الاثنين، 5 مايو 2014

تبديد الشبهات العقلية على حد الردة ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

فقد طرح علي أحد أصدقائي إشكالات حول حد الردة طرحها عليه بعض الموسوسين المتأثرين بما يسمى بالفكر الليبرالي ، فأجبت بما يتناسب مع مستوى صاحبي العلمي والعقلي وبدا لي تقييد خلاصة هذه الأجوبة عسى الله أن ينفع بها

فكان مما قلت : أن افتراض حرية الإنسان في العقيدة فرضية باطلة فالمرء عبد ونفسه ليست ملكاً له بل هي ملك لله عز وجل ولو كانت ملكاً له فليدفع ملك الموت إذا جاءه ، فإذا تقرر ذلك فالله عز وجل له حق التصرف التام بما يملك وأن يفرض العقوبة تخرج بها هذه الروح ويأمر عباده المؤمنين بتنفيذها

وهذا الجواب كنت قد استوحيته من قول إياس بن معاوية :" مَا ناظرت بعقلي كُله إِلَّا الْقَدَرِيَّة قلت لَهُم مَا الظُّلم قَالُوا أَن تَأْخُذ مَا لَيْسَ لَك قلت فَللَّه كل شَيْء"

ثم إن مما قلت أن الكفر جريمة وكما أن القوانين البشرية التي يؤمن بها هؤلاء المفتونين تعاقب على الجرائم فالكفر أعظم جريمة يفعلها البشر

وجعل عقوبة عليها في الدنيا من الرحمة بالواقع فيها فإن تسليط عليه يجعله على ذكر لها وعلى تأهب مستمر لتركها ، فأما إذا ترك لكفره أو ضلاله دون نصيحة أو عقوبة فهذا بمنزلة ترك المريض بمرضه دون علاج حتى يهلك ، أو ترك صاحب المرض المعدي يعيش بين الناس ويعديهم بجربه

وقد سمى الله الكفار مجرمين ، والإشكال عند المؤمنين بما يسمى بحقوق الإنسان من وجهين

الأول : عدم التسليم لحكم الله

الثاني : عدم اعتبار الكفر جريمة

وكان من الاعتراضات الضعيفة قولهم ( لو كان إنسان أسلم إسلاماً تقليدياً ثم اقتنع بمذهب آخر كيف تحاسبونه على من لم يختر )

وجوابه : أن الإسلام والفطرة هما الأصل في الإنسان ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه ) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فالفطرة ضرورة يضطرها كل إنسان والوالدان إذا كان كافرين فإنما يغيران مقتضى هذه الضرورة ولكن يبقى في الإنسان التأهب التام للعودة للفطرة

ثم إن من جاءه الإسلام بلا عناء أحق بالعقوبة ممن تعنى إليه ثم تركه

ثم إن رب العالمين أخذ الميثاق على العباد وهم في عالم الذر فالكفر نقض للميثاق وهذه جريمة يستحق عليها المرء العقوبة بحسبها ، وقد اتفق العقلاء على العقوبة الأخروية في حق من بلغه الدليل والمرتد قد بلغه ولا بد

فإنه يكابر دلالة الفطرة والعقل والنص الذي بلغه ( والنص يجمع دلالات هذه كلها )

وكون المرء يقتنع بغير الإسلام بعد أن عرف الإسلام هذه فرضية غير واردة أبداً ، فالفرق بين الكفر والإيمان أعظم من الفرق بين الليل والنهار فمن استواء الأمرين أو زعم أن الليل أنور من النهار كان مكابراً لضرورة الحس

ولهذا قال هرقل :" وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ"

قال ابن القيم في بدائع الفوائد (4/1115) :" ومن ذلك قوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحيكم ثم إليه ترجعون فهذا استدلال قاطع على أن الإيمان بالله تعالى أمر مستقر في الفطر والعقول وأنه لا عذر لأحد في الكفر به البتة"

وكلام ابن القيم هنا يعتبره بعض الجهلة قولاً للغلاة وقد قيد ما قاله هنا في طريق الهجرتين فاستنثنى الكافر الذي لم يعرف إلا الكفر وكان متشوفاً للحق فمع إقراره كافر بالدنيا إلا أنه في الآخرة من أهل الفترة

ويضاف إلى كلام ابن القيم أمر النص فعلى سبيل المثال جهمي خالف دلالة العقل والفطرة والنص على علو الله عز وجل على خلقه هل يكون له عذر على كلام ابن القيم ؟

سؤال أترك إجابته لمن جندوا أنفسهم للدفاع عن أهل التجهم وأذية الموحدين والله حسيبهم

وعوداً على الموضوع الأصل : قد بينت للأخ بالأمس أن حد الردة له نظير في القرآن في قصة أصحاب العجل

قال الله تعالى : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)

فهؤلاء ارتدوا وتابوا ومع ذلك كان من تمام توبتهم استسلامهم للقتل وهذه قصة معروفة كل أصحاب الكتب اليهود والنصارى والمسلمين


فإذا كان قتل المرتد الذي أصر على كفره بعد الاستتابة ظلماً فإن قتل أصحاب العجل كذلك وهم أولى بدرء القتل عنهم فهم تائبون

وإن لم يكن كذلك وهذا يقر به عامة بني آدم يكون قد تم الجواب وسبحان من أعمى بصائر الزنادقة المنكرين لحد الردة عن هذا البرهان الجلي المبطل لاعتراضهم العقلي الذي هو أساس شغبهم في المسألة (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا)

وأحسب أنه لو قدر وجود أناس كأصحاب العجل في هذه الأمة لوجد من يقول ( هم جهال معذورون بجهلهم ما داموا يقرون بالتوحيد لفظاً وإن لم يفهموا معناه )

وقال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)

وهذا برهان آخر من القرآن على حد الردة فمن المعلوم أن هذه الآية كان نذارة لما يحصل بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من ردة من ارتد وتزكية للصديق ومن معه في قتالهم وقد تواتر أنهم كانوا لا يقبلون منهم إلا الإسلام بل صح أن الصديق كان لا يقبل منهم إلا أن يشهدوا على قتلاهم بالنار وقتلى المسلمين بالجنة

ويا ليت شعري اعتقاد أن العقوبة ظلم يقتضي اعتقاد أن العقوبة الأخروية ظلم أيضاً ولا مناص من هذا

ومن باب الجهاد عند القوم ولو كان مفروضاً للدفع فقط لما خص الله المشركين بالذكر عند الجهاد فإن المسلم مشروع له دفع من يصول عليه بالباطل وإن كان مسلماً

وقد أوصيت صاحبي أن يبتعد عن أماكن الشبهات ، وأن يتقي لدينه وأن يكون في مقابل هؤلاء القوم مهاجماً لا مدافعاً فقلت له قل لهم ما تسمونه الحرية المطلقة وحقوق الإنسان محض خرافة فالإنسان ليس شيئاً واحداً ،وهذا الذي تذكرونه لا حقيقة له في الواقع والكفار أول من يخالفه ولو كان حقاً لرفع الظلم الموجود في العالم على تسلطهم عليه الآن بل الظلم يزداد يوماً فيوم وهذا يدلك على أنها محض أساطير يصطادون بها ضعفاء الإيمان ليزعزعوا الثوابت عندهم وليحولوهم إلى نسخ منهم
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم