مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: لماذا احتج الإمام الشافعي بقصة ( اذهبوا فأنتم الطلقاء )

لماذا احتج الإمام الشافعي بقصة ( اذهبوا فأنتم الطلقاء )



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

فإن لأهل الحديث معايير دقيقة في قبول الأخبار وردها ونقد خاص في كل خبر ، ولهم تشدد في أحاديث الأحكام لا يكون في أحاديث الفضائل والسير ، كذلك لهم تسامح في الموقوف لا تراه في المرفوعات

هذا الذي لم يفهمه من الباحثين وقد حاولت شرحه في مقالات عديدة ودروس كثيرة ، وهنا مثال جديد عسى أن يكون فيه فائدة للباحث المنصف

قال البيهقي في معرفة السنن والآثار 5682 - أخبرنا أبو عبد الله ، وأبو سعيد قالا : حدثنا أبو العباس ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي قال : سئل أبو حنيفة عن رجل مسلم دخل دار الحرب بأمان فاشترى دارا ، أو أرضا ، أو رقيقا ، أو ثيابا ، فظهر عليه المسلمون ؟ قال : « أما الدور والأرضون فهي من فيء المسلمين وأما الرقيق والمتاع فهو للرجل الذي اشتراه » وقال الأوزاعي : « فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ، فخلى بين المهاجرين وأرضهم ودورهم بمكة ، ولم يجعلها فيئا » وقال أبو يوسف : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن مكة وأهلها وقال : « من أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن » ونهى عن القتل إلا نفرا قد سماهم ، إلا أن يقاتل أحد فيقاتل ، وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد : « ما ترون أني صانع بكم ؟ » قالوا : خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم قال : « اذهبوا فأنتم الطلقاء » ، ولم يجعل منها فيئا قليلا ولا كثيرا ، لا دارا ولا أرضا ولا مالا ، ولم يسب من أهلها أحدا ، وقد قاتله قوم فيها فقتلوا وهربوا فلم يأخذ من متاعهم شيئا ، ولم يجعله فيئا ، وقد أخبرتك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في هذا كغيره ، فهذا من ذلك

أقول : فأنت ترى أن أبا يوسف احتج بقصة ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) وأقره الشافعي على ذلك

وهنا يقف بعض الباحثين متعجباً إذ كيف يحتج الشافعي بخبر منقطع إسنادياً

قال ابن هشام في سيرته قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا كُلُّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدَّعَى فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إلَّا سَدَانَةَ  الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ، أَلَا وَقَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا، فَفِيهِ الدّية مُغَلّظَة، مائَة مِنْ الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَعَظُّمَهَا بِالْآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ 49: 13 ... الْآيَةَ كُلَّهَا. ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ»

فيقال : هذا الخبر مما تلقاه أهل السير بالقبول وهو محل اتفاق بينهم وتسمية القرشيين الذين كانوا بمكة عند الفتح ( الطلقاء ) ثبتت بأخبار صحيحة مما يدل على أن لهذه القصة أصلاً وأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقهم وعفا عنهم حقاً وأنهم اكتسبوا هذه التسمية من تلك الحادثة

قال مسلم في صحيحه 2405- [135-...] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ الْحَرْفَ بَعْدَ الْحَرْفِ ، قَالاَ : حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ ، وَغَيْرُهُمْ بِذَرَارِيِّهِمْ وَنَعَمِهِمْ ، وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَشَرَةُ آلاَفٍ ، وَمَعَهُ الطُّلَقَاءُ ، فَأَدْبَرُوا عَنْهُ ، حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ ، قَالَ : فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ ، لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ، قَالَ : فَالْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ ، فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فَقَالُوا : لَبَّيْكَ ، يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ ، قَالَ : ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ قَالُوا : لَبَّيْكَ ، يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ ، قَالَ : وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ ، فَنَزَلَ فَقَالَ : أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ ، وَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً ، فَقَسَمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالطُّلَقَاءِ ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ : إِذَا كَانَتِ الشِّدَّةُ فَنَحْنُ نُدْعَى ، وَتُعْطَى الْغَنَائِمُ غَيْرَنَا ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ ، فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ، مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ ؟ فَسَكَتُوا ، فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَذْهَبُونَ بِمُحَمَّدٍ تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى ، يَا رَسُولَ اللهِ ، رَضِينَا ، قَالَ : فَقَالَ : لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا ، وَسَلَكَتْ الأَنْصَارُ شِعْبًا ، لأَخَذْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ.
قَالَ هِشَامٌ : فَقُلْتُ : يَا أَبَا حَمْزَةَ ، أَنْتَ شَاهِدٌ ذَاكَ ؟ قَالَ : وَأَيْنَ أَغِيبُ عَنْهُ ؟.

وقال أيضاً 4706- [134-1809] حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ خِنْجَرًا ، فَكَانَ مَعَهَا ، فَرَآهَا أَبُو طَلْحَةَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خِنْجَرٌ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا هَذَا الْخِنْجَرُ ؟ قَالَتْ : اتَّخَذْتُهُ إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، بَقَرْتُ بِهِ بَطْنَهُ ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ ، قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ، اقْتُلْ مَنْ بَعْدَنَا مِنَ الطُّلَقَاءِ انْهَزَمُوا بِكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَى وَأَحْسَنَ.
4707- [...] وحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ أُمِّ سُلَيْمٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ حَدِيثِ ثَابِتٍ.

أقول : فتأمل حضور تسمية ( الطلقاء ) في هذين الحديثين الصحيحين فإن لم تكن حادثة ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) حقيقة فمن أين جاءت هذه التسمية ؟

قال ابن تيمية كما  في جامع المسائل (4/374) :" : من استسلمَ فلم يقاتل فهو آمن. ولهذا سمَّاهم الطُلَقاء، كأنهم أسرَهم ثمَّ أطلقَهم كلَّهم"

فهذه النظرة النقدية الدقيقة هي التي قادت الإمام الشافعي إلى إقرار الاستدلال بهذه القصة المعروفة عند أهل السير

ولا تعارض حديث ( من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن ) فكلاهما من باب واحد وله مناسبته فحديث ( من دخل بيت أبي سفيان ) تأمين مقيد وحديث ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) تأمين مطلق

قال البخاري في صحيحه 2125 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلَالٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو ابنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قُلْتُ أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ قَالَ أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا * تَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ هِلَالٍ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ هِلَالٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ سَلَامٍ {غُلْفٌ} كُلُّ شَيْءٍ فِي غِلَافٍ سَيْفٌ أَغْلَفُ وَقَوْسٌ غَلْفَاءُ وَرَجُلٌ أَغْلَفُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُونًا

الشاهد قوله (لَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ) وقد كان هذا كله في فتح مكة
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي