلم يفهموا، ولو فهموا لم يعملوا، فنفى عنهم صحة القوة العلمية، وصحة القوة العملية"


الخطأ الثاني والعشرون : عد المرجئة غير الغلاة من أهل السنة ونسبة هذا الهذيان لابن تيمية

وهذه طريقة الكثير من المعاصرين كاللحيدان والفوزان والعجيب أنهم يشتدون على من يوافقهم على بعض إرجائهم من المعاصرين ثم يعدون المرجئة الأوائل خصوصاً أبا حنيفة وأصحابه من أهل السنة !

وأما من يقول هذا ويتكثر بمثل الشهرستاني فإبراهيم الرحيلي !

وقد أحسن الرد عليه الجابري ومحمد المدخلي

وسأنقل بعض ما كتبت في المسألة

فقد ذهب بعض الناس في عصرنا إلى أن مرجئة الفقهاء من أهل السنة ، وخالفهم غيرهم  ، وصار بعض من يرى أن مرجئة الفقهاء من أهل السنة ينكر على من ذهب إلى أنهم من أهل البدع.


فبدا لي أن أكتب بحثاً أجمع فيه من آثار السلف ما يبين موقفهم من مرجئة ، وهل يعدونهم من أهل السنة ؟


وقبل البدء لا بد من بيان أمرين مهمين :

الأول : هو أن مرجئة الفقهاء أقدم فرق المرجئة ظهوراً إذ أنها ظهرت قبل ظهور الجهم بن صفوان الذي أحدث قول الجهمية في الإرجاء.

قال عبد الله بن أحمد في السنة 594 - حدثني أبي ، نا هاشم بن القاسم ، عن محمد يعني ابن طلحة ، عن سلمة بن كهيل ، قال : « وصف ذر الإرجاء وهو أول من تكلم فيه ، ثم قال : إني أخاف أن يتخذ هذا دينا ، فلما أتته الكتب من الآفاق قال فسمعته يقول بعد : وهل أمر غير هذا ؟ »


وذر بن عبد الله هذا كوفي ، وهو أعلى طبقةً من الجهم فإنه من كبار أتباع التابعين ، وكان عنده من العلم ما حمل بعض الفقهاء كحماد بن سليمان وغيره على اتباعه ، بخلاف الجهم بن صفوان فإن الناس كانوا نافرين عنه لقبح مقالاته وقلة علمه


وأما مرجئة الكرامية ومرجئة الأشاعرة فما ظهرت إلا بعد ذلك بزمن ، وإن كان قول الأشعرية في الإيمان مقارباً لقول الجهم


الأمر الثاني : أن قول الجهمية في الإيمان كفري عندنا وعند مرجئة الفقهاء.

قال ابن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/ 324) :" قد جامعتنا في هذا المرجئة كلها على أن الإقرار باللسان من الإيمان إلا فرقة من الجهمية كفرت عندنا ، وعند المرجئة بزعمهم أن الإيمان هو المعرفة فقط بعد شهادة الله على قلوب من سماهم كافرين بأنهم عارفون فضادوا خبر الله ، وسموا الجاحد بلسانه العارف بقلبه مؤمنا ، وأقرت المرجئة إلا هذه الفرقة أن الإقرار من الإيمان وليس هو منه عمل القلب"


وبناءً على الحقيقتين السابقتين فإن المرجئة إذا أطلقوا إنما يراد بهم مرجئة الفقهاء ، لأنهم أقدم في الظهور ، ولأن أهل العلم اعتادوا على تمييز الجهمية بلقب ( الجهمية ) ، لأن ضلالهم أوسع من الضلال في مسائل الإيمان ، ثم إن ضلالهم في مسائل الإيمان له خصوصية يرفضها حتى مرجئة الفقهاء


ومما يدل على أن السلف إذا أطلقوا ( المرجئة ) أرادوا بذلك مرجئة الفقهاء :

ما روى الخلال في السنة 976- أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَصْرَمَ , أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنِ الْمُرْجِئَةِ , مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يَقُولُونَ : الإِيمَانُ قَوْلٌ.


أقول : ومرجئة الجهمية لا يدخلون ( القول ) في مسمى الإيمان ، فهم ليسوا مقصودين بهذا ، بل ما أراد إلا مرجئة الفقهاء فإن مرجئة الكرامية لم يدركوا أحمد



والآن مع الآثار السلفية في شأن المرجئة :


1) قال ابن سعد في الطبقات 9192- قَالَ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، قَالَ : ذُكِرَ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الْمُرْجِئَةُ فَقَالَ : وَاللَّهِ إِنَّهُمْ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.


أقول : وهذا إسنادٌ صحيح ، وإبراهيم النخعي أعلى طبقةً من ذر الهمداني الذي أحدث الإرجاء ولم يدرك بدعة الجهمية لذا لا يحفظ له كلامٌ فيها ، بل يريد هنا إرجاء الفقهاء الذي وقع فيه فيما بعد تلميذه حماد بن أبي سليمان ، ويبعد أن يطلق النخعي كلمةً شديدة كهذه في قومٍ يراهم من أهل السنة


2) قال ابن سعد في الطبقات 9188- قَالَ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحِلٌّ قَالَ : قَالَ لَنَا إِبْرَاهِيمُ : لاَ تُجَالِسُوهُمْ يَعْنِي الْمُرْجِئَةَ.


أقول : والأمر بهجرانهم على مقالتهم يدل على أنهم عنده من أهل البدع


3) قال عبد الله بن أحمد في السنة 541 - حدثني أبي ، نا إسماعيل ، عن أيوب ، قال : قال سعيد بن جبير غير سائله ولا ذاكرا ذاك له : « لا تجالس طلقا يعني أنه كان يرى رأي المرجئة »


وسعيد بن جبير من شيوخ ذر الذين نسب إلى إحداث الإرجاء .


قال الخلال في السنة وهو يحكي كتاب الإيمان للإمام أحمد 1354 - قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لِذَرٍّ: «مَا هَذَا الرَّأْيُ قَدْ أَحْدَثْتَ بَعْدِي؟ وَالزُّبَيْرُ بْنُ السَّيْقَلِ يُغْنِيكُمْ بِالْقُرْآنِ؟»


4) قال عبد الله بن أحمد في السنة 624 - حدثني أبي ، نا عبد الله بن نمير ، عن جعفر الأحمر ، قال : قال منصور بن المعتمر - في شيء - : « لا أقول كما قالت المرجئة الضالة المبتدعة »


وهذا تصريح بتبديعهم.


5) قال اللالكائي في السنة أخبرنا محمد بن المظفر المقرئ ، قال : حدثنا الحسين بن محمد بن حبش المقرئ ، قال : حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ، قال : سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين ، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار ، وما يعتقدان من ذلك ، فقالا فذكرا اعتقاداً ومما جاء فيه :" فمن قال : إنه مؤمن حقا فهو مبتدع ، ومن قال : هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين ، ومن قال : هو مؤمن بالله حقا فهو مصيب . والمرجئة والمبتدعة ضلال".


أقول : وهذه مقالة جميع المرجئة


6) قال عبد الله بن أحمد في السنة 534 - حدثني أبي ، نا حجاج ، سمعت شريكا : وذكر المرجئة ، فقال هم أخبث قوم وحسبك بالرافضة خبثا ولكن المرجئة يكذبون على الله تعالى


وكان شريك شديداً على المرجئة ، حتى أنه لم يقبل شهادة أبي يوسف


قال الخلال في السنة 1024- وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ , قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ , قَالَ : شَهِدَ أَبُو يُوسُفَ عِنْدَ شَرِيكٍ بِشَهَادَةٍ , فَقَالَ لَهُ : قُمْ , وَأَبَى أَنْ يُجِيزَ شَهَادَتَهُ , فَقِيلَ لَهُ : تُرَدُّ شَهَادَتُهُ , فَقَالَ : أُجِيزُ شَهَادَةَ رَجُلٍ يَقُولُ : الصَّلاَةُ لَيْسَتْ مِنَ الإِيمَانِ ؟.


7) قال الخلال في السنة 974- أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ , قَالَ : سَمِعْتُ إِسْحَاقَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ , قَالَ : الرَّجُلُ يَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا ؟ قَالَ : هُوَ كَافِرٌ حَقًّا.


975- أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ , قَالَ : حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ , يَقُولُ : لاَ يُعْجِبُنَا أَنْ نَقُولَ : مُؤْمِنٌ حَقًّا , وَلاَ نُكَفِّرُ مَنْ قَالَهُ.


أقول : قول إسحاق بالتكفير لا أعلم أحداً تابعه عليه ، والمقالة ذكرها مقالة جميع فرق المرجئة


وقد عقد الخلال فصلاً في مناكحة المرجئة واللالكائي فصلاً في هجرانهم وأوردا ما جاء عن السلف في ذم مرجئة الفقهاء ، مما يدل على أنهم من أهل البدع عندهم فإذا قلنا أنهم يهجرون وقولهم بدعة لم يكن لقولنا أنهم ( من أهل السنة ) بعد ذلك معنى


وقال ابن بطة في الإبانة الكبرى (3/97) :" والمرجئة تزعم أن الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان ، فقد أكذبهم الله عز وجل ، وأبان خلافهم . واعلموا رحمكم الله أن الله عز جل لم يثن على المؤمنين ، ولم يصف ما أعد لهم من النعيم المقيم ، والنجاة من العذاب الأليم ، ولم يخبرهم برضاه عنهم إلا بالعمل الصالح ، والسعي الرابح ، وقرن القول بالعمل ، والنية بالإخلاص ، حتى صار اسم الإيمان مشتملا على المعاني الثلاثة لا ينفصل بعضها من بعض ، ولا ينفع بعضها دون بعض ، حتى صار الإيمان قولا باللسان ، وعملا بالجوارح ، ومعرفة بالقلب خلافا لقول المرجئة الضالة".


فنعتهم بالضلال.


8) قال الخلال في السنة 1146- أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ , وَسُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ , وَأَحْمَدُ بْنُ أَصْرَمَ الْمُزَنِيُّ , وَهَذَا لَفْظُ سُلَيْمَانَ , قَالَ : قُلْتُ لأَحْمَدَ : يُصَلَّى خَلْفَ الْمُرْجِئِ ؟ قَالَ : إِذَا كَانَ دَاعِيَةً فَلاَ يُصَلَّى خَلْفَهُ.

1147- وَأَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ , يَقُولُ : لاَ يُصَلَّى خَلْفَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ إِذَا كَانَ دَاعِيَةً.


أقول : وأحمد هنا لا يعني إذا مرجئة الفقهاء ، فإن الجهمية عنده كفار لا تختلف عنه الرواية في ترك الصلاة خلفهم متى قدر المرء على ذلك سواءً كانوا دعاةً أو غير دعاة


قال العقيلي في الضعفاء (4/444) : حدثنا عبد الله بن أحمد قال سألت أبي عن أسد بن عمرو وأبي يوسف فقال أصحاب أبي حنيفة لا ينبغي أن يروى عنهم "


أقول : أبو يوسف صدوق في نفسه ، فالترك له إنما كان لأمرٍ زائدٍ على الضعف ، وهو البدعة وعدم الاحتياج لحديثه


فإن قيل : لعله أخذ عليهم الرأي


قلت : هذا أبلغ في تقرير الحجة لأن الإرجاء أشد من القول بالرأي


9) قال الخلال في السنة 981- وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ , أَنَّ أَبَا الْحَارِثِ حَدَّثَهُمْ , قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : كَانَ شَبَابَةُ يَدْعُو إِلَى الإِرْجَاءِ , وَكَتَبْنَا عَنْهُ قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ , كَانَ يَقُولُ : الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ , فَإِذَا قَالَ : فَقَدْ عَمِلَ بِلِسَانِهِ , قَوْلٌ رَدِيءٌ.

982- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الأَثْرَمُ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ , وَقِيلَ لَهُ : شَبَابَةُ , أَيُّ شَيْءٍ تَقُولُ فِيهِ ؟ فَقَالَ : شَبَابَةُ كَانَ يَدْعُو إِلَى الإِرْجَاءِ , قَالَ : وَقَدْ حُكِيَ عَنْ شَبَابَةَ قَوْلٌ أَخْبَثُ مِنْ هَذِهِ الأَقَاوِيلِ , مَا سَمِعْتُ أَحَدًا عَنْ مِثْلِهِ , قَالَ : قَالَ شَبَابَةُ : إِذَا قَالَ فَقَدْ عَمِلَ , قَالَ : الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ كَمَا يَقُولُونَ : فَإِذَا قَالَ فَقَدْ عَمِلَ بِجَارِحَتِهِ أَيْ بِلِسَانِهِ . فَقَدْ عَمِلَ بِلِسَانِهِ حِينَ تَكَلَّمَ , ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا قَوْلٌ خَبِيثٌ , مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَقُولُ بِهِ , وَلاَ بَلَغَنِي.


أقول : وقول شبابة هذا قريبٌ من قول مرجئة الفقهاء مع حيلة ، والإمام أحمد ترك الكتابة عنه


وسرد نصوص السلف في هذا الباب يطول ، والمراد هنا الإشارة المفهمة.


وقبل الختام لا بد من تنبيهين.


الأول : قول شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 394) :" وهذه الشبهة التي أوقعتهم مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة اهل علم ودين ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي".


ليس فيه نفي تبديعهم ، وإنما نفى تكفيرهم ونفي الأعلى إثباتٌ ضمني للأدنى هذا أولاً.


ثانياً : قول الشيخ (فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي ) نص في أن ليس كل النزاع معهم لفظي ، بل قال ( كثيراً ) ، ولم يقل ( كل النزاع )


التنبيه الثاني : قد ورد عن بعض مرجئة الفقهاء أنهم يرون السيف ، بل نسب ذلك بعض الناس للفرقة كلها ، وعلى هذا لا يجوز أن يقال فيمن يرى السيف أنه سني إذا صح عنه ذلك إذ أن القول بالسيف فيصلٌ بين أهل السنة والبدعة


وقال الآجري في الشريعة 1986 : وحدثنا الفريابي قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا سعيد بن عامر قال : حدثنا سلام بن أبي مطيع قال : كان أيوب يسمي أصحاب البدع خوارج ، ويقول : إن الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف

فيشيع البعض أن شيخ الإسلام ابن تيمية هون من شأن الخلاف مع مرجئة الفقهاء ورأى بدعتهم من باب بدع الأقوال ، ثم تذرع هذا المشيع بهذا الكلام لاعتبارهم من أهل السنة

 ولو قرأ كلام شيخ الإسلام كاملاً ولم يكتفِ بأخذه عن بعض الناس لاتضح له المقام كما ينبغي


قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/394) :" وَلِهَذَا لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ أَحَدًا مِنْ " مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ " بَلْ جَعَلُوا هَذَا مِنْ بِدَعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ؛ لَا مِنْ بِدَعِ الْعَقَائِدِ

 فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النِّزَاعِ فِيهَا لَفْظِيٌّ لَكِنَّ اللَّفْظَ الْمُطَابِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ الصَّوَابُ

 فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ أَهْلِ الْإِرْجَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَإِلَى ظُهُورِ الْفِسْقِ

فَصَارَ ذَلِكَ الْخَطَأُ الْيَسِيرُ فِي اللَّفْظِ سَبَبًا لِخَطَأِ عَظِيمٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ فَلِهَذَا عَظُمَ الْقَوْلُ فِي ذَمِّ " الْإِرْجَاءِ " حَتَّى قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي : لَفِتْنَتُهِمْ - يَعْنِي الْمُرْجِئَةَ - أَخْوَفُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ فِتْنَةِ الأزارقة .

 وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : مَا اُبْتُدِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةٌ أَضَرُّ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ الْإِرْجَاءِ .

 وَقَالَ الأوزاعي : كَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وقتادة يَقُولَانِ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْأَهْوَاءِ أَخْوَفُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ الْإِرْجَاءِ .

 وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي - وَذَكَرَ الْمُرْجِئَةَ فَقَالَ - : هُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ حَسْبُك بِالرَّافِضَةِ خُبْثًا وَلَكِنَّ الْمُرْجِئَةَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ .

 وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : تَرَكَتْ الْمُرْجِئَةُ الْإِسْلَامَ أَرَقَّ مِنْ ثَوْبِ سابري

وَقَالَ قتادة : إنَّمَا حَدَثَ الْإِرْجَاءُ بَعْدَ فِتْنَةِ فِرْقَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ .

 وَسُئِلَ مَيْمُونُ بْنُ مهران عَنْ كَلَامِ " الْمُرْجِئَةِ " فَقَالَ : أَنَا أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لِذَرِّ الهمداني : أَلَا تَسْتَحِي مِنْ رَأْيٍ أَنْتَ أَكْبَرُ مِنْهُ

وَقَالَ أَيُّوبُ السختياني : أَنَا أَكْبَرُ مِنْ دِينِ الْمُرْجِئَةِ إنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْإِرْجَاءِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يُقَالُ لَهُ : الْحَسَنُ .

وَقَالَ زاذان : أَتَيْنَا الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقُلْنَا : مَا هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي وَضَعْت ؟

 وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ كِتَابَ الْمُرْجِئَةِ فَقَالَ لِي : يَا أَبَا عُمَر لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت مُتّ قَبْلَ أَنْ أُخْرِجَ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ أَضَعَ هَذَا الْكِتَابَ فَإِنَّ الْخَطَأَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ لَيْسَ كَالْخَطَأِ فِي اسْمِ مُحَدِّثٍ ؛ وَلَا كَالْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ

 إذْ كانت أَحْكَامُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ "


فكلام شيخ الإسلام فيه مسائل


الأولى : قوله ( أكثر الخلاف لفظي ) ولم يقل كله


الثانية : نصه على أن قول مرجئة الفقهاء صار ذريعة إلى قول مرجئة الجهمية ، وأن هذا سبب ذم السلف لمرجئة الفقهاء


وقد علل المعلمي كلام الأوزاعي وسفيان في أبي حنيفة بنحو من هذا التعليل


قال المعلمي في التنكيل (1/259) :" كان الثوري والأوزاعي كجمهور الأئمة قبلهما وفي عصرهما يريان الارجاء ورد السنة بالرأي والقول ببعض مقالات الجهمية كل ذلك ضلالة من شأنها أن يشتد ضررها على الأمة في دينها ودنياها ورأيا صاحبكم واتباعه مخطئين أو مصيبين جادين في نشر ذلك ولاتزال مقالاتهم تنتشر وتجر إلى ما هو شر منها حتى جرت قوما إلى القول بأن أخبار الآحاد مردودة مطلقا وآخرين إلى رد الأخبار مطلقا كما ذكره الشافعي ثم جرت إلى القول بأن النصوص الشرعية لا يحتج بها في العقائد ! ثم إلى نسبه الكذب إلى أنبياء الله عز وجل وإليه سبحانه كما شرحته في قسم الاعتقاديات .

شاهد الثوري والأوزاعي طرفا من ذلك ودلتهما الحال على ما سيصير إليه الأمر فكان كما ظنا وهل كانت المحنة في زمن المأمون والمعتصم والواثق إلا على يدي أصحابكم ينسبون أقوالهم إلى صاحبكم ؟ وفي كتاب ( قضاة مصر ) طرف من وصف ذلك . وهل جر إلى استفحال تلك المقالات إلا تلك المحنة ؟ وأي ضر نزل بالأمة أشد من هذه المقالات ؟

فأما سقوط مذهبيهما ، فخيرة اختارها الله تبارك وتعالى لهما ، فإن المجتهد قد يخطئ خطأ لا يخلو عن تقصير ، وقد يقصر في زجر أتباعه عن تقليده هذا التقليد الذي نرى عليه كثيراً من الناس منذ زمان طويل ، الذي يتعسر أو يتعذر الفرق بينه وبين اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله

 فقد يلحق المجتهد كفل من تلك التبعات ، فسلم الله تعالى الثوري والأوازعي من ذلك

 فأما ما يرجى من الأجر على الأتباع في الحق فلهما من ذلك النصيب الأوفر بما نشراه من السنة علماً وعملاً ، وهذه الأمهات الست المتداولة بين الناس حافلة بالأحاديث المروية من طريقهما وليس فيها لصاحبكم ومشاهير أصحابه حديث واحد !

وقد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في ( تاريخه الكبير ) في ترجمة الثوري (( قال لنا عبدان عن ابن المبارك : كنت إذا شئت رأيت سفيان مصلياً ، وإذا شئت رأيته محدثاً ، وإذا شئت رأيته في غامض الفقه . ومجلس شهد ( في التاريخ الصغير ص 187 : شهدته ) ما صلي فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - . - يعني مجلس النعمان ))

 ولهذه الحكاية طرف في ( تاريخ بغداد ) و ( تقدمة الجرح والتعديل ) لابن أبي حاتم وغيرهما .

وقد علمنا كيف انتشر مذهبكم ، أولاً أولع الناس به لما فيه من تقريب الحصول على الرئاسة بدون تعب في طلب الأحاديث مسماعهما وحفظهما والبحث عن رواتها وعللها وغير ذلك ، إذ رأوا أنه يكفي الرجل يحصل له طرف يسير من ذلك من ثم يتصرف برأيه ، فإذا به قد صار رئيساً !

ثانياً: ولي أصحابكم قضاء القضاة فكانوا يحرصون على أن لا يولوا قاضياً في بلد من بلدان الإسلام إلا على رأيهم ، فرغب الناس فيه ليتولوا القضاة ، ثم كان القضاة يسعون في نشر المذهب في جميع البلدان .

ثالثاً : كانت المحنة على يدي أصحابكم واستمرت خلافة المأمون وخلافة المعتصم وخلافة الواثق ، وكانت قوى الدولة كلها تحت إشارتهم فسعوا في نشر مذهبهم في الاعتقاد وفي الفقه في جميع القطار

 وعمدوا إلى من يخالفهم في الفقه فقصدوه بأنواع الأذى الذي

ولذلك تعمدوا أبا مسهر عبد الأعلى بن مسهر عالم الشام وارث فقه الأوزاعي والإمام أحمد ابن حنبل حامل راية فقه الحديث وأبا يعقوب البويطي خليفة الشافعي وابن عبد الحكيم وغيره من المالكية بمصر

 وفي كتاب ( قضاة مصر ) طرف مما صنعوه بمصر وفي ذلك يقول الشاعر يمدح قاضيكم بمصر :

ولقد بجست العلم في طلابه ... وفجرت منه منابعاً لم تفجر

فحميت قول أبي حنيفة بالهدى ... ومحمد واليوسفي الأذكر

وفتى أبي ليلى وقول قريعهم ... زفر القياس أخي الحجاج الأنظر

وحطمت قول الشافعي وصحبه ... ومقالة ابن علية لم تصحر

ألزقت قولهم الحصير فلم يجز ... عرض الحصير فإن بد لك فاشبر

والمالكية بعد ذكر شائع ... أخملتها فكانها لم تذكر

ثم ذكر إكراه علماء مصر على القول بخلق القرآن وغير ذلك . راجع كتاب ( قضاة مصر ) ص 452 .

رابعاً : غلبت الأعاجم على الدولة فتعصبوا لمذهبكم لعلة الجنسية في سبيلها وما فيه من التوسع في الرخص والحيل !

خامساً : تتابعت دول من ألعاجم كانوا على هذه الوتيرة .

سادساً : قام أصحابكم بدعاية لا نظير لها واستحلوا في سبيلها الكذب حتى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما نراه في كتب المناقب .

سابعاً : تمموا ذلك بالمغالطات التي ضرب فيها الكوثري المثل الأقصى في ( التأنيب ) كما شرحت أمثلة من ذلك في ( الطليعة ) وفي هذا الكتاب ، ومر بعضها في هذه الترجمة نفسها .

فأما النضج الذي يدعيه الأستاذ فيظهر نموذج منه في قسم الفقهات ، بل في المسألة الأولى منها !

وقد كان خيراً للأستاذ ولأصحابه ولنا وللمسلمين أن يطوي الثوب على غرة ويقر الطير علي مكناتها ويدع ما في ( تاريخ بغداد ) مدفوناً فيه ويذر النزاع الضئيل بين مسلمي الهند مقصوراً عليهم ويتمثل قول زهير :

وما الحرب إلا ما علمتم وذتم و ... وما هو عنها بالحديث المرجم

متى تبعوها تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا أضريتموها فتضرم

فتعرككم عرك الرحى بثفالها ... وتلقح كشافاً ثم تنتج فتبتسم

فتنتج لكم غلمان اسأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتنفطم

فتغلل لكم مالا تغل لأهلها قرى بالعراق من قفيز ودرهم

وقد جرني الغضب للسنة وأئمتها إلى طرف مما أكره ، وأعوذ بالله من شر نفسي وسيء عملي ، ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) " انتهى كلامه


الثالثة : نقله لكلام السلف في ذم مرجئة الفقهاء وإقراره بل وتبريره له ، فنقل قول يحيى بن أبي كثير وقتادة :"لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْأَهْوَاءِ أَخْوَفُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ الْإِرْجَاءِ "


ونقل قول إبراهيم النخعي :" لَفِتْنَتُهِمْ - يَعْنِي الْمُرْجِئَةَ - أَخْوَفُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ فِتْنَةِ الأزارقة "


وهذه كلها في مرجئة الفقهاء إذ أن هؤلاء لم يدركوا فتنة الجهمية ، وأما الكرامية والأشاعرة فتأخروا جداً عن هؤلاء


ثم إن شيخ الإسلام نقل اتفاق السلف على تبديع مرجئة الفقهاء

فقد قال كما في مجموع الفتاوى (10/ 748) :" بِخِلَافِ الْمُرْجِئَةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا بَدَّعُوهُمْ"


وقول شيخ الإسلام ( أكثر الخلاف لفظي ) لا يفهمه هؤلاء الجهلة فإنهم يظنون أن قولك لفظي يعني كخلاف التنوع أو الخلاف الذي لا ينكر فيه وإنما أراد بقوله هذا أن أهل السنة ومرجئة الفقهاء متفقون على مآل العصاة فكلهم عند أهل السنة ومرجئة الفقهاء تحت المشيئة



والعجيب أن من الناس من يثرب على من يسمونهم ب( الحدادية ) الإلزام بتبديع مرجئة الفقهاء ، ثم هم يلزمون الناس بأنهم من أهل السنة ، ومن قال غير ذلك رموه بالحدادية وهذا عين الغلو في التبديع فتأمل كيف يصبح المرجيء الذي يرى السيف سنياً ، ويصبح السني الذي ينكر عليه مبتدعاً !


وقال  عبد العزيز بن عبد الله بن باز  في تعليقه على ’’العقيدة الطحاوية‘‘ (ص20 ـ ط. دار الوطن):


(( و ليس الخلاف بينهم و بين أهل السنة فيه لفظياً، بل هو لفظي و معنوي، و يترتَّب عليه أحكام كثيرة يعلمها من تدبَّر كلام أهل السنة و كلام المرجئة، و الله المستعان )).


فغاير بينهم وبين أهل السنة

وقد نقل ابن تيمية عبارة الطحاوي ( وأهله في أصله سواء )

ونص على أنها من أفحش الغلط

قال ابن تيمية كما في الفتاوى (7/555) :" وَ " السَّلَفُ " اشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى الْمُرْجِئَةِ لَمَّا أَخْرَجُوا الْعَمَلَ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَالُوا إنَّ الْإِيمَانَ يَتَمَاثَلُ النَّاسُ فِيهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِتَسَاوِي إيمَانِ النَّاسِ مِنْ أَفْحَشِ الْخَطَأِ بَلْ لَا يَتَسَاوَى النَّاسُ فِي التَّصْدِيقِ وَلَا فِي الْحُبِّ وَلَا فِي الْخَشْيَةِ وَلَا فِي الْعِلْمِ؛ بَلْ يَتَفَاضَلُونَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَ " أَيْضًا " فَإِخْرَاجُهُمْ الْعَمَلَ يُشْعِرُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ أَيْضًا وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا فَإِنَّ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ وَأَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ بِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ فَهُوَ كَافِرٌ قَطْعًا بِالضَّرُورَةِ وَإِنْ أَدْخَلُوا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ أَخْطَئُوا أَيْضًا؛ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةِ بَدَنٍ"

وهذا كلام عظيم

وليعلم أن أبا حنيفة الذي ينافح عنه بشدة في هذا الباب قد ثبت عنه إرجاء الغلاة


قال يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (1/ 369) : حدثنا أبو بكر الحميدي ثنا حمزة بن الحارث مولى عمر بن الخطاب عن أبيه قال: سمعت رجلاً يسأل أبا حنيفة في المسجد الحرام عن رجل قال أشهد أن الكعبة حق ولكن لا أدري هي هذه أم لا، فقال: مؤمن حقاً. وسأله عن رجل قال أشهد أن محمداً بن عبد الله نبي ولكن لا أدري هو الذي قبره بالمدينة أم لا. قال: مؤمن حقاً - قال أبو بكر الحميدي: ومن قال هذا فقد كفر - .
قال أبو بكر: وكان سفيان يحدث عن حمزة بن الحارث حدثنا مؤمل ابن إسماعيل عن الثوري بمثل معنى حديث حمزة.

وهذا ثابت عنه

قال عبد الله بن أحمد في السنة 316 - حدثني محمد بن هارون ، نا أبو صالح ، قال : سمعت الفزاري وحدثني إبراهيم بن سعيد ، نا أبو توبة ، عن أبي إسحاق الفزاري ، قال : « كان أبو حنيفة يقول إيمان إبليس وإيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه واحد ، قال أبو بكر : يا رب ، وقال إبليس : يا رب »

وهذا إسناد صحيح وهذا إرجاء جهم

وقد روى الشيباني عن أبي حنيفة أنه كان يكره أن يقال ( إيماني كإيمان جبريل ) يعني من باب التواضع والشيباني متهم بالكذب ولا ندري أي قولي أبي حنيفة المتأخر إن صح هذا


فالعجب ممن يبدع الريس والحلبي والمدخلي ثم يعد هذا إماماً !

هزلت

الخطأ الثالث والعشرون : عد أهل الرأي أصحاب الحيل مذهباً سنياً معتبراً والتشنيع على من يطعن فيه

وأيضاً عد أبا حنيفة إماماً من أئمة المسلمين كسفيان والأوزاعي وأحمد ابن حنبل

وهذه المسألة اشتبهت جداً في الأزمنة المتأخرة بسبب سلطان الأحناف وعقوبتهم كل من يظهر مثالب إمامهم وما قاله الناس فيه

وفي الحقيقة من لا سبب له في الحديث أو نقد الأخبار قد ينطلي عليه تلك المناقب المكذوبة لأبي حنيفة

وقد كتبت شيئاً كثيراً في هذه المسألة واشتهر هذا القول عني واتخذه كل مبغض للطعن في إلا الطاعنين من الغلاة

ومن أراد التوسع في المسألة فليراجع كتابي ( الترجيح بين أقوال المعدلين والمجرحين في أبي حنيفة )

وأما هنا فسأنقل شذرات فحسب

قال الخطيب في تاريخه (15/ 556) : أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عبيد الله الحنائي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عبد الله الشافعي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل السلمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو توبة الربيع بن نافع، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله ابن المبارك، قال: من نظر في كتاب الحيل لأبي حنيفة أحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله

وهذا إسناد صحيح

وقال الخطيب أيضاً أَخْبَرَنَا إبراهيم بن عُمَر البرمكي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن خلف الدقاق، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَر بن مُحَمَّد الجوهري، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر الأثرم، قال: حَدَّثَنِي زكريا بن سهل المروزي، قال: سمعت الطالقاني أبا إسحاق، يقول: سمعت ابن المبارك، يقول: من كان كتاب الحيل في بيته يفتي به أو يعمل بما فيه فهو كافر، بانت امرأته، وبطل حجه.
قال: فقيل له: إن في هذا الكتاب إذا أرادت المرأة أن تختلع من زوجها ارتدت عن الإسلام حتى تبين، ثم تراجع الإسلام، فقال عبد الله: من وضع هذا فهو كافر، بانت منه امرأته، وبطل حجه، فقال له خاقان المؤذن: ما وضعه إلا إبليس، قال: الذي وضعه عندي أبلس من إبليس.
وقال زكريا: أَخْبَرَنَا الحسين بن عبد الله النيسابوري، قال: أشهد على عبد الله، يعني: ابن المبارك شهادة يسألني الله عنها، أنه قال لي: يا حسين، قد تركت كل شيء رويته عن أبي حنيفة، فأستغفر الله وأتوب إليه.

وقال أبو داود في مسائله عن أحمد
1784 - سَمِعْتُ أَحْمَدَ، " ذَكَرَ الْحِيَلَ مِنْ أَمْرِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، فَقَالَ: يَحْتَالُونَ لِنَقْضِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «.

وقد أثبت على أبي حنيفة القول بالحيل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى

قال شيخ الإسلام في القواعد النورانية ص89 :" ومن أصولها أن أبا حنيفة أوسع في إيجابها من غيره فإنه يوجب في الخيل السائمة المشتملة على الآثار ويوجبها في كل خارج من الأرض ويوجبها في جميع أنواع الذهب والفضة من الحلى المباح وغيره ويجعل الركاز المعدن وغيره فيوجب فيه الخمس لكنه لا يوجب ما سوى صدقة الفطر والعشر إلا على مكلف ويجوز الاحتيال لإسقاطها"

وذكر ابن القيم في بدائع الفوائد أن من أصول أبي حنيفة القول بالحيل

والحيل لا زالت موجودة ويعمل فيها في مذهبهم

وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان ص338 :" ومن مكايده التى كاد بها الإسلام وأهله: الحيل والمكر والخداع الذى يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه، ومضادته فى أمره ونهيه، وهى من الرأى الباطل الذى اتفق السلف على ذمه فإن الرأي رأيان: رأى يوافق النصوص وتشهد له بالصحة والاعتبار، وهو الذى اعتبره السلف، وعملوا به.
ورأى يخالف النصوص وتشهد له بالإبطال والإهدار، فهو الذى ذموه وأنكروه. وكذلك الحيل نوعان: نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه والتخلص من الحرام، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغى، فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه.
ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالماً، والظالم مظلوماً، والحق باطلاً والباطل حقاً، فهذا النوع الذى اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض"

فهنا ابن القيم يصرح بأن السلف اتفقوا على ذم الحيل والرأي المحدث والصيح بأهله في أقطار البلدان

فمن هؤلاء إن لم يكونوا أبا حنيفة وأصحابه ؟

وقد تكلم شيخ الإسلام في بيان الدليل على إبطال على موضوع الحيل وتوسع في نقضه وبيان ضلالة أهله وهو في هذا الكتاب إنما يناقش مذهباً لأبي حنيفة

قال ابن حبان في المجروحين (3/71) : وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْفَقِيه قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بن حَكِيم الشَّيْبَانِيّ يَقُول سمت أَبَا إِسْحَاق الطَّالقَانِي يَقُول سَمِعت بن الْمُبَارَكِ يَقُولُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ كِتَابُ الْحِيَلِ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَبَطَلَ حَجُّهُ ثُمَّ قَالَ قَالَ فُلانٌ لَوْ أَنَّ رَجُلا ظَاهَرَ مِنَ امْرَأَتِهِ فَارْتَدَّ عَنِ الإِسْلامِ سَقَطَ عَنْهُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلا ابْتُلِيَ بِهَذَا وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ افْعَلْ هَذَا لِكَيْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ فَهُوَ كَافِرٌ وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَبَطَلَ حَجُّهُ

وهذه الكلمة أوردها ابن حبان في ترجمة أبي حنيفة فتأمل

والحيل في حقيقتها تحليل لما حرم الله عز وجل ، ومن نظر في حيل القوم في باب الفروج اقشعر جلده ، وهي سير على طريق اليهود الذين اعتدوا في السبت

واعجب ممن يحارب القوانين الوضعية ويحارب فقه التيسير وأهله ثم يسكت عن أهل الحيل وهم أخطر وقولهم أشنع

وبعض الرافضة اليوم يفتي بالحيل فأخذ ذلك عليهم بعض المتخصصين في الرد على الرافضة ، ولاقت نفرة عظيمة من العامة فكيف لو علموا أن هذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ؟

وقد ذم السلف من يتتبع الرخص والقول بالحيل اختراع للرخص وليس فقط تتبعاً لها

ولهذا كان ابن الهمام الحنفي يفتي بجواز تتبع الرخص كما في فتح القدير طرداً لأصوله


قال الشوكاني في نيل الأوطار (3/355) :" وَهَذَا تَعْوِيلٌ عَلَى رَأْيٍ فَاسِدٍ حَاصِلُهُ رَدُّ كَثِيرٍ مِنْ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا حُجَّةٍ نَيِّرَةٍ فَكَمْ مَوْطِنٍ مِنْ الْمَوَاطِنِ يَقُولُ فِيهِ الشَّارِعُ لَا يُجْزِئُ كَذَا لَا يُقْبَلُ كَذَا لَا يَصِحُّ كَذَا ، وَيَقُولُ الْمُتَمَسِّكُونَ بِهَذَا الرَّأْيِ يُجْزِئُ وَيُقْبَلُ وَيَصِحُّ وَلِمِثْلِ هَذَا حَذَّرَ السَّلَفُ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ "

أقول : هنا الشوكاني ينقل تحذير السلف من أهل الرأي ، مقراً له بل ويذكر وجهه ، ويرمي أهل الرأي برد كثيرٍ من السنة

نقلت هذا الكلام رداً على من زعم أن ذم أهل الرأي قد هجره أهل العلم

والسؤال هنا : من هم أهل الرأي ؟

فالجواب : لا ينطبق مسمى أهل الرأي على أحد من المذاهب الفقهية المتبوعة إلا الحنفية ، لو نظرت في الجواهر المضية في طبقات الحنفية لوجدت عبد القادر القرشي كثيراً ما يصف أصحابه ب(إمام أهل الرأي )

وقد صرح الشوكاني بأن الحنفية هم أهل الرأي في السيل الجرار حيث قال :" "فهذه الأحاديث متعاضدة على تقديم الكفارة على الحنث قال ابن المنذر رأى ربيعة والأوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي يعني الحنفية أن الكفارة تجزىء"

فإن قال قائل : الشوكاني نفسه وقعت منه زلات فكيف يعتمد في مثل هذا ؟
      
والشوكاني نفسه وقع في أمور من أقبحها قوله بالوقف في القرآن ووقيعته في معاوية والمغيرة بن شعبة وتفضيله علي على بقية الصحابة

وهو هنا إنما ينقل كلام السلف ، وكل من نظر في كلامهم بعين الإنصاف خرج بالنتيجة نفسها التي خرج بها الشوكاني

وهنا سؤال : هل أهل الرأي من أهل الحديث أم هم قسيم أهل الحديث أي أن الناس قسمان أهل رأي وأهل الحديث ؟

من المعلوم أن عدداً من أهل العلم فسروا أحاديث الطائفة المنصورة والفرقة الناجية بأنهم أهل الحديث حتى قال قائلهم ( إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ) ، فإذا كان أهل الرأي من أهل الحديث فهم داخلون في هذه الفضيلة ، وإن لم يكونوا كذلك فليس لهم من مسمى الطائفة المنصورة والفرقة الناجية نصيب

والحق أنهم قسيم أهل الحديث ، وقسيم الشيء لا يكون قسماً منه ، بل لا زالت النفرة عظيمة بينهم والناس يقولون ( هذا من أهل الرأي ) ويقولون ( هذا من أهل الحديث ) بل يقولون ( فلان ترك مذهب أهل الرأي وصار من أهل الحديث (

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (30/404) : "وَأَمَّا إسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الرَّأْيِ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ"

فهذا نص على أن مذهب أهل الرأي غير مذهب أهل الحديث

وقال الخطيب في الفقيه والمتفقه مبيناً سبب عداوة أهل الرأي لأهل الحديث (2/365) :" أما طعن المتخصصين من أهل الرأي والمتكلمين ، فأنا أبين السبب فيه ليعرفه من لم يكن يدريه أما أهل الرأي فجل ما يحتجون به من الأخبار واهية الأصل ، ضعيفة عند العلماء بالنقل ، فإذا سئلوا عنها بينوا حالها ، وأظهروا فسادها ، فشق عليهم إنكارهم إياهم ، وما قالوه في معناها ، وهم قد جعلوها عمدتهم ، واتخذوها عدتهم ، وكان فيها أكثر النصرة لمذاهبهم ، وأعظم العون على مقاصدهم ومآربهم ، فغير مستنكر طعنهم عليهم ، وإضافتهم أسباب النقص إليهم ، وترك قبول نصيحتهم في تعليلهم ، ورفض ما بينوه من جرحهم ، وتعديلهم ، لأنهم قد هدموا ما شيدوه وأبطلوا ما أموه منه وقصدوه ، وعللوا ما ظنوا صحته واعتقدوه"

قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى الكبرى (5/139) : فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَدُلَّ النَّاسَ قَطُّ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ شُرُوطُ الْبَيْعِ، أَوْ النِّكَاحِ، كَذَا، وَكَذَا، وَلَا هَذِهِ الْعِبَادَةُ، أَوْ الْعَقْدُ صَحِيحٌ؛ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، بَلْ هَذِهِ كُلُّهَا عِبَارَاتٌ أَحْدَثَهَا مَنْ أَحْدَثَهَا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ"

فقرنهم بأهل الكلام

فإذا علمت هذا فمسمى الطائفة المنصورة والفرقة الناجية لا يدخل فيه أهل الكلام وأهل الرأي وأهل التصوف ، وإن كان في أفرادهم من هو فاضل معذور ، ولكن الكلام هنا على الحكم العام


قال عبد الحليم ابن تيمية والد شيخ الإسلام في المسودة (1/256) :" [والد شيخنا] فصل:
فى قول أحمد: "لا يروى عن أهل الرأى" تكلم عليه ابن عقيل بكلام كثير قال في رواية عبد الله أصحاب الرأى لا يروى عنهم الحديث قال القاضي وهذا محمول على أهل الرأى من المتكلمين كالقدرية ونحوهم.
قلت ليس كذلك بل نصوصه في ذلك كثيرة وهو ما ذكرته في المبتدع ، أنه نوع من الهجرة فانه قد صرح بتوثيق بعض من ترك الرواية عنه كأبي يوسف ونحوه ولذلك لم يرو لهم في الامهات كالصحيحين"

أقول : هذا نص مهم يبين فيه والد شيخ الإسلام أن الإمام أحمد كان يدعو إلى ترك الرواية عن أهل الرأي وإن كانوا ثقات ، وأن هذا من باب هجران المبتدع ، ويمثل بأبي يوسف القاضي ، وشيخ الإسلام هنا يقر والده ولا يعلق على كلامه بشيء

ونص أحمد المشار إليه هو ما روى العقيلي في الضعفاء (1/59) حدثنا آدم بن موسى قال : سمعت محمد بن إسماعيل البخاري قال : أسد بن عمرو أبو المنذر البجلي كوفي صاحب رأي ليس بذاك عندهم . حدثنا عبد الله بن أحمد قال : سألت أبي عن أسد بن عمرو صدوق ؟ قال : أصحاب أبي حنيفة ليس ينبغي أن يروى عنهم شيء

فهذا نص أحمد وهذا شرح أصحابه ( من المتأخرين ) لكلامه رحمه الله تعالى

وليعلم أن أبا يوسف القاضي من أفاضل أهل الرأي_ على بلايا عظيمة وقع فيها _ ، فقد خالف إمامه في مسائل كثيرة كان الحق فيها معه ، ولم يصح عنه قول الجهمية بل صح عنه أنه ذم الجهمية والمقاتلية كما في تاريخ بغداد ، وكان ينكر القول بالسيف ، وكان صدوقاً في الحديث لم يكن ضعيفاً ، ومع ذلك امتثل أصحاب الصحيحين وصية الإمام أحمد بترك الرواية عن أهل الرأي كما ذكر والد شيخ الإسلام بل وامتثلها أصحاب الكتب الستة إذ لم يخرجوا لكبار أصحاب الرأي شيئاً بل عامة أصحاب أصحاب السنن والمسانيد

فإن قال قائل : أليس قد خرجوا لبعض أهل البدع ممن هم ليسوا في العلم والفضل كأهل الرأي ؟

فالجواب : بلى ، وذلك له تخريجان

الأول : أن يقال أنهم خرجوا لمن لا يرونه داعيةً ، وقد رأوا هؤلاء دعاةً إما إلى الإرجاء أو إلى الرأي المذموم

الثاني : أن يكون أهل الرأي لقلة عنايتهم بالآثار لا يحتاج إليهم ، مع ما هم عليه من الحال غير المرضية عند السلف لهذا هجروا روايتهم

وليعلم أن أهل الرأي يعظمون أبا يوسف جداً ويعدونه الإمام الثاني في مذهبهم ، ومن أخذ بقوله وخالف قول الإمام لم يكن عندهم خارجاً من المذهب ، فإذا كان الأمر كذلك فلا شك أن يكرهون ذلك الكلام الذي قاله والد شيخ الإسلام

وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (4/207) :" ولا خلاف عنه _ يعني أحمد _ في أنه لا يستفتي أهل الرأي المخالفون لسنة رسول الله ص - وبالله التوفيق ولا سيما كثير من المنتسبين إلى الفتوى في هذا الزمان وغيره وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي فقال ما يبكيك فقال استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم قال ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق"

أقول : هنا ابن القيم ينقل عن الإمام أحمد كراهيته لاستفتاء أهل الرأي ويقره فليس كلام أحمد مهجوراً كما يزعم بعضهم ، وإذا كان أحمد لا يرى الرواية عنهم فكيف يرى أخذ كلامهم في الفتيا

قال عبد الله بن أحمد في مسائله عن أبيه 1585 - سَأَلت ابي عَن الرجل يُرِيد ان يسْأَل عَن الشَّيْء من امْر دينه مِمَّا يبتلى بِهِ من الايمان فِي الطَّلَاق وَغَيره وَفِي مصر من اصحاب الرَّأْي وَمن اصحاب الحَدِيث لَا يحفظون وَلَا يعْرفُونَ الحَدِيث الضَّعِيف وَلَا الاسناد الْقوي فَلِمَنْ يسْأَل لاصحاب الرَّأْي اَوْ لهَؤُلَاء اعني اصحاب الحَدِيث على مَا قد كَانَ من قلَّة معرفتهم قَالَ يسْأَل اصحاب الحَدِيث لَا يسْأَل اصحاب الرَّأْي ضَعِيف الحَدِيث خير من رَأْي ابي حنيفَة.

وقال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة في ترجمة الحافظ أحمد بن الفرات الرازي (1/54) :" ونقل عَنْ إمامنا أشياء منها قَالَ: قَالَ أَحْمَد من دل عَلَى صاحب رأي ليفتيه فقد أعان عَلَى هدم الإسلام"

وقد ورد نحو هذا عن الإمام الشافعي

قال أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام 351 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّيْرَجَانِيِّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ السُّلَيْمَانِيُّ الْحَافِظُ بِبِيِّكَنْدَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْقَرَّابِيُّ هَرَوِيُّ بِبَلْخٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدٍ سَمِعْتُ الْبُوَيْطِيَّ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ أَنْ يُفْتِيَ فَإِنْ حَلَّ فَلِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ .


وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أنهم من أقل الناس نفعاً في باب الإفتاء ، مع كثرة عددهم وقوة سلطانهم

قال شيخ الإسلام في الاستقامة ص12:" الوجه الثالث أن النصوص دالة على عامة الفروع الواقعة كما يعرفه من يتحرى ذلك ويقصد الإفتاء بموجب الكتاب والسنة ودلالتها وهذا يعرفه من يتأمل كمن يفتى في اليوم بمائة فتيا أو مائتين أو ثلاثمائة وأكثر أو أقل وأنا قد جربت ذلك ومن تدبر ذلك رأى أهل النصوص دائما أقدر على الإفتاء وأنفع للمسلمين في ذلك من أهل الرأى المحدث فإن الذى رأيناه دائما أن أهل رأى الكوفة من أقل الناس علما بالفتيا وأقلهم منفعة للمسلمين مع كثرة عددهم وما لهم من سلطان وكثرة بما يتناولونه من الأموال الوقفية والسلطانية وغير ذلك ثم إنهم في الفتوى من أقل الناس منفعة قل أن يجيبوا فيها وإن أجابوا فقل أن يجيبوا بجواب شاف وأما كونهم يجيبون بحجة فهم من أبعد الناس عن ذلك"

قال شيخ الإسلام كما في [ جامع المسائل المجموعة الثامنة ص74 – ط دار عالم الفوائد ت / محمد عزيز شمس ] :
الهجرة المشروعة كقوله تعالى : { والرجز فاهجر } وقوله : { وإذا رأيت الذين يخوضون } وقوله : { وتولى عنهم } وقوله : { واهجرهم هجراً جميلاً } , وهجرة الصحابة إلى الحبشة ثم إلى المدينة , وهجرة المسلم من دار الكفر إلى دار الإسلام , وهجرة الناس من دار الفجور والبدعة إلى دار البر والسنة , وهجرة المعلنين بالمعاصي والمظهرين للبدع , كما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بهجرة الثلاثة الذين خلفوا , وأمر عمر بهجر صبيغ بن عسل , وأمر الأئمة بهجران الدعاة إلى البدع بحيث لا يتخذون حكاماً ولا شهوداً ولا أئمةً ولا مفتين ولا محدثين , ولا يجالسون ولا يخاطبون , ونحو ذلك , كل هذا له مقصودان :
أحدهما : اشتمال ذلك على أداء الواجبات وترك المحرمات , فإن هجران الذنوب تركها , قال النبي صلى الله عليه وسلم : المهاجر من هجر ما نهى الله عنه , والهجرة من دار الحرب ليتمكن المسلم من إقامة دينه ولوائه الجهاد , ولئلا يقع فيما هم فيه , وكذلك هجران قرناء السوء , لئلا يرى القبيح ويسمعه فيكون شريكاً لهم كما قال تعالى : { إنكم إذن مثلهم } ولئلا يوقعوه في بعض ذنوبهم فإن المرء على دين خليله , فلينظر أحدكم من يخالل , فالأول يكون بترك مخالطتهم وقت الذنوب , وإن خولطوا في غيرها للضرورة , والثاني يكون بترك عشرتهم مطلقاً , فإن المعاشرة قد تجر إلى القبيح , فمن كان مضطراً إلى معاشرتهم أو كان هو الحاكم عليهم ديناً ودنيا فهذا لا ينهى عن المعاشرة , بخلاف .......... [ قال المحقق : كلمة غير واضحة ] الذين قد يفسدون عقله أو دينه أو نحو ذلك .
المقصود الثاني : تضمنها نهي المهجور وتعزيره وعقوبته فيكون جزاءً له ... [ قال المحقق : كلمة مطموسة ] ولغيره من ضربائه , كسائر أنواع التعزير والعقوبات المشروعة , فهذه الهجرة من جنس العقوبات والتعزيرات لتنكيل المهجور وغيره على ذلك الذنب , وتلك الهجرة من جنس التقوى والاحتراز عن مواقعة المحظورات البدعية والفجورية , فالأولى تحقيق التقوى , والثانية تحقيق الجهاد , فالأولى من فعل الذين هاجروا , والثانية من فعل الذين جاهدوا { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله , والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض } ولهذا لا يصلح .... [ قال المحقق : كلمة مبتورة ] إلا مع المكنة والقدرة , كما لا تصلح المعاقبة إلا للقادر المتمكن بخلاف الأولى , ولهذا كانت الأولى مشروعة بمكة , والثانية إنما شرعت بالمدينة بعد تبوك لما كان الإسلام في غاية القوة , فإن الثانية تتضمن ترك السلام عليه وترك عيادته وتقديمه في شيء من المراتب الدينية , كالإمامة والحكم والشهادة والحديث والفتوى .
وهذا إذا كان ممن يؤثر في المهجور حصول المنفعة , وربما كان فيه منفعة ومضرة فيراعى ما غلب منهما , وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأوقات , وتختلف فيه الاجتهادات , وقد يستغنى عن الهجرة بالتأليف , فالغرض النهي عن المنكر بأقرب الطرق وتحصيل المعروف على أكمل الوجه , والله أعلم .
وأهل السنة والحديث يهجرون الداعية إلى البدع من الكلام أو الرأي أو العبادة , ولهذا كان أهل السنة قد تجنبوا فيها الرواية عن الدعاة إلى البدع عندهم من أهل الكلام كعمر بن عبيد وغيره , ومن أهل الرأي كأهل الرأي من أهل الكوفة , وهو فعل أحمد ابن حنبل معهم , وهذا تفصيله مذكور في غير هذا الموضع . اهـ كلامه قدس الله روحه

وما ذكره شيخ الإسلام من أن أحمد كان يهجر أهل الرأي ثابت عنه بل كان ينهى عن الرواية عنهم

قال العقيلي في الضعفاء (1/59) : حدثنا عبد الله بن أحمد قال : سألت أبي عن أسد بن عمرو صدوق ؟ قال : أصحاب أبي حنيفة ليس ينبغي أن يروى عنهم شيء

أقول : فإذا كان هذا مذهب أحمد في كتابة الحديث عنهم فما عساه أن يقول في التمذهب بمذهبهم وكتابة رأيهم ، الذي يجوزه بعض من يدعو إلى اتباع الأئمة ولو صدق باتباعهم لعلم أن الرواية لا تختلف عن أئمة الحديث في ترك الإفتاء بقول أهل الرأي ، فضلاً عن التسوية بينهم وبين أهل الحديث بقولك ( المذاهب الفقهية المعتبرة ) فتبدأ بأهل الرأي وتختم بأهل الحديث

وقد نص الشيخ هنا على تبديع أهل الرأي وهذه نقلها حرب مسألة إجماع


قال الزيلعي في نصب الراية (2/271) :" وَالْبُخَارِيُّ كَثِيرُ التَّتَبُّعِ لِمَا يَرُدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ السُّنَّةِ ، فَيَذْكُرُ الْحَدِيثَ ، ثُمَّ يُعَرِّضُ بِذِكْرِهِ ، فَيَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَذَا وَكَذَا ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : كَذَا وَكَذَا ، يُشِيرُ بِبَعْضِ النَّاسِ إلَيْهِ ، وَيُشَنِّعُ لِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ ، وَكَيْفَ يُخْلِي كِتَابَهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ ، وَهُوَ يَقُولُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ : " بَابُ الصَّلَاةِ مِنْ الْإِيمَانِ " ، ثُمَّ يَسُوقُ أَحَادِيثَ الْبَابِ ، وَيَقْصِدُ الرَّدَّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ؟ قَوْلَهُ : إنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ"

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/ 38) :" وفِي (الطَّبَقَاتِ) لأَبِي إِسْحَاقَ: وُلِدَ مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ بِبَغْدَادَ، وَنَشَأَ بِنَيْسَابُوْرَ، وَاسْتوطَنَ سَمَرْقَنْدَ.
رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ لِي حُسْنُ رَأْيٍ فِي الشَّافِعِيِّ، فَبَيْنَا أَنَا قَاعِدٌ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغْفَيْتُ، فرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي المَنَامِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! أَكْتُبُ رَأْيَ الشَّافِعِيِّ؟
فَطَأَطَأَ رَأَسَهُ شِبْهَ الغَضْبَانِ وَقَالَ: (تَقُوْلُ رَأْي؟ لَيْسَ هُوَ بِالرَّأْي، هُوَ ردٌّ عَلَى مَنْ خَالَفَ سُنَّتِي) .
فَخَرَجْتُ فِي أَثَرِ هَذِهِ الرُّؤيَا إِلَى مِصْرَ، فَكَتَبْتُ كُتُبَ الشَّافِعِيِّ"

وإنما اشتهر الشافعي بالرد على أهل الرأي

وقال العقيلي في الضعفاء (3/221) : وحدثنا عبد الرحمن بن محمد بن سلمة الرازي قال : حدثنا عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني رستة قال : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : حدثني معاذ بن معاذ قال : كنت عند سوار بن عبد الله ، فجاء الغلام فقال : زفر بالباب ، فقال : زفر الرأي لا تأذن له فإنه مبتدع ، فقال له بعض جلسائه : ابن عمك قدم من سفر لم تأته ومشى إليك ، لو أذنت له ؟ فأذن له ، فدخل فسلم ، فما رأيته رد عليه ، وأراه مد يده إليه فلم يناوله يده ، وما رأيته نظر إليه حتى قام وخرج

أقول : فبدعه بالرأي كما قال شيخ الإسلام

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/ 396) :" وَقَدْ كَانَ السَّرَّاجُ ذَا ثَروَةٍ وَتِجَارَةٍ، وَبِرٍّ وَمَعْرُوْفٍ، وَلَهُ تَعَبُّدٌ وَتَهَجُّدٌ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ مُنَافِراً لِلْفُقَهَاءِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ - وَاللهُ يَغْفِرُ لَهُ –"

قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في رسالته التي طبعت مؤخراً بعنوان ( فضائل الأئمة الأربعة )! ص11:" وأما أهل الرأي : فهم وإن كان لهم جمل من الكلام في ذلك ، فليس لهم قواعد محررة لا في أصول الدين ولا في أصول فقه ، ولهذا كان المتبعون لهم فيهم من جميع أهل الأهواء "

هذا النص النفيس ليس في مجموع الفتاوى

وقال في هذه الرسالة عن أبي حنيفة في ص14 :" لأن أصوله لا تنفي البدع وإن لم يثبتها "

فمن كانت أصوله لا تنفي البدع لا شك أنها ليست أصول أهل السنة



وقال الطوفي في شرح مختصر الروضة :" وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ بِحَسَبِ الْإِضَافَةِ هُمْ كُلُّ مَنْ تَصَرَّفَ فِي الْأَحْكَامِ بِالرَّأْيِ ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَسْتَغْنِي فِي اجْتِهَادِهِ عَنْ نَظَرٍ وَرَأْيٍ ، وَلَوْ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَتَنْقِيحِهِ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ .
وَأَمَّا بِحَسَبِ الْعَلَمِيَّةِ ، فَهُوَ فِي عُرْفِ السَّلَفِ عَلَمٌ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ ، وَهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ ، أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَؤُلَاءِ أَهْلَ الرَّأْيِ ، لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ إِلَى الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ ; إِمَّا لِعَدَمِ بُلُوغِهِمْ إِيَّاهُ ، أَوْ لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ رِوَايَةَ غَيْرِ فَقِيهٍ ، أَوْ قَدْ أَنْكَرَهُ رَاوِي الْأَصْلِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، أَوْ لِكَوْنِهِ وَارِدًا فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي ذَلِكَ ، وَبِمُقْتَضَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ لَزِمَهُمْ تَرْكُ الْعَمَلِ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ حَتَّى خَرَّجَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي «جَامِعِهِ» نَحْوَ مِائَةٍ أَوْ خَمْسِمِائَةِ حَدِيثٍ صِحَاحٍ خَالَفَهَا أَبُو حَنِيفَةَ ، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي التَّشْنِيعِ عَلَيْهِ حَتَّى صَنَّفَ كِتَابًا فِي الْخِلَافِ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَثُرَ عَلَيْهِ الطَّعْنُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ حَتَّى بَلَغُوا فِيهِ مَبْلَغًا وَلَا تَطِيبُ النَّفْسُ بِذِكْرِهِ ، وَأَبَى اللَّهُ إِلَّا عِصْمَتَهُ مِمَّا قَالُوهُ ، وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا إِلَيْهِ نَسَبُوهُ "

أقول : كلام الطوفي في تلخيص أسباب تركهم للعمل في الأحاديث الصحيحة ، حسن جداً ، ولا شك أن هذه قواعد محدثة تشبه قواعد المتكلمين في رد الأحاديث ، ونقله عن الإمام أحمد أنهم خالفوا مائة أو خمسمائة حديثاً ثابتاً أيضاً نفيس ، وقوله أن أئمة السلف كثر طعنهم عليه هو الواقع الذي لا ينكره إلا مكابر

غير أن رده لكلام بما يوهم أنهم افتروا عليه بقوله (وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا إِلَيْهِ نَسَبُوهُ ) فهذا مرفوض من الطوفي ، والطوفي هذا متهم بالرفض على حنبليته وهو من تلاميذ شيخ الإسلام ولكنه على غير عقيدته وله في شرح مختصر الروضة كلام نجس في المغيرة بن شعبة فليته صان عرض الصحابي كما صان عرض إمام أهل الرأي ، وقد كتب بعض أهل عصرنا كتاباً يبرئه فيه من تهمة الرفض التي أثبتها عليه ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة ، وكلامه في المغيرة يوحي أنه مائل إلى هذا المذهب الخبيث

وبعد هذا كله نعرف سبب تبديع الأئمة لأهل الرأي كما نقل حرب الكرماني وتقدم نصه

وقد ذكر ابن الجوزي الأخبار التي خالف فيها أهل الرأي أحاديث الصحيحين في ترجمة أبي حنيفة

قال ابن الجوزي في المنتظم (3/23) :" فأما المسائل التي خالف فيها الحديث فكثيرة، إلا أن من مشهورها الذي خالف فيه الصحاح:
مسألة بول الغلام الذي لم يأكل الطعام يرش
وقال أبو حنيفة: يغسل وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بصبي لم يأكل الطعام فبال، فدعا بماء فرشه عليه.
مسألة لا يجوز تخليل الخمر، وإذا خللت لم تطهر
وقال أبو حنيفة: يجوز وتطهر. وفي صحيح مسلم: من حديث أنس: أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً فقال:أهرقها. قال: أفلا أجعلها خلاً؟ قال: لا.
مسألة يجوز الآذان للفجر قبل طلوعه
وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وفي الصحيحين: عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: " إن بلال يؤذن بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " .
مسألة إذا لم تقدر على الركوع والسجود
لم يسقط عنه القيام وقال أبو حنيفة: يسقط وفي صحيح البخاري: عن عمران، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب " .
مسألة يسن رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه
وقال أبو حنيفة: لا يسن. وفي الصحيحين: من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى تحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعد رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بين السجدتين. وفي الصحيحين: من حديث مالك بن الحويرث مثله. وقد رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو عشرين صحابي.
مسألة إذا طلعت الشمس وهو في صلاة الصبح أتم
وقال أبو حنيفة تبطل صلاته. وفي الصحيحين: من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها، ومن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة " .
مسألة يجوز الوتر بركعة
وقال أبو حنيفة: بثلاث. وفي الصحيحين: من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بركعة.
مسألة تسن الصلاة للاستسقاء
وقال أبو حنيفة: لا تسن. وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الاستسقاء.
مسألة ويجوز تحويل الرداء في صلاة الاستسقاء وقلبه
وقال أبو حنيفة: لا يسن. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.
مسألة يستحب في غسل الميت شيء من كافور
في الغسلة الأخيرة
وقال أبو حنيفة: لا يستحب وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للواتي غسلن ابنته: " اجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً " .
مسألة يسن استلام الركن اليماني في الطواف
وقال أبو حنيفة لا يسن. وفي صحيح مسلم: من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني.
مسألة إشعار البدن، وتقليدها سنة
و قال أبو حنيفة: يكره الإشعار؛ فإنه مثلة. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشعر بدنته وقلدها.
مسألة يجوز بيع العرايا
وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وفي الصحيحين: من حديث زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا.
مسألة إذا اشترى مصراة ثبتت له خيار الفسخ
وقال أبو حنيفة: لا يثبت. وفي الصحيحين: من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تصروا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمرٍ " .
مسألة لا يجوز بيع الكلب وإن كان معلماً
وقال أبو حنيفة: يجوز. وفي الصحيحين: من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب.
مسألة إذا أراق على ذمي خمراً أو قتل له خنزيراً لم يضمن
وقال أبو حنيفة: يضمن. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله حرم الخمر وثمنها.
مسألة لا يقتل المسلم بالكافر
وقال أبو حنيفة: يقتل بالذمي. وفي صحيح البخاري من حديث علي رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقتل مسلم بكافر " .
مسألة يجب القصاص في القتل بالمثل
وقال أبو حنيفة: لا يجب إلا فيما له حدٌ. وفي الصحيحين: من حديث أنس: أن يهودياً رضخ رأس امرأة بين حجرين فقتلها، فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين.
مسألة إذا ضربت حامل فماتت
ثم انفصل عنها جنين ميت وجبت فيه الغرة
وقال أبو حنيفة لا شيء في الجنين، وفي الصحيحين: عن المغيرة أنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغرة عبداً أو أمة.
مسألة الإسلام ليس بشرطٍ في الإحصان
وقال أبو حنيفة: هو شرط. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهودياً ويهودية.
مسألة النصاب في السرقة ربع دينار أو ثلاثة دراهم
وقال أبو حنيفة: دينار أو عشرة دراهم. وفي الصحيحين: من حديث عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع في ربع دينار فصاعداً.
مسألة إذا اطلع في بيت إنسان على أهله
فله أن يرمي عينه، فإن فقأها فلا ضمان عليه
وقال أبو حنيفة: لزمه الضمان. وفي الصحيحين: من حديث سهل بن سعد قال: اطلع رجل في حجرة من حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه مدرى يحك به رأسه، فقال: " لو أعلمك تنظر لطعنت به في عينيك " . وفي الصحيحين: من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من اطلع على قوم في بيتهم بغير إذنهم فقد حل له أن يفقأوا عينه " .
مسألة الإمام مخير في الأسرى
بين القتل والاسترقاق والمن الفداء
قال أبو حنيفة لا يجوز المن والفداء. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من على ثمامة بن أثال، وفدى الأسرى يوم بدر.
مسألة هدايا الأمراء كبقية أموال الفيء
لا يختصون بها
وقال أبو حنيفة: يختصون بها. وفي الصحيحين: من حديث أبي حميد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بال العامل نبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا، والذي نفسي بيده لا يأتي أحدٌ منكم بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته " .
مسألة لا يجوز الذكاة بالسن والظفر
وقال أبو حنيفة: بها إذا كانا منفصلين. وفي الصحيحين : منحديث رافع بن خديج قال: قلت: يا رسول الله، إن ملاقو العدو غداً وليست معنا مدي. فقال: " ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر " .
مسألة يحل أكل الضب
وقال أبو حنيفة: لا تحل. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يحرم الضب، وإنما قذره، فإن خالد بن الوليد قال له وقد قدم إليه: أحرام هو؟ قال: " لا، ولكنه لا يكون بأرض قومي فأجدني أعافه " فأكل خالد ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر.
مسألة يحل أكل لحوم الخيل
وقال أبو حنيفة: لا تحل. وفي الصحيحين: من حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر، وأن في لحوم الخيل.
مسألة النبيذ حرام
وقال أبو حنيفة: إنما يحرم المسكر منه. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر حرام " . وفي حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام " .
مسألة حكم الحاكم لا يحيل الشيء عن صفته
وقال أبو حنيفة: يحيله في العقود والفسوخ. وفي الصحيحين: من حديث أم سلمة: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: " إنما أنا بشر مثلكم، وإنه يأتيني الحكم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه قد صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو فليتركها " .
مسألة يجوز الحكم بشاهد ويمين
في المال وما يقصد به المال
وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وقد روى جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد. ورواه عمر، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وزيد بن ثابت، وأبو حزم، وأنس، وبلال بن الحارث، والمغيرة بن شعبة، وسلمة بن قيس في آخرين. فهذا من مشهور المسائل والمتروك أضعافه، ولكونه خالف مثل هذه الأحاديث الصحاح سعوا بالألسن في حقه، فلم يبق معتبر من الأئمة إلا تكلم فيه، ولا يؤثر أن يذكر ما قالوا والعجب منه إذا رأى حديثاً لا أصل له هجر القياس ومال إليه؛ كحديث: نقض الوضوء بالضحك. فإنه شيء لا يثبت، وقد ترك القياس لأجله"

فهنا ابن الجوزي عليهم تناقضاً صارخاً ففي الوقت الذين يردون به بعض أحاديث الصحيحين بحجة مخالفتها للقياس كحديث المصراة ، يقولون بأخبار واهية مع مخالفتها للقياس كخبر القهقهة من الوضوء وخبر الوضوء من النبيذ وهذه التناقضات أمارة هوى

وليعلم أن مشكلة أبي حنيفة ليست التوسع في القياس فقط ، بل مشكلته التوسع في الاستحسان أيضاً والتوسع في الحيل وغيرها من الأمور

م ذكروا لي موطناً لابن تيمية مشكلاً

 ذا الموطن المشار إليه :" وَقَالَ طَائِفَةٌ: بَلْ مَنْ اسْتَفَاضَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ إيمَانُهُ وَتَقْوَاهُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ كَعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَغَيْرِهِمْ شَهِدْنَا لَهُ بِالْجَنَّةِ؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَمُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا. فَقَالَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا قَوْلُك وَجَبَتْ وَجَبَتْ؟ . قَالَ: هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت: وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ: قِيلَ بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ} "
وهذا الموطن لم أجده إلا في مجموع الفتاوى وظاهر تقييده بالمسلم الذي اتفق الناس على الثناء عليه ومعلوم أن أبا حنيفة ليس كذلك كما قال ابن تيمية نفسه في رسالته التي في الطلاق
وهو هنا ينقل القول عن غيره فيقول ( وقالت طائفة ) وإلا كيف يتسق هذا مع نقله الاتفاق على تبديعهم في الإيمان
وفي بقية مؤلفاته إذا ذكر هذه المسالة يمثل بعمر بن عبد العزيز والحسن البصري فقط ويحذف بقية التمثيلات
قال في النبوات :" لكن هذا مثل الشهادة لمعين بالجنة، وفيها ثلاثة أقوال4:قيل: لا يشهد بذلك لغير النبي. وهو قول أبي حنيفة، والأوزاعي، وعلي ابن المديني، وغيرهم.وقيل: يشهد به لمن جاء به نص، إن1 كان [خبراً] 2 صحيحاً؛ كمن شهد له النبيّ بالجنة فقط. وهذا قول كثيرٍ من أصحابنا، وغيرهم.وقيل: يشهد به لمن استفاض عند الأمة أنه رجل صالح3؛ كعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وغيرهما.وكان أبو ثور4 يشهد لأحمد بن حنبل بالجنّة.وقد جاء في الحديث الذي في المسند: "يُوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار". قالوا: بماذا يا رسول الله؟ قال: "بالثناء الحسن والثناء السيئ"5.وفي الصحيحين: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيراً، فقال: "وَجَبَت وَجَبَت". ومُرّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها شراً، فقال: "وَجَبَت وَجَبَت". فقيل: يا رسول الله! ما قولك: وجبت وجبت؟ قال:"هذه الجنازة أثنيتم عليها الخير، فقلت: وجبت لها الجنة. وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً، فقلت: وجبت لها النار. أنتم شهداء الله في الأرض"1.وفي حديث آخر: "إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنتَ، فقد أحسنت. وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأتَ، فقد أسأت"2.وسئل عن الرجل: يعمل العمل لنفسه، فيحمده الناس عليه، فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن" 3.الثناء على رجل يعرف بأسبابوالتحقيق: أنّ هذا قد [يُعلم] 4 بأسباب، وقد يغلب على الظن. ولا يجوز للرجل أن يقول بما لا يعلم؛ ولهذا لما قالت أم العلاء الأنصارية5: لمّا قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكناهم، فصار لنا عثمان بن مظعون6 في السكنى، / فمرض، فمرضناه، ثم توفي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي أن قد أكرمك الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " [وما يدريك] 1 أنّ الله قد أكرمه؟ ". قالت: لا والله، لا أدري. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما هو فقد أتاه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير. والله ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي ولا بكم". قالت: فوالله لا أزكي بعده أحداً أبداً. قالت: ثم رأيت لعثمان [رضي الله عنه] 2 بعد في النوم عيناً تجري، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ذاك عمله"3"
وظاهر آخر كلامه أنه لا يختار أمر الشهادة مطلقاً


وقال في منهاج السنة :" وَإِنَّمَا قَدْ نَقِفُ فِي الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ ; فَلَا نَشْهَدُ لَهُ بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ إِلَّا عَنْ عِلْمٍ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ بَاطِنِهِ وَمَا مَاتَ عَلَيْهِ لَا نُحِيطُ بِهِ، لَكِنْ نَرْجُو لِلْمُحْسِنِ وَنَخَافُ عَلَى الْمُسِيءِ.وَلَهُمْ فِي الشَّهَادَةِ بِالْجَنَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يَشْهَدُ بِالْجَنَّةِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالْجَنَّةِ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ جَاءَ فِيهِ نَصٌّ. وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ.وَالثَّالِثُ: يَشْهَدُ بِالْجَنَّةِ لِهَؤُلَاءِ وَلِمَنْ شَهِدَ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» " (3) . وَقَالَ: " «يُوشِكُ أَنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ " قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ» " (1) فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ. وَكَانَ أَبُو ثَوْرٍ يَقُولُ: " أَشْهَدُ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي الْجَنَّةِ " وَيَحْتَجُّ بِهَذَا. وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ."


والرجل له أطوار في هذا ولا شك خصوصاً في زمن كزمانه وقد كان فيه علماً على الهدى وإن رغمت أنوف


قال ابن تيمية _ رحمه الله _ في رده على السبكي في مسألة تعليق الطلاق (2/837) :" وأكثر أهل الحديث طعنوا في أبي حنيفة وأصحابه طعناً مشهوراً امتلأت به الكتب ، وبلغ الأمر بهم إلى أنهم لم يرووا عنهم في كتب الحديث شيئاً فلا ذكر لهم في الصحيحين والسنن "

أقول : استحضر أن هذا من أواخر تآليف ابن تيمية وقد ذكره في سياق دفع السبكي الاعتداد بداود الظاهري في الخلاف لكونه مطعوناً فيه فأجابه ابن تيمية بعدة أوجه منها أن العبرة بالأدلة وداود معه صحابة وتابعين في المسألة و أن السبكي نفسه يعتد بأناس طعن فيهم في الخلاف ، بل ذكر حتى من طعن في مالك والشافعي وليس مالك والشافعي كداود وأبي حنيفة

ولا شك أن ابن تيمية نفسه يعلم جيداً أن طعون أهل الحديث ليست كطعون متعصبة العراقيين

وهو نفسه يقرر دائماً أن الحق لا يخرج عن أهل الحديث وعرف الفرقة الناجية والطائفة المنصورة في الواسطية بأنهم أهل الحديث ، ولكنه هنا يلزم السبكي فحسب

وهذا النص من ابن تيمية _ رحمه الله _ يستفاد منه عدة أمور

الأول : أن الطعن في أبي حنيفة وأصحابه هو مذهب أكثر أهل الحديث _ بنص ابن تيمية _ والواقع أنه مذهبهم كلهم ولكن لعل الشيخ اغتر ببعض ما ينسب لابن معين أو يروى عن بعضهم من الثناء على أهل الرأي

الثاني : أن من ضمن هؤلاء الطاعنين أصحاب الصحاح والسنن وأن اجتنابهم لتخريج حديث أبي حنيفة وأصحابه لعلة المنافرة والبغض والطعن

فالبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه ممن يطعن في أبي حنيفة وأصحابه ويجتنبه لهذا الداعي بشهادة ابن تيمية _ رحمه الله _

ومن كان هؤلاء سلفه في بابهم الذي هو الجرح والتعديل مع بقية أئمة الإسلام فلا يضره تشغيب الصعافقة

الثالث : أن هذا طعن مشهور امتلأت به الكتب ، فكيف يستطيع أحد أن يكتمه والحال

وليعلم أن ناسخ المخطوط لما رأى من غلظ هذه الكلمة أضاف عليها ترضياً على أبي حنيفة ! وأتبعه بمثله عن مالك والشافعي ، وابن تيمية رجل حنبلي وقد ذكر أحمد عدة مرات في هذه الرسالة ولم يترضَ عليه فيترضى عن أبي حنيفة !

وعادته أنه لا يترضى عن غير الصحابة وقد فعل ذلك أحياناً مع أحمد

ولا تستغرب فقد فعلوا في كتاب الأم للشافعي فإنك ترى الشافعي يذكر أبا حنيفة في محل ذم أو نقد ويكتبون إلى جانب اسم أبي حنيفة _ رضي الله عنه _ والشافعي في الأم يذكر الكثير من الأعيان الفضلاء ممن يعتقد فيهم أنه أجل من أبي حنيفة ولا يترضى عليه

ولابن تيمية نص آخر قد لا يعجب الخلفيون الطاعنين في الآخذين بمذاهب السلف

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (20/186) :" فَالْمُبْتَدِعَةُ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى غَيْرِهِ إذَا كَانُوا جهمية أَوْ قَدَرِيَّةً أَوْ شِيعَةً أَوْ مُرْجِئَةً؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِلْإِمَامِ إلَّا فِي الْإِرْجَاءِ؛ فَإِنَّهُ قَوْلُ أَبِي فُلَانٍ وَأَمَّا بَعْضُ التَّجَهُّمِ فَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْهُ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ الْمُنْتَسِبُونَ إلَيْهِ مَا بَيْنَ سُنِّيَّةٍ وجهمية؛ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ؛ مُشَبِّهَةٍ وَمُجَسِّمَةٍ؛ لِأَنَّ أُصُولَهُ لَا تَنْفِي الْبِدَعَ وَإِنْ لَمْ تُثْبِتْهَا"

وأبو فلان هذا هو أبو حنيفة تصرف الناسخ أو المحقق فغير اسمه وهذا ظهر في الرسالة المفردة التي حققها بعضهم حين ذكر الاسم صريحاً

ولو قلت لشخص من هؤلاء ( أنت أصولك لا تنفي البدع ومذهبك الإرجاء ) سيرى أنني طاعن فيه أليس كذلك ؟

فليقل ابن تيمية يطعن في أبي حنيفة

وقد حاول أبو يعلى حمل كلام أحمد في أهل الرأي على المرجئة والقدرية فرد عليه ابن تيمية في المسودة

قال ابن تيمية _ رحمه الله _ كما في المسودة (1/265)  :"  [والد شيخنا] فصل:
فى قول أحمد: "لا يروى عن أهل الرأى" تكلم عليه ابن عقيل بكلام كثير قال في رواية عبد الله أصحاب الرأى لا يروى عنهم الحديث قال القاضي وهذا محمول على أهل الرأى من المتكلمين كالقدرية ونحوهم.
قلت ليس كذلك بل نصوصه في ذلك كثيرة وهو ما ذكرته في المبتدع أنه نوع من الهجرة فانه قد صرح بتوثيق بعض من ترك الرواية عنه كأبي يوسف ونحوه ولذلك لم يرو لهم في الامهات كالصحيحين"

وانظر كيف مثل للمبتدع بأبي يوسف صاحب أبي حنيفة فهو مبتدع عند ابن تيمية استخراجاً من نصوص أحمد

وهذا النووي الذي يعظمونه جداً ينسب أبا حنيفة إلى منابذة الشرع

قال النووي في شرح مسلم (6/485) :" وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة عَنْهُ : لَا كَرَاهَة فِيهِ ، وَلَا بَأْس بِهِ ؛ لِأَنَّ مَا حَلَّ مُفْرَدًا حَلَّ مَخْلُوطًا ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الْجُمْهُور ، وَقَالُوا : مُنَابَذَة لِصَاحِبِ الشَّرْع ، فَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة فِي النَّهْي عَنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا كَانَ مَكْرُوهًا"

وهذا ابن العربي المالكي الذي يعظمونه جداً يدعي أن الشافعي كان يكفر أبا حنيفة تارة ويبدعه أخرى

قال ابن العربي في رسالته في أصول الفقه :" الفصل السادس القول في الاستحسان
أنكره الشافعي وأصحابه وكفروا أبا حنيفة في القول به تارة وبدعوه أخرى"

والله الهادي للصواب
غير أن هنا معلومة لطيفة كنت قد وقفت عليها عند نظري في كتاب العواصم لابن الوزير ولم أتمكن من توثيقها حتى أرسل لي بعض الأخوة توثيقها اليوم

وهي كلام الغزالي في أبي حنيفة

قال الغزالي في المنخول ص584 :" وأما أبو حنيفة فلم يكن مجتهدا لأنه كان لا يعرف اللغة وعليه يدل قوله ولو رماه بأبو قبيس وكان لا يعرف الأحاديث ولهذا ضري بقبول الأحاديث الضعيفة ورد الصحيح منها ولم يكن فقيه النفس بل كان يتكايس لا في محله على مناقضة مآخذ الأصول ويتبين ذلك باستثمار ثنا مذاهبه فيما سنعقد فيه بابا في آخر الكتاب الله أعلم"

وما ذكره الغزالي هنا حق وهو مسبوق إليه ولكنه عجيب منه فهو نفسه لم يكن يفرق بين الصحيح والضعيف والموضوع ولكن يبدو أنه أخذ هذا الكلام من بعض حذاق الشافعية

وقد سبقه إمامه في الفقه الشافعي إلى هذا

قال ابن أبي حاتم في آداب الشافعي ومناقبه ثنا أَبِي، ثنا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ، يَقُولُ: " قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ يَوْمًا، وَذَكَرَ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ، فَقَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لِصَاحِبِنَا أَنْ يَسْكُتَ يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ، وَلا لِصَاحِبِكُمْ أَنْ يُفْتِيَ يُرِيدُ مَالِكًا، قُلْتُ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ، أَتَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَنَا يَعْنِي مَالِكًا كَانَ عَالِمًا بِكِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ ".
قُلْتُ: فَنَشَدْتُكَ اللَّهَ، أَتَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَنَا كَانَ عَالِمًا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
قُلْتُ: وَكَانَ عَالِمًا بِاخْتِلافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قُلْتُ: أَكَانَ عَاقِلا؟ قَالَ: لا.
قُلْتُ: فَنَشَدْتُكَ اللَّهَ، أَتَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَكَ يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ، كَانَ جَاهِلا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قُلْتُ: وَكَانَ جَاهِلا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاهِلا بِاخْتِلافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ، قَالَ: نَعَمْ.


وهذا إسناد صحيح والقوم يتركون هذا الثابت عن الشافعي ويتبثون بأثر محرف ( الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة ) وصوابه ( عيال في الفقه على أهل العراق )

والواقع أنه مشكل حتى في ذكر أهل العراق فالشافعي يرى أن أهل المدينة أفقه ، وقد حل ابن تيمية الإشكال بأن الشافعي أراد أن الناس عيال عليهم في ترتيب المسائل لا معرفة الدلائل

وليعلم أن الغزالي وقع في ضلالات عقدية كبيرة أحدها إنكار الصفات ومنها العلو وهذه وحدها أعظم من عامة ما أخذ على أبي حنيفة

ولكنني ذكرت هذا ليعلم أن هذا الباب لم يتفرد به السلف أو أهل السنة بل أدركه حتى جماعة من المتكلمين

والغزالي مع ضلالاته العقدية ومع كلامه هذا عده ابن الصلاح من المجددين وتابعه الذهبي ولا يوجد أشعري يعد المجددين إلا ويذكر الغزالي فيهم والله المستعان ! هذا مع اعتراضهم بلا شك على كلامه على أبي حنيفة

والقوم أدعياء الإنصاف هلا اقتدوا بأئمتهم ولم يشنعوا في هذه المسألة !!

والآن مع تتمة لكلام الغزالي

قال الغزالي في المنخول ص613 :" وأما ابو حنيفة رحمه الله فقد قلب الشريعة ظهرا لبطن وشوش مسلكها وغير نظامها فإنا نعلم أن جملة ما ينطوي عليه الشرع ينقسم إلى استحثاث على مكارم الاخلاق وزجر عن الفواحش والكبائر واباحة تغني عن الجرائر وتعين على امتثال الاوامر وهي بمجموعها تنقسم إلى تعبدات ومعاملات وعقوبات فلينظر العاقل المنصف في مسلكه فيها
فأما العبادات فأركانها الصلاة والزكاة والصوم والحج ولا يخفى فساد مذهبه في تفاصيل الصلاة والقول في تفاصيله يطول وثمرة خبطه بين فيما عاد اليه اقل الصلاة عنده واذا عرض اقل صلاته على كل عامي جلف كاع وامتنع عن اتباعه
فإن من انغمس في مستنقع نبيذ فخرج في جلد كلب مدبوغ ولم ينو ويحرم بالصلاة مبدلا صيغة التكبير بترجمته تركيا او هنديا ويقتصر من قراءة القرآن على ترجمة قوله تعالى مدهامتان ثم يترك الركوع وينقر نقرتين ولا قعود بينهما ولا يقرأ التشهد ثم يحدث عمدا في آخر صلاته بدل التسليم ولو انفلتت منه بأنه سبقه الحدث يعيد الوضوء في اثناء صلاته ويحدث بعده عمدا فإنه لم يكن قاصدا في حدثه الاول تحلل عن صلاته على الصحة والذي ينبغي ان يقطع به كل ذي دين ان مثل هذه الصلاة لا يبعث الله لها نبيا وما بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لدعاء الناس اليها وهي قطب الإسلام وعماد الدين وقد زعم ان هذا القدر أقل الواجب فهي الصلاة التي بعث لها النبي وما عداها آداب وسنن وأما الصوم فقد استأصل ركنه حيث رده إلى نصفه ولم يشترط تقدم النية عليه واما الزكاة فقد قضي فيها بانها على التراخي فيجوز التأخير وان كانت الحاجة ماسة وأعين المساكين ممتدة ثم قال لو مات قبل أدائها تسقط بموته وكان قد جاز له التأخير
وهل هذا إلا ابطال غرض الشرع من مراعاة غرض المساكين ثم عكس هذا في الحج الذي لا ترتبط به حاجة مسلم وزعم انه على الفور فهذا صنيعه في العبادات فأما العقوبات فقد أبطل مقاصدها وخرم اصولها وقواعدها فإن ما رام الشرع عصمته الدماء والفروج والاموال وقد هدم قاعدة القصاص بالقتل بالمثقل فمهد التخنيق والتغريق والقتل بأنواع المثقلات ذريعة إلى درء القصاص ثم زاد عليه حتى ناكر الحس والبديهة وقال لم يقصد قتله وهو شبه عمد وليت شعري كيف يجد العاقل من نفسه ان يعتقد مثل ذلك تقليدا لولا فرط الغباوة وشدة الخذلان واما الفروج فإنه مهد ذرائع اسقاط الحد بها مثل الاجارة ونكاح الامهات وزعم انها دارئة للحد ومن يبغي البغاء بمومسة عليه كيف يعجز عن استئجارها ومن عذيرنا ممن يفعل ذلك ثم يدقق نظره فيوجب الحد في مسألة شهود الزوايا زاعما أني تفطنت لدقيقة وهي انزحافهم أبي في زينة واحدة على الزوايا ثم قال لو شهد أربعة عدول عليه بالزنا وأقر مرة واحدة سقط الحد عنه وأوجب الحد في الوطء بالشبهة اذا صادف أجنبية على فراشه ظنها حليلته القديمة وأقل مراتب موجبات العقوبات ما تمحض تحريمها والذاهل المخطئ لا يوصف فعله بالتحريم واما الاموال فإنه زعم ان الغصب فيها مع أدنى تغيير مملك فليغصب (الحنطة وليطحنها ما فيملكها وأخذ يتكابس لا فرقا بين غاصب المنديل يشقه طولا او عرضا ودرأ حد السرقة في الاموال الرطبة وفيما ينضم اليها وان لم تكن رطبة حتى قال لو سرق اناء من ذهب وفيه رطوبة نقطة من الماء فلا حد عليه ومن لم يشهد عليه جسه على الضرورة أن الصحابة رضي الله عنهم لو رفعت اليهم هذه الواقعة لكانوا لا يدرأون الحد بسبب قطرة من الماء تفرض في الاناء فليأيس أن من حسه وعقله هذا صنيعه في العقوبات ثم دقق نظره منعكسا على الاحتياط زاعما أنه لو شهد على السارق بأنه سرق بقرة بيضاء وشهد آخر بأنه سرق بقرة سوداء قال اقطع به لاحتمال أن البقرة كانت مبرقشة على اللون من سواء وبياض في نصفيها فالناظر في محل البياض ظنها بيضاء بجملتها ثم أردف جميع قواعد الشريعة بأصل هدم به شرع محمد صلى الله عليه وسلم قطعا حيث قال شهود الزور اذا شهدوا كاذبين على نكاح زوجة الغير وقضى به القاضي مخطئا حلت الزوجة للمشهود له وان كان عالما بالتزوير وحرمت على الاول بينه وبين الله هذا ترتيب مذهبه وانما ذكرنا هذا المسلك لان ما قبله من المسالك
يعسر على العوام دركها وهذا مما يفهم كل غر غبي وكل بالغ وصبي فلولا شدة الغباوة وقلة الدراية وتدرب القلوب على اتباع التقليد والمألوف لما اتبع مثل هذا المتصرف في الشرع من سلم حسه فضلا من ان يستد نظره وعقله ومن هذا اشتد المطعن والمغمز من سلف الأئمة فيه إذ اتهموه برومه خرم الشرع وهو الذي ألحق به القاضي قوله في مسألة المثقل وقال من زعم ان القاتل لم يتعمد القتل به وان لم يعلم نقيضه فليس من العقلاء وان علمه فقد رام خرم الدين"

فانظر هذا الكلام الذي ينطوي على التكفير فيما يظهر وهو من جنس قول مالك في أبي حنيفة ( كاد الدين كاد الدين كاد الدين ) بل كأنه شرح لكلمة مالك رحمه الله

وكلام الغزالي هذا يرد فيه على من يقول ( لما تثيرون مسألة أهل الرأي ) فالجواب أن هذا ذب عن الشريعة التي يراد هدمها

والعجيب أن النساخ زادوا في هذا السياق ترحماً على أبي حنيفة ولا يناسب ، كما أنك تجد في كتاب الأم للشافعي ترضياً على أبي حنيفة في كل مواطن نقده بما لا تجده عند ذكر الشافعي للتابعين !

وللجويني كلام نحواً من كلام الغزالي هذا

وليس هؤلاء الشافعية وحيدون في هذا الباب
وهنا عدة كلمات في الإجماع على جرحه

الكلمة الأولى : قال ابن عبد البر في الانتقاء (1/149) :" كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ اسْتَجَازُوا الطَّعْنَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ لِرَدِّهِ كَثِيرًا مِنْ أَخْبَارِ الآحَادِ الْعُدُولِ لأَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ إِلَى عَرْضِهَا عَلَى مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنَ الأَحَادِيثِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ فَمَا شَذَّ عَنْ ذَلِكَ رَدَّهُ وَسَمَّاهُ شَاذًّا وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا يَقُولُ الطَّاعَاتُ مِنَ الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا لَا تُسَمَّى إِيمَانًا وَكُلُّ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يُنْكِرُونَ قَوْلَهُ وَيُبَدِّعُونَهُ بِذَلِكَ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مَحْسُودًا لِفَهْمِهِ وَفِطْنَتِهِ"

فهذا نقل إجماع على التبديع بلفظ التبديع الصريح فهو يقول ( كل ) ويقول ( يبدعونه )

الكلمة الثانية : قال حرب الكرماني في عقيدته :" هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أوعاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم فكان من قولهم"

فهنا ينقل إجماع أهل العلم في عصره

ثم قال في عقيدته :" وأصحاب الرأي: وهم مبتدعة ضُّلّال أعداء السّنة والأثر يرون الدين رأيًا وقياسًا واستحسانًا، وهم يخالفون الآثار، ويبطلون الحديث، ويردون على الرسول، ويتخذون أبا حنيفة ومن قال بقوله إمامًا يدينون بدينهم، ويقولون بقولهم فأي ضلالة بأبين ممن قال بهذا أو كان على مثل هذا، يترك قول الرسول وأصحابه ويتبع رأي أبي حنيفة وأصحابه، فكفى بهذا غيًا وطغيانًا وردًا"

فهذا إجماع آخر

الكلمة الثالثة : قال ابن الجوزي في المنتظم (3/23) :" وبعد هذا فاتفق الكل على الطعن فيه _ يعني أبا حنيفة _ ، ثم انقسموا على ثلاثة أقسام: فقوم طعنوا فيه لما يرجع إلى العقائد و الكلام في الأصول. وقوم طعنوا في روايته وقلة حفظه وضبطه. وقوم طعنوا لقوله الرأي فيما يخالف الأحاديث الصحاح"

فهذا نقل إجماع على الطعن ينقله حافظ واسع الاطلاع جداً وهو ابن الجوزي

الكلمة الرابعة : قال ابن عدي في الكامل (8/241) :" سمعتُ ابْن أبي دَاوُد يَقُول الوقيعة فِي أبي حنيفة إجماع من العلماء لأَن إمام البصرة أيوب السختياني وقد تكلم فيه وإمام الكوفة الثَّوْريّ وقد تكلم فيه وإمام الحجاز مَالِك وقد تكلم فيه وإمام مصر اللَّيْث بْن سعد وقد تكلم فيه وإمام الشام الأَوْزاعِيّ وقد تكلم فيه وإمام خراسان عَبد اللَّه بْن المُبَارك وقد تكلم فيه فالوقيعة فيه إجماع من العلماء فِي جميع الأفاق أو كما قَالَ"

فهذا إجماع رابع

الكلمة الخامسة : قال المعلمي في التنكيل (1/391) :" وزعمه أن الحكاية موضوعة مجازفة منه وكلام أئمة السنة في ذلك العصر في قول أبي حنيفة متواتر حق التواتر"

فهذا عالم مطلع يدعي تواتر ذم الأئمة لرأي أبي حنيفة

الكلمة السادسة : قال عبد الله بن أحمد في السنة 335 - حدثني أبو الفضل ، حدثني أسود بن سالم ، قال : « إذا جاء الأثر ألقينا رأي أبي حنيفة وأصحابه في الحش  » ، ثم قال لي أسود : « عليك بالأثر فالزمه أدركت أهل العلم يكرهون رأي أبي حنيفة ويعيبونه »

أسود بن سالم أدرك سفيان بن عيينة وحماد بن زيد وغيرهم وكان معروفاً بالخير فهذا نقل اتفاق آخر

وقد نقل الساجي أنهم اختلفوا في إسلامه وكلمة مالك فيه صريحة بالتكفير وكذلك أبو زرعة كفره  وهنا لفتة أن من لم يكفره لم يكفروه لأن هذه مسألة عين قد تخفى على بعض الناس وقد تظهر كشأن الحجاج بن يوسف

وهذا ينبغي أن يتنبه له الغلاة

الخطأ الرابع والعشرون : نقل اتفاق الصحابة على عدم تكفير الخوارج

وهذه مسألة سهلة مقارنة بغيرها غير أنه خطأ علمي وقع فيه شيخ الإسلام وتابعه غيره

قال البخاري في صحيحه 6931 : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ:


 أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَسَأَلَاهُ عَنْ الْحَرُورِيَّةِ أَسَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا أَدْرِي مَا الْحَرُورِيَّةُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ أَوْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلَى سَهْمِهِ إِلَى نَصْلِهِ إِلَى رِصَافِهِ فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنْ الدَّمِ شَيْءٌ.


قول أبي سعيد الخدري (يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا) فهم منه جماعة من أهل العلم أنه لا يرى الخوارج من هذه الأمة وأنه يكفرهم


قال ابن حجر في شرح البخاري (19/ 389) :" لَمْ تَخْتَلِف الطُّرُق الصَّحِيحَة عَلَى أَبِي سَعِيد فِي ذَلِكَ فَعِنْد مُسْلِم مِنْ رِوَايَة أَبِي نَضْرَة عَنْ أَبِي سَعِيد " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ قَوْمًا يَكُونُونَ فِي أُمَّته " وَلَهُ مِنْ وَجْه آخَر " تَمْرُق عِنْد فِرْقَة مَارِقَة مِنْ الْمُسْلِمِينَ " وَلَهُ مِنْ رِوَايَة الضَّحَّاك الْمِشْرَقِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد نَحْوه ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَبِي سَعِيد بِلَفْظِ " مِنْ أُمَّتِي " فَسَنَده ضَعِيف ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْد مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي ذَرّ بِلَفْظِ " سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْم " وَلَهُ مِنْ طَرِيق زَيْد بْن وَهْب عَنْ عَلِيّ " يَخْرُج قَوْم مِنْ أُمَّتِي " وَيُجْمَع بَيْنه وَبَيْن حَدِيث أَبِي سَعِيد بِأَنَّ الْمُرَاد بِالْأُمَّةِ فِي حَدِيث أَبِي سَعِيد أُمَّة الْإِجَابَة وَفِي رِوَايَة غَيْره أُمَّة الدَّعْوَة ، قَالَ النَّوَوِيّ : وَفِيهِ دَلَالَة عَلَى فِقْه الصَّحَابَة وَتَحْرِيرهمْ الْأَلْفَاظ ، وَفِيهِ إِشَارَة مِنْ أَبِي سَعِيد إِلَى تَكْفِير الْخَوَارِج وَأَنَّهُمْ مِنْ غَيْر هَذِهِ الْأُمَّة "


الشاهد هو كلام النووي


ومن أدلة القائلين بتكفير الخوارج ما روى البخاري 6935 : حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

 لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ


وهاتان الفئتان هما فئة علي وفئة معاوية ودعواهما الواحدة هي الإسلام ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل الخوارج معهم ، وأخرجهم منهم ، فدل على أنهم ليسوا على هذه الدعوة دعوة الإسلام


وقد يقال دعوة علي ومعاوية هي السنة والإسلام معاً ، والخوارج خرجوا عن السنة


والقائلون بعدم تكفير الخوارج استدلوا بالأحاديث الواردة وفيها ( من أمتي ) وبسيرة علي معهم وعدم تكفيره لهم


وقد اختار هذا القول بعض المعاصرين


وممن قال بتكفير الخوارج أبو أمامة رضي الله عنه


قال عبد الله بن أحمد في السنة 1414 - حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب ، نا عمر بن يونس الحنفي ، نا عكرمة بن عمار ، نا شداد بن عبد الله ، قال : وقف أبو أمامة وأنا معه على رءوس الحرورية بالشام عند باب مسجد حمص أو دمشق فقال لهم : « كلاب النار » مرتين أو ثلاثا « شر قتلى تظل السماء وخير قتلى من قتلوهم » ودمعت عينا أبي أمامة قال رجل : أرأيت قولك لهؤلاء القوم شر قتلى تظل السماء وخير قتلى من قتلوهم أشيء من قبل رأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : من قبل رأيي ؟ إني إذا لجريء ، لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين حتى عد سبع مرات ما حدثتكم . فقال له رجل : رأيتك دمعت عيناك فقال : رحمة رحمتهم كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم ثم قرأ هذه الآية ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم  )


والمراد هنا بيان وجود الخلاف القديم في هذه المسألة

الخطأ الخامس والعشرون : تنزيل الخلاف الواقع في تكفير الخوارج الأوائل على أناس في عصرنا يوافقونهم في بعض قولهم ويخالفونهم في أكثر ما قالوا وأقبحه

وهذا وقع فيه علي رضا وأضرابه وهو ظلم وجهل

وهذا مقال لي في المسألة

فمن خالف الطريقة السلفية لا بد أن يتناقض كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، واليوم كثير ممن ينتسب للطريقة السلفية تحركه الأهواء السياسية


فأظهر عدد منهم تكفير الخوارج ! وأنه قول معتبر ونزلوا ما قيل في الخوارج الأوائل على الخوارج العصريين


وهذا فتح عليهم أبواباً من التناقض


فإن قيل : كيف هذا ؟


قلت لك : أليس من ينكر العلو يكون جهمياً ؟


فإن قال : بلى


يقال : هنا عدة نقاط


الأولى : أن كل من كفر الخوارج يكفر الجهمية من باب أولى والجهمية يدخل فيهم الأشاعرة ، والإجماع منعقد على تكفير منكر العلو


قال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية (2/45) :

" ولا يقدر أحد ان ينقل عن أحد من سلف الامة وأئمتها في القرون الثلاثة حرفا واحدا يخالف ذلك لم يقولوا شيئا من عبارات النافية أن الله ليس في السماء والله ليس فوق العرش ولا انه لا داخل العالم ولا خارجه ولا ان جميع الامكنة بالنسبة اليه سواء ولا انه في كل مكان او انه لا تجوز الاشارة الحسية اليه ولا نحو ذلك من العبارات التي تطلقها النفاة لان يكون فوق العرش لا نصا ولا ظاهرا بل هم مطبقون متفقون على أنه نفسه فوق العرش وعلى ذم من ينكر ذلك بأعظم مما يذم به غيره من أهل البدع مثل القدرية والخوارج والروافض ونحوهم

وإذا كان كذلك فليعلم ان الرازي ونحوه من الجاحدين لان يكون الله نفسه فوق العالم هم مخالفون لجميع سلف الأمة وأئمتها الذين لهم في الامة لسان صدق ومخالفون لعامة من يثبت الصفات من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية والمتكلمين مثل الكرامية والكلابية والأشعرية الذين هم الأشعري وأئمة اصحابه ولكن الذين يوافقونه على ذلك هم المعتزلة والمتفلسفة المنكرون للصفات وطائفة من الأشعرية وهم في المتأخرين منهم اكثر منهم في المتقدمين وكذلك من اتبع هؤلاء من الفقهاء والصوفية وطائفة من أهل الحديث "


كلام شيخ الإسلام فيه عدة فوائد


الأولى : أن الأشاعرة نفاة العلو جهمية يتناولهم كلام السلف في الجهمية ، وفي هذا رد على من زعم أنهم من أهل السنة وهم تتناولهم نصوص تكفير السلف للجهمية


قال عبد الله بن أحمد في السنة 50 - حدثني عباس العنبري ، حدثنا شاذ بن يحيى ، سمعت يزيد بن هارون ، وقيل ، له : من الجهمية ؟ فقال : « من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي »


قال البخاري في خلق أفعال العباد (2/ 37) :" 63- وَحَذَّرَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، عَنِ الْجَهْمِيَّةِ فَقَالَ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى عَلَى خِلاَفِ مَا يَقِرُّ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ ، وَمُحَمَّدٌ الشَّيْبَانِيُّ جَهْمِيٌّ "


وقال عبد الله بن أحمد في السنة 61 - حدثني زياد بن أيوب دلويه ، سمعت يحيى بن إسماعيل الواسطي ، قال : سمعت عباد بن العوام ، يقول : « كلمت بشر المريسي وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا ليس في السماء شيء »


وقال عبد الله بن أحمد في السنة 115 - حدثني عبد الله بن شبويه ، حدثنا محمد بن عثمان ، قال : سمعت عبد الرحمن بن مهدي : وسأله ، سهل بن أبي خدويه عن القرآن ، فقال : « يا أبا يحيى ما لك ولهذه المسائل هذه مسائل أصحاب جهم ، إنه ليس في أصحاب الأهواء شر من أصحاب جهم يدورون على أن يقولوا ليس في السماء شيء ، أرى والله ألا يناكحوا ولا يوارثوا »


وقد قال شيخ الإسلام قبل كلامه السابق :" وسئل عبد الله بن ادريس عن الصلاة خلف اهل البدع فقال لم يزل في الناس اذا كان فيهم مرضي او عدل فصل خلفه قلت فالجهمية قال لا هذه من المقاتل هؤلاء لا يصلى خلفهم ولا يناكحون وعليهم التوبة قال وقال وكيع بن الجراح الرافضة شر من القدرية والحرورية شر منهما والجهمية شر هذه الاصناف قال البخاري وقال زهير السجستاني سمعت سلام بن ابي مطيع يقول الجهمية كفار

وكلام السلف والائمة في هذا الباب اعظم واكثر من ان يذكر هنا الا بعضه كلهم مطبقون على الذم والرد على من نفى ان يكون الله فوق العرش كلهم متفقون على وصفه بذلك وعلى ذم الجهمية الذين ينكرون ذلك"


فهذه أول نقطة تناقض تكفير الخوارج ورفض تكفير الأشعرية


الثانية : أن الأشاعرة فاقوا الجهمية الأولى في مسائل منها قولهم في القرآن فقد صرح ابن أبي العز بأن قولهم في القرآن أكفر من قول المعتزلة وأشار إلى هذا ابن القيم في الصواعق المرسلة ، ونص ابن تيمية في الاستقامة على أن قولهم في إنكار العلو أشنع من القول بخلق القرآن


وقد نص ابن تيمية على أن السلف كفروا اللفظية في كثير من كلامهم


قال الشيخ كما في مجموع الفتاوى (12/421) :" وَأَمَّا الْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ - الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ تِلَاوَةُ الْعِبَادِ لَهُ - وَهِيَ " مَسْأَلَةُ اللَّفْظِيَّةِ " فَقَدْ أَنْكَرَ بِدْعَةَ " اللَّفْظِيَّةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتَهُ وَاللَّفْظَ بِهِ مَخْلُوقٌ أَئِمَّةُ زَمَانِهِمْ جَعَلُوهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَبَيَّنُوا أَنَّ قَوْلَهُمْ: يَقْتَضِي الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ تَكْفِيرُهُمْ"


وقول الأشاعرة أشنع من قول اللفظية


فكل ما قيل في الجهمية الأولى يقال في الأشاعرة من باب أولى ولكن القوم يعكسون الموضوع فيجزمون بإسلام الأشعرية بل يسننون جماعة من أعيانهم ويجعلون من يبدعهم هو المبتدع مع كونهم مشتركون مع الذين كفرهم السلف بالمقالة بل زائدون عليهم


ثم إنهم مع ما يسمونهم بالخوارج ينزلون عليهم ما قيل في الخوارج الأوائل من التكفير


مع أن الخوارج الأوائل يقعون في علي وعثمان وهؤلاء لا يقعون بل يعظمون


والخوارج الأوائل يطلقون التكفير بكل كبيرة ، وهؤلاء يطلقون عدم التكفير بكل كبيرة ، وإذا تابعوا ابن إبراهيم والرشيد والسلمان وعدد من مشايخ اللجنة الدائمة في تكفير محكم القوانين فما تنقمون منهم وأنتم تجعلون هؤلاء فوق السلف في موضوع أهل الرأي ، وفي أمر الانتخابات منكم من يحتج ببعض فتاوى المعاصرين ويرفع الإنكار  بمجرد وجود فتاوى لبعض المعاصرين ، وتكفير الجاسوس مطلقاً ( وهو قول باطل ) ظاهر في كلام ابن باز والفوزان


والخوارج الأوائل منهم من أنكر الرجم ومنهم من أنكر المسح على الخفين وكثير منهم لا يقبل كثير من أحاديث السنة لاتهامه الصحابة ، وأما المعاصرون فيخالفون في ذلك


فإن قلت : قد رأينا في كلام بعض أصحاب تركي البنعلي نقل كلام ابن حزم في الخروج على الحاكم الفاسق


فيقال : هذا لا ينكره إلا أنا وأمثالي وأما أنتم فلا حق لكم في ذلك فأبو حنيفة يرى السيف وابن حزم يرى السيف والصنعاني يرى السيف والجويني يرى السيف ( وأقره النووي بشرط عدم وجود مفسدة أعظم ) وهؤلاء كلهم أو جلهم أئمة عندكم الكلام فيهم من علامات الزيغ فهلا نزلتم عليهم حكم الخوارج عندكم في التكفير أو حتى الخلاف الواقع في ذلك


فأي دين هذا الذي يسمح لك بتسنين الجهمية الذين فاقوا الجهمية الذين كفرهم السلف ، ثم تحكم على أناس بأنهم خوارج وتنزل عليهم حكم التكفير واستحلال الدم بل واستحلال مقاتلتهم مع الكافر وهم يخالفون الخوارج الأوائل  في مسائل أصلية وكبيرة


ومن التناقض قول بعض كبرائكم بصحبة ذي الخويصرة وهذا تصحيح لإسلامه وتكفيركم للمعاصرين


بل العجيب حكم جماعة منكم بإسلام مانعي الزكاة الذين قاتلوا على تركها ، ثم قطع جماعة منكم بكفر الخوارج بعدها حتى الذين يعظمون الصحابة ويلتزمون الشرائع والسنن


والخلاصة أن الحكم بسنية جهمي ينكر العلو فضلاً عن إسلامه ، ثم الحكم بكفر رجل يكفر الدولة الفلانية ، الخلاصة أن هذا من أعظم التناقض والخطل


ثم لو فرضنا أن الخارجي واقع في الكفر فأين إقامة الحجة وفهمها ؟


القرضاوي والسويدان وغيرهما وقعا في كفريات عديدة فلم نسمع عن أحد يكفرهم


بل كثير من الليبراليين مع كفرهم الظاهر كمحمد آل الشيخ الذي يستهزيء بالسنة لم نسمع بأحد يكفره أو يصفه ب( الملحد ) مثلاً


وهنا أنا أحكي بحسب اطلاعي وقد يستدرك علي


فحين يصير من يعتقد عقيدة أهل السنة في الألوهية والأسماء والصفات _ بالجملة _ والقدر والإيمان _ بالجملة _ والصحابة واليوم الآخر كافراً


ويصير من يخالف عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات والإيمان والقدر والنبوات والتصوف إماماً في السنة أو سنياً


فهذا مذهب رديء غاية في السقوط

الخطأ السادس والعشرون : تكفير الجاسوس مطلقاً وهذا قول عامة المنتسبين للتيار الجهادي غير أن أبا قتادة والحدوشي قد خالفا في هذا ، وأيضاً هو قول جمع من مخالفيهم إذ يذكرون أن حاطباً وقع في الكفر ولكنه عذر ! وهذا قول ابن باز والفوزان ومحمد بن رمزان في كتابه الكواشف الجلية وخالد الظفيري في كتابه معاملة الحكام

واعجب أن أكثر هؤلاء المكفرين لا يكفرون الجهمية الأشعرية بكل بلاياهم !

والحق أن الجاسوسية بذاتها ليست كفراً قد يقترن بها ما يدل على ذلك

وهذا إجماع وقول بعضهم ( حد قتل الجاسوس ) هذا إحداث في الفقه فلا يوجد شيء اسمه حد قتل الجاسوس بل من قال بقتله قال بذلك تعزيراً

وهذا مقال لي في الأمر


فقد ذهب بعض المعاصرين إلى أن فعل حاطب بن أبي بلتعة حين أفشى سر النبي للمشركين كفرٌ أكبر وأن النبي عذره لجهله، وهذه الدعوى قولٌ حادث خلاف الإجماع وتقرير ذلك في ثلاث نقاط:


النقطة الأولى: بيان أن فعل حاطب جاسوسية ، وهذا أظهر من أن يوضح.


النقطة الثانية: بيان اتفاق العلماء على أن الجاسوس لا يكفر بمجرد الجاسوسية ، بل اتفق الأوائل على أنه لا يقتل حداً.


النقطة الثالثة: احتجاج جماعة من أهل العلم بحديث حاطب على حكمٍ عام مما يدل أنهم لا يرون قصته حادثة عين كما يزعم البعض.



أما النقطة الأولى: فقد بوب البخاري على حديث حاطب في كتاب الجهاد (باب الجاسوس)، وبوب أبو داود على حديث حاطب (باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلماً) وفيه أن أبا داود يرى أن المسلم لا يكفر بمجرد الجاسوسية.


وأما النقطة الثانية والثالثة:

 فقال الشافعي في الأم (4/264): "لا يحل دم من ثبتت له حرمة الاسلام إلا أن يقتل أو يزنى بعد إحصان أو يكفر كفرا بينا بعد إيمان ثم يثبت على الكفر

 وليس الدلالة على عورة مسلم ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بين

 فقلت للشافعي: أقلت هذا خبرا أم قياسا؟ قال قلته بما لا يسع مسلما علمه عندي أن يخالفه بالسنة المنصوصة بعد الاستدلال بالكتاب فقيل للشافعي فذكر السنة فيه

 قال أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد عن عبيدالله بن أبى رافع قال سمعت عليا يقول بعثنا رسول الله أنا والمقداد والزبير فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظغينة معها كتاب فخرجنا تعادى بنا خيلنا فإذا نحن بالظعينة فقلنا لها أخرجي الكتاب فقالت ما معى كتاب

 فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها

فأتينا به رسول الله فإذا فيه (من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس من المشركين ممن بمكة) يخبر ببعض أمر النبي قال (ما هذا يا حاطب؟)

 قال لا تعجل على يا رسول الله إنى كنت امرءا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها قراباتهم ولم يكن لى بمكه قرابة فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا والله ما فعلته شكا في ديني ولا رضا لا كفر بعد الاسلام

فقال رسول الله (إنه قد صدق) فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي (إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله عزوجل قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، قال فنزلت ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء﴾

 (قال الشافعي) رحمه الله تعالى:


"في هذا الحديث مع ما وصفنا لك طرح الحكم باستعمال الظنون لانه لما كان الكتاب يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما قال من أنه لم يفعله شاكا في الاسلام وأنه فعله ليمنع أهله ويحتمل أن يكون زلة لا رغبة عن الاسلام

واحتمل المعنى الاقبح كان القول قوله فيما احتمل فعله وحكم رسول الله فيه بأن لم يقتله ولم يستعمل عليه الاغلب ولا أحد أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذا لان أمر رسول الله مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله

 ورسول الله يريد غرتهم فصدقه ما عاب عليه الاغلب مما يقع في النفوس فيكون لذلك مقبولا كان من بعده في أقل من حاله وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه قيل للشافعي

أفرأيت إن قال قائل إن رسول الله قال قد صدق إنما تركه لمعرفته بصدقة لا بأن فعله كان يحتمل الصدق وغيره

 فيقال له قد علم رسول الله أن المنافقين كاذبون وحقن دماءهم بالظاهر فلو كان حكم النبي في حاطب بالعلم بصدقه كان حكمه على المنافقين القتل بالعلم بكذبهم

ولكنه إنما حكم في كل بالظاهر وتولى الله عزوجل منهم السرائر ولئلا يكون لحاكم بعده أن يدع حكما له مثل ما وصفت من علل أهل الجاهلية وكل ما حكم به رسول الله فهو عام حتى يأتي عنه دلالة على أنه أراد به خاصا أو عن جماعة المسلمين الذين لا يمكن فيهم أن يجعلوا له سنة

أو يكون ذلك موجودا في كتاب الله عزوجل قلت للشافعي أفتأمر الامام إذا وجد مثل هذا بعقوبة من فعله أم تركه كما ترك النبي ؟ فقال الشافعي إن العقوبات غير الحدود فأما الحدود فلا تعطل بحال وأما العقوبات فللامام تركها على الاجتهاد

وقد روى عن النبي أنه قال (تجافوا لذوى الهيئات) وقد قيل في الحديث ما لم يكن حد) فإذا كان هذا من الرجل ذى الهيئة بجهالة كما كان هذا من حاطب بجهالة وكان غير متهم أحببت أن يتجافى له وإذا كان من غير ذى الهيئة كان للامام - والله تعالى أعلم - تعزيره

وقد كان النبي في أول الاسلام يردد المعترف بالزنا فترك ذلك من أمر النبي ، لجهالته يعنى المعترف بما عليه وقد ترك النبي عقوبة من غل في سبيل الله

 فقلت للشافعي أرأيت الذى يكتب بعورة المسلمين أو يخبر عنهم بأنهم أرادوا بالعدو شيئا ليحذروه من المستأمن والموادع أو يمضى إلا بلاد العدو مخبرا عنهم قال يعزر هوءلاء ويحبسون عقوبة وليس هذا بنقض للعهد يحل سبيهم وأموالهم ودماءهم وإذا صار منهم واحد إلى بلاد العدو

 فقالوا: لم نر بهذا نقضا للعهد فليس بنقض للعهد ويعزر ويحبس قلت للشافعي أرأيت الرهبان إذا دلوا على عورة المسلمين؟

قال يعاقبون وينزلون من الصوامع ويكون من عقوبتهم إخراجهم من أرض الاسلام فيخيرون بين أن يعطوا الجزية ويقيموا بدار الاسلام أو يتركوا يرجعون فإن عادوا أودعهم السجن وعاقبهم مع السجن

قلت للشافعي أفرأيت إن أعانوهم بالسلاح والكراع أو المال أهو كدلالتهم على عورة المسلمين؟

 قال إن كنت تريد في أن هذا لا يحل دماءهم فنعم وبعض هذا أعظم من بعض ويعاقبون بما وصفت أو أكثر ولا يبلغ بهم قتل ولاحد ولا سبي

 فقلت للشافعي فما الذى يحل دماءهم؟

 قال إن قاتل أحد من غير أهل الاسلام راهب أو ذمى أو مستأمن مع أهل الحرب حل قتله وسباؤه وسبى ذريته وأخذ ماله فأما ما دون القتال فيعاقبون بما وصفت ولا يقتلون ولا تغنم أموالهم ولا يسبون".


قلت : مذهب الإمام الشافعي الذي فهمه أصحابه من الكلام عدم قتل الجاسوس مما يدل على أن الجاسوسية عنده ليست كفراً، وتأمل كيف أن الإمام الشافعي احتج لمذهبه بحديث حاطب مما يدل على أن حديث حاطب عنده عام وليس حادثة عين، هذا كلام الشافعي وإليك كلام شيخه الإمام مالك.


قال في التاج والإكليل : "سئل مالك عن الجاسوس من المسلمين يؤخذ وقد كاتب الروم وأخبرهم خبر المسلمين فقال : ما سمعت فيه بشيء وأرى فيه اجتهاد الإمام.

اللخمي : قول مالك هذا أحسن.

وقال ابن القاسم : أرى أن تضرب عنقه.

ابن رشد : قول ابن القاسم هذا صحيح لأنه أضر من المحارب".


قلت : فتأمل كيف أرجع الأمر إلى اجتهاد الإمام مما يدل على أن الجاسوسية عنده ليست كفراً

 ومن قال من المالكية بقتله قال بذلك تعزيراً لا حداً، بدليل ما قال صاحب تبصرة الأحكام من المالكية :" مسألة : وإذا قلنا : إنه يجوز للحاكم أن يجاوز الحدود في التعزير ، فهل يجوز أن يبلغ بالتعزير القتل أو لا ؟

 فيه خلاف ، وعندنا يجوز قتل الجاسوس المسلم إذا كان يتجسس بالعدو وإليه ذهب بعض الحنابلة ، وأما الداعية إلى البدعة المفرق لجماعة المسلمين فإنه يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل".


قلت : تأمل قوله (يجوز قتل الجاسوس) يدل على أن ذلك من باب التعزير ولو كان حداً لقال (يجب قتل الجاسوس)

 قال شيخ الإسلام (35/405) :

"أحدها وهو أحسنها وهو قول طائفة من أصحاب الشافعى وأحمد وغيرهما أنه لا يبلغ فى التعزير فى كل جريمة الحد المقدر فيها وإن زاد على حد مقدر فى غيرها فيجوز التعزير فى المباشرة المحرمة وفى السرقة من غير حرز بالضرب الذى يزيد على حد القذف ولا يبلغ بذلك الرجم والقطع.


القول الثاني: أنه لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود إما أربعين وإما ثمانين وهو قول كثير من أصحاب الشافعى وأحمد وأبى حنيفة.

والقول الثالث: أن لا يزاد فى التعزير على عشرة أسواط وهو أحد الأقوال فى مذهب أحمد وغيره.


وعلى القول الأول هل يجوز أن يبلغ بها القتل مثل قتل الجاسوس المسلم فى ذلك قولان أحدهما قد يبلغ بها القتل فيجوز قتل الجاسوس المسلم إذا قصد المصلحة وهو قول مالك وبعض أصحاب أحمد كابن عقيل

 وقد ذكر نحو ذلك بعض أصحاب الشافعى وأحمد فى قتل الداعية إلى البدع ومن لا يزول فساده إلا بالقتل وكذلك مذهب مالك قتل الداعية إلى البدع كالقدرية ونحوهم، و القول الثاني أنه لا يقتل الجاسوس وهو مذهب أبى حنيفة والشافعى والقاضى أبى يعلى من أصحاب أحمد والمنصوص عن أحمد التوقف فى المسألة".


قلت : فانظر كيف نقل قولين عن السلف في قتل الجاسوس لا ثالث لهما:

الأول: عدم قتله.

الثاني: قتله تعزيراً ، ولو كان كفراً لكان قتله ردةً لا تعزيراً، وتأمل كيف أن إمام أهل السنة توقف في المسألة ولو كانت الجاسوسية للعدو كفراً أكبر ما توقف الإمام.


وقال شيخ الإسلام في السياسة الشرعية ص151: "وأما مالك وغيره فحكى عنه : أن من الجرائم ما يبلغ به القتل ووافقه بعض أصحاب أحمد في مثل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو على المسلمين فإن أحمد يتوقف في قتله وجوز مالك وبعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى".


قلت : هذا النص كسابقه.


وقال شيخ الإسلام في منهاج السنة(6/175): "والتعزير بالقتل إذا لم تحصل المصلحة بدونه مسألة اجتهاديةكقتل الجاسوس المسلم للعلماء فيه قولان معروفان وهما قولان في مذهب أحمد أحدهما يجوز قتله وهو مذهب مالك واختيار ابن عقيل والثاني لا يجوز قتله وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي واختيار القاضي أبي يعلى وغيره".


قال ابن القيم في زاد المعاد (3/371): "وفيها : جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلما لأن عمر رضي الله عنه سأل رسول الله قتل حاطب بن أبي بلتعة لما بعث يخبر أهل مكة بالخبر ولم يقل رسول الله : لا يحل قتله إنه مسلم بل قال : [وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم]

 فأجاب بأن فيه مانعا من قتله وهو شهوده بدرا وفي الجواب بهذا كالتنبيه على جواز قتل جاسوس ليس له مثل هذا المانع وهذا مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يقتل وهو ظاهر مذهب أحمد والفريقان يحتجون بقصة حاطبوالصحيح : أن قتله راجع إلى رأي الإمام فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين قتله وإن كان استبقاؤه أصلح استبقاه والله أعلم".


قلت: رجح ابن القيم جواز قتله إذا رأى الإمام ذلك ، ولو كان حداً أو ردةً لما علقه بإذن الإمام.


وقال ابن القيم في الطرق الحكمية ص358 : "ومالك يرى تعزير الجاسوس المسلم بالقتل ووافقه بعض أصحاب أحمد ويرى أيضا هو وجماعة من أصحاب أحمد والشافعي قتل الداعية إلى البدعة".


قال ابن رجب في جامع العلوم (1/129) :" قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس للكفار على المسلمين وقد توقف فيه أحمد وأباح قتله طائفة من أصحاب مالك وابن عقيل من أصحابنا ومن المالكية من قال إن تكرر ذلك منه أبيح قتله واستدل من أباح قتله بقول النبي في حق حاطب بن أبي بلتعة لما كتب الكتاب إلى أهل مكة يخبرهم بسير النبي إليهم ويأمرهم فاستأذن عمر في قتله فقال إنه شهد بدرا فلم يقل إنه لم يأت بما يبيح دمه وإنما علل بوجود مانع من قتله وهو شهوده بدرا ومغفرة الله لأهل بدر وهذا المانع منتف في حق من بعده".


قلت : تأمل تعبيرهم عن قتل الجاسوس ب( الجواز ) ، مما يدل على أن قتله إنما يقع تعزيراً لا حداً ولو كان حداً لكان واجباً ، وتأمل تعليلهم لعدم قتل حاطب بأنه شهد بدراً ، ولم يعللوه بالجهل كما يفعل بعض المعاصرين ولو كان الحكم حداً لم تدرأ البدرية الحد لأنه حق الله وإنما هو تعزير.


قال ابن حجر في الفتح (8/ 635): "قال وفيه نزلت هذه الآية وكذا أخرجه مسلم عن بن أبي عمر وعمرو الناقد وكذا أخرجه الطبري عن عبيد بن إسماعيل والفضل بن الصباح والنسائي عن محمد بن منصور كلهم عن سفيان واستدل باستئذان عمر على قتل حاطب لمشروعية قتل الجاسوس ولو كان مسلما وهو قول مالك ومن وافقه ووجه الدلالة أنه أقر عمر على إرادة القتل لولا المانع وبين المانع هو كون حاطب شهد بدرا وهذا منتف في غير حاطب فلو كان الإسلام مانعا من قتله لما علل بأخص منه".


قال ابن حجر في الفتح (12/310) : "وفيه هتك ستر الجاسوس وقد استدل به من يرى قتله من المالكية لأستئذان عمر في قتله ولم يرده النبي عن ذلك الا لكونه من أهل بدر ومنهم من قيده بأن يتكرر ذلك منه والمعروف عن مالك يجتهد فيه الامام وقد نقل الطحاوي الإجماع على أن الجاسوس المسلم لا يباح دمه وقال الشافعية والأكثر يعزر وإن كان من أهل الهيئات يعفى عنه وكذا قال الأوزاعي وأبو حنيفة يوجع عقوبة ويطال حبسه وفيه العفو عن زلة ذوي الهيئة وأجاب الطبري عن قصة حاطب واحتجاج من احتج بأنه انما صفح عنه لما أطلعه الله عليه من صدقه في اعتذاره فلا يكون غيره كذلك قال القرطبي وهو ظن خطأ لأن أحكام الله في عباده إنما تجري على ما ظهر منهم وقد أخبر الله تعالى نبيه عن المنافقين الذين كانوا بحضرته ولم يبح له قتلهم مع ذلك لاظهارهم الإسلام وكذلك الحكم في كل من أظهر الإسلام تجري عليه أحكام الإسلام وفيه من أعلام النبوة اطلاع الله نبيه على قصة حاطب مع المرأة كما تقدم بيانه من الروايات في ذلك وفيه إشارة الكبير على الامام بما يظهر له من الرأي العائد نفعه على المسلمين".


قلت: تأمل نقل الطحاوي الإجماع على عدم قتل الجاسوس وهذا الإجماع يصح على تخريجين:


الأول : أنه أراد الإجماع على أنه لا يقتل حداً.

الثاني : أنه أراد إجماع الأوائل ولم يعتد بمن خالفهم ممن بعدهم وهذا صنيع ابن بطال.


وقال ابن بطال في شرح البخاري(9/214) : "واختلف الفقهاء فى المسلم يكاتب المشركين بأخبار المسلمين، فقال مالك: ما فيه شيء وأرى فيه اجتهاد الإمام. وقال أبو حنيفة والأوزاعى: يوجع عقوبة، ويطال حبسه. وقال الشافعى: إن كان ذا هيئة عفا الإمام عنه، واحتج بهذا الحديث أن النبي لم يعاقب حاطبا، وإن كان غير ذى هيئة عذره الإمام؛ لأنه لا يحل دم أحد إلا بكفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس.


وقال ابن القاسم فى العتبية: يضرب عنقه؛ لأنه لا تعرف توبته.


وهو قول سحنون، وقال ابن وهب: يقتل إلا أن يتوب. وقال ابن الماجشون: إن كان نادرا من فعله، ولم يكن من أهل الطعن على الإسلام، فلينكل لغيره، وإن كان معتادا لذلك فليقتل، ومن قال بقتل الجاسوس المسلم فقد خالف الحديث وأقوال المتقدمين من العلماء، فلا وجه لقول".


قلت : لم يعتد ابن بطال بمن خالف من المالكية وأفتى بقتل الجاسوس لأنه يرى هذا القول حادث مخالف لقول الأوائل الذين نقل الطحاوي اتفاقهم والله أعلم بحقيقة الأمر.


قال القرطبي في تفسيره (18/52) : "الرابعة: من كثر تطلعه على عورات المسلمين وينبه عليهم ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافرا إذا كان فعله لغرض دنيوي واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينو الردة عن الدين الخامسة - إذا قلنا لا يكون بذلك كافراً فهل يقتل بذلك حدا أم لا ؟ اختلف الناس فيه، فقال مالك وابن القاسم وأشهب: يجتهد في ذلك الامام.

وقال عبد الملك: إذا كانت عادته تلك قتل، لأنه جاسوس، وقد قال مالك بقتل الجاسوس - وهو صحيح

لاضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الارض.

ولعل ابن الماجشون إنما اتخذ التكرار في هذا لان حاطبا أخذ في أول فعله.

والله أعلم".


قلت : الثابت عن مالك التوقف ورواية أخرى في القتل تعزيراً وأما القتل حداً فتفرد القرطبي بنقله عن مالك

وأما كلام شيخ الإسلام الذي لم يحسن البعض فهمه
 قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (3/283):
"وإذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي أنه قد شهد بدرا وما يدريك أن الله قد اطلع أهل بدل فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وهذا في الصحيحين وفيها أيضا من حديث الإفك أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة أنك منافق تجادل عن المنافقين واختصم الفريقان فأصلح النبي بينهم فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم إنك منافق ولم يكفر النبي لا هذا ولا هذا بل شهد للجميع بالجنة".

قلت: شيخ الإسلام يعني أن عمر متأول في تكفيره لحاطب حيث قال :" دعني أضرب عنق هذا المنافق " ولهذا لم يثرب عليه، ولا يعترض علينا بأن الجاسوس إذا استحل أو جحد يكفر ، إذ أن جميع الذنوب هكذا ولا خصوصية للجاسوسية بذلك.

يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: (أصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض)، ويقول أيضاً: (... وعرفتم أن مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة ، منها ما يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية ، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات) الدرر صـ 8/342.

قلت: فهذا فيه الفرق بين صور الموالاة ومنه التولي المخرج من الملة وهو المتضمن لحب دين الكفار وغير ذلك، وعلى هذا يحمل أقوال العلماء التي فهم من ظاهرها التكفير ، وإلا فلا تكون أقوالهم حجةً على الإجماع المنعقد والذي قام عليه الدليل فما زال الفقهاء يبحثون مسألة (الجاسوس المسلم) وهو معينٌ للكفار ولا شك وحديث حاطب حجةٌ دامغة لمن أحدث خلافاً في المسألة.

وقد نقلت في المقال الأصل كلام الشيخ صالح آل الشيخ في التفريق بين الموالاة والتولي؛ قال الشيخ سليمان بن سحمان في إرشاد الطالب إلى أهم المطالب :
"وكذلك الكفر أيضا ذو أصل وشعب فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر ، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام ، وفرق بين من ترك الصلاة والزكاة والصيام وأشرك بالله أو استهان بالمصحف وبين من سرق أو زنى أو شرب أو انتهب أو صدر منه نوع من موالاة (الكفار) كما جرى لحاطب فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام أو سوى بين شعب الكفر في ذلك فهو مخالف للكتاب والسنة خارج عن سبيل سلف الأمة داخل في عموم أهل البدع والأهواء
 وقد تبين لك مما قدمناه من كلام ابن القيم وكلام شيخنا الشيخ عبد اللطيف من أن الكفر كفران ، وإن الفسق فسقان ، والشرك شركان والظلم ظلمان ، والنفاق نفاقان على ما ذكراه من التفصيل وقررا عليه من الأدلة من الكتاب والسنة
 وذكرا أن هذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم ، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان ، فأولئك غلوا ، وهؤلاء جفوا وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى ، والقول الوسط الذي في المذاهب كالإسلام في الملل".

وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ في أصول وضوابط في التكفير:
وتأمل: قصة حاطب بن أبي بلتعه، وما فيها من الفوائد، فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله، لكن حدث منه: أنه كتب بسر رسول الله إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بشأن رسول الله ومسيره لجهادهم، ليتخذ بذلك يداً عندهم، تحمي أهله، وماله بمكة، فنزل الوحي بخبره، وكان قد أعطى الكتاب: ظعينة، جعلته في شعرها، فأرسل رسول الله علياً، والزبير، في طلب الظعينة، وأخبرهما، أنهما يجدانها في روضة: خاخ، فكان ذلك، وتهدداها، حتى أخرجت الكتاب من صفائرها، فأتي به رسول الله .

فدعا حاطب بن أبي بلتعة، فقال له: "ما هذا"؟ فقال : يا رسول الله، إني لم أكفر بعد إيماني، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد، أحمي بها أهلي، ومالي، فقال : "صدقكم، خلوا سبيله" واستأذن عمر، في قتله، فقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: " وما يدريك، أن الله اطلع على أهل بدر، فقال : اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " وأنزل الله في ذلك، صدر سورة الممتحنة، فقال : ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء﴾ الآيات.

فدخل حاطب في المخاطبة، باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوص السبب، الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة، ما يُشعر: أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك، قد ضل سواء السبيل، لكن قوله: " صدقكم، خلوا سبيله " ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، وإذا كان مؤمناً بالله ورسوله، غير شاك، ولا مرتاب؛ وإنما فعل ذلك، لغرض دنيوي، ولو كفر، لما قال : خلوا سبيله.

ولا يقال، قوله : "ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " هو المانع من تكفيره، لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من إلحاق الكفر وأحكامه ؛ فإن الكفر : يهدم ما قبله، لقوله تعالى : ﴿ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله﴾[المائدة :5] وقوله : ﴿ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون﴾[الأنعام:88] والكفر، محبط للحسنات والإيمان، بالإجماع؛ فلا يظن هذا.

وأما قوله تعالى : ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم﴾[ المائدة:51] وقوله : ﴿لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الأخر يوادون من حاد الله ورسوله﴾[المجادلة:22] وقوله : ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين﴾، فقد فسرته السنة، وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة".

قال شيخ الإسلام: "وَقَدْ تَحْصُلُ -يعني الموادة التي هي من الموالاة- لِلرَّجُلِ لرحم أو حاجة , فتكون ذنبا ينقص به إيمانه , ولا يكون به كافرا , كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي , وأنزل الله فيه: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة﴾، وقال أيضا عن فعل حاطب :"فهذه أمور صدرت عن شهوة وعجلة لا عن شك في الدين , كما صدر عن حاطب التجسس لقريش مع أنها ذنوب ومعاصي يجب على صاحبها أن يتوب , وهي بمنزلة عصيان أمر النبي ".

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "تكفير من بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله ثم أبغضه ونفر الناس عنه. وجاهد من صدق الرسول فيه ومن عرف الشرك وأن رسول الله بعث بإنكاره وأقر بذلك ليلا ونهاراً ثم مدحه وحسنه للناس وزعم أن أهله لا يخطئون لأنهم السواد الأعظم، وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن الله ورسوله". الرسائل الشخصية 3/25.

وقال العلامة سليمان بن عبد الله آل الشيخ في رسالة أوثق عرى الإيمان:
"قال سليمان بن عبد الله :" و ليس بأعظم من قصة حاطب بن أبي بلتعة، لما كتب إلى المشركين يخبرهم بمسير رسول الله .
فهذا جس من حاطب، وقد تنازع العلماء في قتل الجاسوس المسلم، و لم يكن ذلك دليل على جواز مكاتبة المشركين بأسرار المسلمين.
كذلك حديث مالك: لا يدل على أن مجالسة المنافقين، ونصيحتهم أمر جائز، لكن يقال و الله أعلم: هذا ذنب كفر بشهوده بدراً ؛ كما كفر ذنب حاطب بذلك
وأما القتال مع المشركين ضد المسلمين فرأيت ابن تيمية يقيسه على الطائفة الممتنعة ويكفر به وهذا قوي في الحقيقة
قال شيخ الإسلام (35/405) :" أحدها وهو أحسنها وهو قول طائفة من أصحاب الشافعى وأحمد وغيرهما أنه لا يبلغ فى التعزير فى كل جريمة الحد المقدر فيها وإن زاد على حد مقدر فى غيرها فيجوز التعزير فى المباشرة المحرمة وفى السرقة من غير حرز بالضرب الذى يزيد على حد القذف ولا يبلغ بذلك الرجم والقطع

القول الثانى أنه لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود إما أربعين وإما ثمانين وهو قول كثير من أصحاب الشافعى وأحمد وأبى حنيفة

والقول الثالث أن لا يزاد فى التعزير على عشرة أسواط وهو أحد الأقوال فى مذهب أحمد وغيره


وعلى القول الأول هل يجوز أن يبلغ بها القتل مثل قتل الجاسوس المسلم فى ذلك قولان أحدهما قد يبلغ بها القتل فيجوز قتل الجاسوس المسلم إذا قصد المصلحة وهو قول مالك وبعض أصحاب أحمد كابن عقيل .

وقد ذكر نحو ذلك بعض أصحاب الشافعى وأحمد فى قتل الداعية إلى البدع ومن لا يزول فساده إلا بالقتل وكذلك مذهب مالك قتل الداعية إلى البدع كالقدرية ونحوهم .

و القول الثانى أنه لا يقتل الجاسوس وهو مذهب أبى حنيفة والشافعى والقاضى أبى يعلى من أصحاب أحمد والمنصوص عن أحمد التوقف فى المسألة "انتهى


قلت : فانظر كيف نقل قولين عن السلف في قتل الجاسوس لا ثالث لهما

الأول : عدم قتله

الثاني : قتله تعزيراً ، ولو كان كفراً لكان قتله ردةً لا تعزيراً ، وتأمل كيف أن إمام أهل السنة توقف في المسألة ولو كانت الجاسوسية للعدو كفراً أكبر ما توقف الإمام





وبيان ذلك أنهم يؤولون حاطب بن أبي بلتعة بأن حاطباً لم يكن يعلم بأن هذا الفعل كفر أكبر


والقاعدة في التكفير أن الفعل المكفر لا يشترط في تكفير الواقع فيه ، أن يعلم أن هذا الفعل مكفر وإنما فقط يكفي أن يعلم أنه محرم ومن اشترط أن يعلم أن هذا الفعل كفر فقد اشترط أن يقصد الكفر ، وهذا لا يكاد يقع


قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 273) :" وَهَؤُلَاءِ الصِّنْفُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ غَيْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ حَلَفُوا بِاَللَّهِ مَا قَالُوا وَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ الَّتِي كَفَرُوا بِهَا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَصِلُوا إلَى مَقْصُودِهِمْ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ : هَمُّوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا لَكِنْ { بِمَا لَمْ يَنَالُوا } فَصَدَرَ مِنْهُمْ قَوْلٌ وَفِعْلٌ قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } فَاعْتَرَفُوا وَاعْتَذَرُوا ؛ وَلِهَذَا قِيلَ : { لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَدْ أَتَوْا كُفْرًا بَلْ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرِ فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ إيمَانِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ إيمَانٌ ضَعِيفٌ فَفَعَلُوا هَذَا الْمُحَرَّمَ الَّذِي عَرَفُوا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَلَكِنْ لَمْ يَظُنُّوهُ كُفْرًا وَكَانَ كُفْرًا كَفَرُوا بِهِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا جَوَازَهُ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ"


قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول ص515 :" وهذا موضع لا بد من تحريره ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلة منكرة وهفوة عظيمة ويرحم الله القاضي أبا يعلي قد ذكر في غير موضع ما يناقض ما قاله هنا وإنما وقع من وقع في هذه المهواة ما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين وهم الجهمية الإناث"


قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (2/ 339) :" كما ان المتنبي انما يقصد اذا لم يقصد مجرد الاضلال اما الرياسة بنفاذ الامر وحصول التعظيم او تحصيل الشهوات الظاهرة وبالجملة فمن قال او فعل ما هو كفر كفر بذلك وان لم يقصد ان يكون كافرا اذ لا يكاد يقصد الكفر احد الا ما شاء الله "


وهؤلاء القوم الذين يقولون بأن حاطباً لم يعلم أنه كفر ، لهذا لم يكفر كأنهم يقولون أن من فعل مكفراً لمصلحة دنيوية لا يكفر وهذا إرجاء عريض


أو يكابروا ويقولون أن حاطباً ما كان يعلم أن هذا الفعل محرم ، وهذه مكابرة فإنه كان يعلم أن فعله محرم بدليل أنه استخفى به ، وكل عاقل يعلم ضرر هذا الفعل العظيم على قومه ، وكلام حاطب كان كلام المعتذر


والخلاصة أنهم أولى بالإرجاء ممن لم يكفر أخذاً بكلام عامة أهل العلم والله المستعان


وقد رأيت من يكفر الجاسوس مطلقاً ولا يرى إنكار الأشاعرة للعلو وقولهم بخلق القرآن وقولهم في الإيمان مكفراً ، فسبحان قاسم العقول

وقد بلغني أن عماد فراج يكفر الجاسوس بل ويكفر من لا يكفره ولا أدري إن كان قاله حقاً فإن قاله فهذه بلية

تنبيه : رأيت بعضهم يذكر رواية عن حاطب أنه أرسل كتاب تهدد ووعيد وليس جاسوسية للمشركين وهذا سخيف لأن التهدد والوعيد لا يدفع به شرهم عن أهله والرواية في هذا منكرة ، وكذلك الرواية التي يقول أنه كتب كتاباً لا يضر الله ورسوله استنكرها البزار في مسنده وفيها انفراد غريب

الخطأ السابع والعشرون : عد عدم تكفير الطائفة الممتنعة من أقوال المرجئة

ولا شك أن الطائفة الممتنعة كافرة غير أن عدم تكفيرها هو قول الشافعي وله شبهة أثرية

( قال الشافعي ) في الأم :  وأهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربان ، منهم قوم أغروا بعد الإسلام مثل طليحة ومسيلمة والعنسي وأصحابهم ومنهم قوم تمسكوا بالإسلام ومنعوا الصدقات فإن قال قائل ما دل على ذلك والعامة تقول لهم أهل الردة ؟ ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : فهو لسان عربي فالردة الارتداد عما كانوا عليه بالكفر والارتداد يمنع الحق قال ومن رجع عن شيء جاز أن يقال ارتد عن كذا وقول عمر لأبي بكر أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا [ ص: 228 ] إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله }في قول أبي بكر هذا من حقها لو منعوني عناقا مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه معرفة منهما معا بأن ممن قاتلوا من هو على التمسك بالإيمان ولولا ذلك ما شك عمر في قتالهم ولقال أبو بكر قد تركوا لا إله إلا الله فصاروا مشركين وذلك بين في مخاطبتهم جيوش أبي بكر وأشعار من قال الشعر منهم ومخاطبتهم لأبي بكر بعد الإسار فقال شاعرهم :

ألا أصبحنا قبل نائرة الفجر     لعل منايانا قريب وما ندري

أطعنا رسول الله ما كان وسطنا     فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر

فإن الذي يسألكمو فمنعتم     لكالتمر أو أحلى إليهم من التمر

سنمنعهم ما كان فينا بقية     كرام على العزاء في ساعة العسر

وقالوا لأبي بكر بعد الإسار ما كفرنا بعد إيماننا ولكن شححنا على أموالنا. اهـ

وتكفير الصحابة للطائفة الممتنعة أظهر من تكفيرهم لتارك الصلاة ومع ذلك ما عدوا الشافعي مرجئاً لما كانت عنده شبهة أثرية وكان يكفر بترك العمل ويرد على المرجئة ، وفي هذا عبرة لمن يتوسع في إطلاق أحكام الإرجاء دون مراعاة لأحوال المتكلمين واختلاف مقدماتهم

وأعني بمن يعد هذا القول من أقوال المرجئة عبد الله بن فيصل الأهدل وقد رد عليه المأربي برد فيه ما فيه

الخطأ الثامن والعشرون : التخبط في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله وتحكيم القوانين

وهذه المسألة منشأ الغلط من جميع الفرقاء فيها من المقدمة المسبقة ففريق يريد تكفير الحاكم بكل وسيلة

وفريق يريد أن يثبت عدم كفره بأي وسيلة

والعلم يظلم بين الفريقين ، فأما الفريق المكفر فغلطه ينشأ

من كون يستدل بعمومات تدخل فيها صور غير مكفرة باتفاق السلف ، وأنه استنكروا أثر ابن عباس ( كفر دون كفر ) مع تلقي أهل العلم له بالقبول وهذه طريقة الطريفي والعلوان مع أن التعامل مع الآثار أهون ، بل نصبوا الخلاف بين أثر ( هي به كفر ) وأثر ( كفر دون كفر ) ومعناهما واحد ، ومنهم من نصب الخلاف بين ابن مسعود وابن عباس في المسألة وهذه كلها دعاوى محدثة وتأثر بمذهب الخوارج

وقسم يأتي إلى مسألة تحكيم القوانين الوضعية الموجودة الآن والتي هي منبثقة من العلمانية والتي تتضمن كفراً بواحاً وأصولاً علمانية من آمن بها كان واقعاً بالكفر وينزل على هذا آثار السلف في عدم تكفير الحاكم الجائر حتى وصل الأمر ببعضهم إلا يكفر الحكام المنتسبين إلى البعث أو الأحزاب الشيوعية

وابن باز الذي يتكثرون به في هذه المسألة يكفر كل علماني وكل بعثي وكل قومي

فأما الفريق الأول فالرد عليه

قال سليمان العلوان في شرح العقيدة الواسطية :

حكى الإمام ابن حزم في الإحكام، وابن تيمية في الفتاوى، وابن كثير في البداية والنهاية: هؤلاء يحكون

الإجماع على أن من غير دين الله وحكم بغير ما أنزل الله، فهو مرتد عن الدين؛ لنفترض أن هذا القول غلط، فلا يُنْسَبُ من قال بهذا القول إلى الخوارج.

العجيب في هذا الواقع الآن أن من قال بظاهر الآية: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ليسوا هم الخوارج؛ لم يقل بذلك الخوارج، ولم تكن بدعة الخوارج أنهم يكفرون من حكم بغير ما أنزل الله؛ ومن قال ذلك؟ !

ولكن كانوا يُكفِّرون الصحابة؛ يُكفِّرون عليَّا، يكفرون عثمان، يكفرون كافة الصحابة –رضي الله عنهم-؛ هذه بدعة الخوارج، ويقولون لا حُكم إلا لله، مع أنه لم يُعرف عن أحد من الصحابة أنه حكم بغير ما أنزل الله؛ حتى يقال إن الخوارج يُنزِّلون هذه الآية عليهم؛ فهم أخطؤوا في الاستدلال بها، ولم يكونوا يُنزِّلون الآية على وجهٍ مشروع ثم أجمع الصحابة على خلافه.

وأما ما أثر عن ابن عباس: (كفر دون كفر) فهذا أثر منكر جاء من رواية هشام بن حجير عن طاوس عن ابن عباس؛ وإن كان ابن حجير ضعيف الحديث؛ ضعفه الإمام أحمد ويحيى بن معين والعُقيلي وغير هؤلاء من الأكابر، وفي نفس الوقت جاء عن ابن عباس ما يخالفه؛ جاء عنه بسند كالشمس: قال عبد الرزاق: حدثنا معمر، حدثنا عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: [ هي به كُفْرٌ ]، هذا سند كالشمس، وروى ابن جرير بلفظ: [ هي كفر]. بمعنى أن الآية على إطلاقها.انتهى كلامه


فهنا سليمان العلوان يأخذ بالآية على إطلاقها وينكر بأن القول بأخذ بها على إطلاقها هو قول الخوارج ويحصر خطأ الخوارج في تكفيرهم لعثمان وعلي يعني فيمن نزلت عليه الآية لا في الاستدلال نفسه وبهذا يكذب النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي أخبر باستمرار خروج الخوارج

ويدعي أنه لا أحد من أهل العلم قال بأن الأخذ بهذه الآية على الإطلاق هم الخوارج !


قال أبو المظفر السمعاني في تفسيره [2/ 42]: اعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية ويقولون من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر وأهل السنة لا يكفرون بترك الحكم. اهـ


قال ابن عبد البر في التمهيد [17/ 16]: وقد ضلت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب واحتجوا بآيات ليست على ظاهرها مثل قوله عز وجل: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم

الكافرون}.اهـ


وقال الجصاص في أحكام القرآن [4/ 92]: وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بغير ما أنزل الله من غير جحودٍ لها. اهـ


قال الشاطبي في الإعتصام [2/ 183 - 184] والآجري في الشريعة [1/ 31] واللفظ له: مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ويقرؤون معها {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} فإذا رأوا الإمام حكم بغير الحق قالوا كفر. اهـ


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة [5/ 131]: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم .... } وهذه الآية مما يحتج به الخوارج على تكفير الولاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله. اهـ

وهذا كله ينطبق على العلوان


وأما كلامه الفارغ على أثر ابن عباس فليس الأثر منكراً بل قوله ( هي به كفر ) بمعنى ( كفر دون كفر )

فلفظة [هي به كفر] من ألفاظ الكفر الأصغر لأربعة براهين:

البرهان الأول :

قول النبي صلى الله عليه وسلم [اثنتان في الناس هما بهما كفر: النياحة والطعن في الأنساب].


البرهان الثاني:

قول ابن عباس في الرواية الثابتة: [وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله]


البرهان الثالث:

إيراد ابن بطة لأثر ابن عباس هذا في [الإبانة 2/ 723]:

تحت باب: ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به من الملّة.

وذكر ضمن هذا الباب: الحكم بغير ما أنزل الله، وأورد آثار الصحابة والتابعين على أنه كفر أصغر غير ناقل من الملة , فابن بطة أعلم بألفاظ السلف من هذا الغر.


البرهان الرابع:

قال محمد بن نصر المروزي - رحمه الله - في [تعظيم قدر الصلاة2/ 520] على لسان جماعة من أهل الحديث: ولنا في هذا قدوة بمن روى عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين؛ إذ جعلوا للكفر فروعاً دون أصله، لا تنقل صاحبه عن ملة الإسلام، كما ثبتوا للإيمان من جهة العمل فرعاً للأصل لا ينقل تركه عن ملة الإسلام، من ذلك قول ابن عباس في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}. اهـ


ثم أسند المروزي أثر ابن عباس بلفظ: [هي به كفر] فتأمل الفرق بين فقه السلف وفقه الأغرار اليوم

- إن صحت تسميته بالفقه -.


وبأثر ابن عباس كان يفتي الإمام أحمد وعامة أهل السنة

قال إسماعيل بن سعد في [سؤالات ابن هاني 2/ 192]:

سألت أحمد: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. قلت: فما هذا الكفر؟

قال: كفر لا يخرج من الملة. اهـ


ولما سأله أبو داود السجستاني في سؤالاته [ص 114] عن هذه الآية؛ أجابه بقول طاووس وعطاء وسيأتي ذكرهما.


وذكر شيخ الإسلام بن تيمية في [مجموع الفتاوى 7/ 254] وتلميذه ابن القيم في [حكم تارك الصلاة ص 59 - 60]: أن الإمام أحمد -رحمه الله- سئل عن الكفر المذكور في آية الحكم.

فقال: كفر لا ينقل عن الملة؛ مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه. اهـ


وأما رواية ( هي كفر ) فكذب من العلوان


بل قد دلت السنة الصحيحة على أن مجرد الحكم بغير ما أنزل الله ليس كفراً أكبر

1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [عليك السّمعُ والطّاعةُ في عُسْرِك، ويُسرِك، ومَنشطك ومَكرهك، وأثرةٍ عليكَ] رواه مسلم.

قلت: ووجه الشاهد قوله: [وأثرة عليك] ويعني الاستئثار بأمور الدنيا عنك , ولا يخفى بأن هذا الاستئثار من الوالي بالدنيا عن الرعية ليس من الحكم بما أنزل الله ..


2 - عن حذيفة رضي الله عنه يرفعه: [يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس , قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركتُ ذلك؟ قال: تسمعُ وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع] رواه مسلم.

قلت: قوله: [لا يهتدون بهداي] صريحٌ في أنهم لا يحكمون الشريعة وهذا يشمل المكوس وأضرابها .


3 - سأل سلمةُ بنُ يزيد الجُعفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال [يا نبي الله أرأيتَ إن قامت علينا أمراءُ يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟

فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلُوا وعليكم ما حملتم] رواه مسلم.

قلت: لا شك بأن منع الناس حقوقهم ليس من الحكم بما أنزل الله، .


4 - عن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لتنقضن عرى الإسلام عروة , عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضا الحكم و آخرهن الصلاة.[رواه أحمد وابن حبان ]

قلت: وجه الدلالة من الحديث أن انتقاض عروة [الحكم] لم تكن انتقاضاً للإسلام كله بل بقي الإسلام يذهب شيئاً فشيئاً.

ولا يعني التهوين من شأن جريمة الحكم بغير ما أنزل الله خصوصاً ما كان منها تحكيماً للقوانين الوضعية فهذا أمر خطيرٌ جداً وقد ورد في الحديث : ( وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ، إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ) وهذا نراه عياناً اليوم والله المستعان

وأما أثر ابن مسعود حين قال في الرشوة ( هذا الكفر ) فهذا كقول ابن عباس في إتيان المرأة في الدبر ( يسألني عن الكفر ) لم يحمله أحد على الكفر الأكبر والعجيب أن هذا الفريق نفسه يفرق بين من يحكم بغير ما أنزل الله في مسألة أو مسألتين وبين صاحب التشريع العام ثم هم يستدلون بعمومات تدخل فيها حتى الصورة التي لا يكفرون بها

والأمراء الذين قيل للنبي ( يمنعونا حقنا ) لا شك أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله ومع ذلك أمر بطاعتهم

ومن يجعل مناط التكفير التقنين مخطيء لأن المكوس تقنين وما كفر بها أحد

وأما الفريق الثاني : قد ذهب بعض الشافعية إلى أن تسمية ( المكوس ) وهي الضرائب حقاً كفر


قال الهيتمي في الإعلام بقواطع الإسلام :" قال القمولي: ومن ذلك أي جحد الضروري أن يعتقد في شيء من المكوس أنه حق. قال: ويحرم تسميتها بذلك انتهى.

وقضيته أن مجرد تسمية الباطل حقاً لا يطلق أنه كفر، وهو ظاهر في نحو هذه المسألة مما فيه ضرب من التأويل، وهو أخذ الإمام له على نية الزكاة, أما فيما لا تأويل فيه بوجه فينبغي أن يكون تسميته حقاً كفراً"


وقال النووي في الأذكار :" مما يتأكد النهيُ عنه والتحذيرُ منه ما يقولُه العوامّ وأشباهُهم في هذه المكوس التي تُؤخذُ مما يبيع أو يشتري ونحوهما، فإنهم يقولون: هذا حقّ السلطان، أو عليك حقّ السلطان، ونحو ذلك من العبارات المشتملة على تسميته حقاً أو لازماً ونحو ذلك، وهذا من أشدّ المنكرات، وأشنع المستحدثات، حتى قال بعضُ العلماء: من سمَّى هذا حقاً فهو كافرٌ خارجٌ عن ملّة الإِسلام، والصحيحُ أنه لا يكفرُ إلا إذا اعتقده حقاً مع علمه بأنه ظلم، فالصوابُ أن يُقال فيه المكسُ، أو ضريبةُ السلطان، أو نحو ذلك من العبارات، وبالله التوفيق"


وهذا أشعريان غير أن المراد بيان أنه حتى المرجئة تكلموا بهذا


فإذا كان تسمية الضريبة حقاً كفراً في قول بعضهم فما بالك بتسمية القوانين الوضعية ( عدلاً ) وإن لم توافق الشرع وتسمية الديمقراطية ومفرزاتها ( شرعية )


وقال السبكي الجهمي في معيد النعم ومبيد النقم :" ومن قبائحهم: أنهم إذا اعتمدوا شيئاً مما جرت به عوائدهم القبيحة يقولون: هذا شرع الديوان لا شرع له، بل الشرع لله تعالى، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الكلام ينتهي إلى الكفر، وإن لم تنشرح النفس لتكفير قائله، فلا أقلَّ من ضربه بالسياط؛ ليكف لسانه عن هذا التعظيم الذي هو في غنية عنه، بأن يقول: عادة الديوان، أو طريقه، أو نحو ذلك من الألفاظ التي لا تنكر"


وهذا كقول البدو ( شرع العجمان ) و ( شرع قحطان ) وكقول الديمقراطيين ( المجلس التشريعي )!


وقال ابن القيم في الإغاثة :" وسموا الربا بالمعاملة، وسموا المكوس بالحقوق السلطانية، وسموا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان، وسموا أبلغ الكفر، وهو جحد صفات الرب، تنزيها، وسموا مجالس الفسوق مجالس الطيبة"

وأصحاب القوانين والبدو المتحاكمين لسوالفهم وقع منهم ما هو أشنع من هذا بكثير وحالهم شبيه بحال أصحاب الياسق ، وكثير منهم يسخر من الحكم الشرعي ويسمون الشريعة رجعية ويسمون تحكيم غير الشرع تقدماً ويسمون من يدعو لتحكيم الشريعة متطرفاً فهؤلاء لا شك في كفرهم

الخطأ التاسع والعشرون : تفسير ( ليس منا ) ب ( ليس مثلنا )

وهذه وقع بها بعض المحققين ممن ينقل كلام الأشعرية المرجئة ولا يدقق

وهذا التفسير وقع فيه سفيان بن عيينة على جلالته واحتمل له في علمه وجلالته

والأحاديث التي فيها قوله ( ليس منا ) غلط فيها طائفتان وهما المرجئة والخوارج


أما المرجئة فتأولوها بقولهم ( ليس مثلنا ) ، وأما الخوارج فكفروا الواقع فيها


قال الخلال في السنة 994: أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكَرْمَانِيُّ , قَالَ : قِيلَ لأَحْمَدَ : مَا مَعْنَى حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا) , فَلَمْ يُجِبْ فِيهِ . قِيلَ : فَإِنَّ قَوْمًا , قَالُوا : مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِثْلَنَا , فَأَنْكَرَهُ , وَقَالَ : هَذَا تَفْسِيرُ مِسْعَرٍ وَعَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ , كَلاَمُ الْمُرْجِئَةِ.

قَالَ أَحْمَدُ : وَبَلَغَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ فَأَنْكَرَهُ , وَقَالَ : لَوْ أَنَّ رَجُلاً عَمِلَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ أَكَانَ يَكُونُ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟.

995: وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ , قَالَ : حَدَّثَنَا مُهَنَّى , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ , يَقُولُ : وَذَكَرَ رَجُلٌ عِنْدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ , وَشَقَّ الْجُيُوبَ , أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) , فَقَالَ الرَّجُلُ : إِنَّمَا هُوَ لَيْسَ مِثْلَنَا . فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ مُنْكَرًا لِقَوْلِ الرَّجُلِ : أَرَأَيْتَ لَوْ عَمِلَ أَعْمَالَ الْبِرِّ كُلَّهَا , كَانَ يَكُونُ مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟.

996: وَأَخْبَرَنِي زَكَرِيَّا بْنُ الْفَرَجِ , عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ , قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ , قِيلَ لَهُ : إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ فَسَّرَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا) , قَالَ : قِيلَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَنَّهُمْ قَالُوا : لَيْسَ مِثْلَنَا . فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ , فَلَوْ أَنَّ رَجُلاً عَمِلَ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ كُلِّهَا , كَانَ يَكُونُ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ لَيْسَ هَذَا التَّفْسِيرُ بِشَيْءٍ , فَحَسَّنَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَوْلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَصَوَّبَهُ.

997: أَخْبَرَنِي أَبُو الْمُثَنَّى مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنْبَرِيُّ , أَنَّ هَارُونَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَزَّارَ حَدَّثَهُمْ قَالَ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا) , فَسَكَتَ , فَقِيلَ لَهُ : لَيْسَ مِنَّا : لَيْسَ مِثْلَنَا ؟ فَأَنْكَرَهُ , وَقَالَ : هَذَا رَوَاهُ مِسْعَرٌ , عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ , ثُمَّ قَالَ : كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَهِمُ فِيهِ , يَقُولُ : عَنْ مِسْعَرٍ , عَنْ حَبِيبٍ , عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ . ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لَوْ أَنَّ رَجُلاً صَامَ وَصَلَّى , كَانَ يَكُونُ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ثُمَّ قَالَ : هَؤُلاَءِ الْمُرْجِئَةُ , يَعْنِي أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ : لَيْسَ مِنَّا وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَوْ مَمْلُوكَهُ فلَيْسَ مِنَّا) , وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ : (لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ , وَلَطَمَ الْخُدُودَ , وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ).

والتفسير الصحيح للحديث أن قوله ( ليس منا ) يعني أنه فاسق ليس من العدول ، وقد قيل هذا جمعاً بين هذه الأدلة والأدلة الواردة في أن الله لا يغفر الله أن يشرك به ويغفر ما دون لمن يشاء

الخطأ الثلاثون : التفريق بين صاحب البدعة والمبتدع

وهذه من مفاريد عبيد الجابري !

فهو يقسم الناس إلى صاحب بدعة وهو من وقع في بدعة ولم تقم عليه الحجة ، ومبتدع ومن قامت عليه الحجة

فمن المعلوم أن مذهب أهل السنة في التبديع ، فيه مراعاة لحال البدعة ظهوراً وخفاءً ، وكونها مكفرة أو مفسقة ، ثم هناك مراعاة لحال المبتدع هل داعية أم ليس بداعية وهذا قول عامة أهل العلم


غير أنني سمعت بعض الناس يقول أن صاحب البدعة غير المبتدع ، وأن صاحب البدعة هو الذي وقع في بدعة ولم تقم عليه الحجة ، والمبتدع هو الذي قامت عليه الحجة


والحق أن السلف ما كانوا يفرقون بين ( مبتدع ) و ( صاحب بدعة ) وأما العقوبة فلها تعلق بكون المرء داعية أو ليس بداعية مع تفاصيل أخرى وليس معنى هذا أن المبتدع غير الداعية لا يعاقب وإنما معناه أن الداعية يخص بمزيد عقوبة


قال حرب الكرماني في عقيدته :" وكذب أصحاب الرأي أعداء الله، بل هم النابتة تركوا أثر الرسول وحديثه وقالوا بالرأي، وقاسوا الدين بالاستحسان، وحكموا بخلاف الكتاب والسنة، وهم أصحاب بدعة جهلة ضلال طلاب دنيا بالكذب والبهتان"


فسماهم هنا ( أصحاب بدعة )


وفي مكان آخر قال ( مبتدعة ضلال ) فدل على أن المعنى عنده واحد

وقال عبد الله بن أحمد في السنة 875 : حدثني روح بن عبد المؤمن المقرئ ، حدثني حرب بن ميمون ، صاحب الأغمية ، قال :   رأيت عمرو بن عبيد يصلي بقوم وهو معهم في الصف ، فسألت ابن فضاء ، فقال : هذا رجل صاحب بدعة .


وعمرو بن عبيد لا يمكن أن يقال أنه لم تقم عليه الحجة فهو رأس في الاعتزال والسلف لا يختلفون في أنه مبتدع ضال


ثم إن السلف قد نصوا على عقوبة ( صاحب البدعة ) فهو في معنى البدع وهو مستحق للتصنيف والعقوبة


قال أبو داود في مسنده 963 : قال حدثنا زائدة بن قدامة الثقفى قال أبو داود وكان لا يحدث قد ريا ولا صاحب بدعة يعرف


وقال ابن وضاح في البدع نا محمد بن سعيد قال نا أسد بن موسى قال نا بعض أصحابنا عن موسى بن أعين عن ليث بن أبي سليم عن الحسن قال :

 لا تجالس صاحب بدعة فأنه يمرض قلبك .

- نا أسد قال بعض أصحابنا عن عبد الملك بن أبي كريمة عن سفيان الثوري قال :

 من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاثة أما أن يكون فتنة لغيره وأما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار وأما أن يقول والله ما أبالي ما تكلموا وأني واثق بنفسي فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه.


وهذا واضح أنه في المبتدع


وقال الآجري في الشريعة ص145:" وقول أئمة المسلمين مثل مالك بن أنس ، والأوزاعي ، وسفيان الثوري ، وابن المبارك وأمثالهم ، والشافعي رضي الله عنه وأحمد بن حنبل ، والقاسم بن سلام ، ومن كان على طريقة هؤلاء من العلماء ، وينبذ من سواهم ، ولا نناظر ، ولا نجادل ولا نخاصم ، وإذا لقي صاحب بدعة في طريق أخذ في غيره ، وإن حضر مجلسا هو فيه قام عنه هكذا أدبنا من مضى من سلفنا"


وقال الآجري في الشريعة 1983 : وحدثنا الفريابي قال : حدثنا إبراهيم بن عثمان المصيصي قال : حدثنا مخلد بن الحسين ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن قال :

 صاحب بدعة لا تقبل له صلاة ولا حج ولا عمرة ولا جهاد ولا صرف ولا عدل


وسواءً وافقنا الحسن أو خالفناه لا شك أنه في هذا السياق إنما يريد المبتدع


وآثار السلف في هذا الباب كثيرة وإنما أريد هنا التنبيه على أن ( صاحب البدعة ) و ( المبتدع ) عند السلف شيء واحد .

 والسني الذي وقع في بدعة خفية لتأويل سائغ لا يسمى مبتدعاً ولا صاحب بدعة إن لم تقم عليه الحجة أو يعرض مع التمكن ووجود سبب الشك في قوله

ولن اعرض في هذه الحلقات للموقف من الجماعات الحزبية المعاصرة والتي هي فرق ، لأن من  علم الموقف من أهل الرأي ومن الجهمية الأشعرية علم الموقف منهم ويبقى النظر إلى من لم يكن جهمياً منهم ولا صاحب رأي فهذا شأنه شأن بقية المعاصرين كل يوزن بميزان السنة العدل وتحزبه بدعة من البدع 
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم