مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: تعقيب على عطية محمد سالم فيما وافق فيه الأشعرية

تعقيب على عطية محمد سالم فيما وافق فيه الأشعرية



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

قال عطية محمد سالم في شرحه على الأربعين النووية :" وقد عاب أهل السنة على المعتزلة وغيرهم التحسين والتقبيح العقليين، فقالوا: العقل لا يحسن ولا يقبح، ولكن يستحسن ما حسن الشرع، ويستقبح ما قبح الشرع"

أقول : القول بأن العقل لا يحسن ولا يقبح قبل الشرع هو قول الأشاعرة وليس قول أهل السنة ونقله مذهب المعتزلة ونقده له مع إغفاله مذهب الأشاعرة يدل على أنه إما أنه لا يقول بمذهب الأشاعرة أولا يميز بينه وبين مذهب أهل السنة

واعلم رحمك أن الأشاعرة ينفون الحكمة عن أفعال الله عز وجل وينفونها عن التشريعات فحسن الأمر والنهي عندهم لا يدرك إلا بالشرع ولا يدرك العقل ولا الفطرة حسن هذا الأمر أو قبحه ، فلا فرق بين ما أمر الله به وما نهى عنه إلا أنه هذا أمر الله به وهذا نهى عنه إذ لا حكمة فلو أمر الله عز وجل بالزنا لكان حسناً ويجوز عليه ذلك عندهم

فلا يغرنك قولهم ( الحسن والقبح لا يدرك إلا بالشرع ) فإنها عبارة ربما ظن منها الظان تعظيم النصوص وهم أبعد الناس عن ذلك ، بل ما أرادوا إلا نفي الحكمة عن الله عز وجل ، والتزموا لذلك لوازم قبيحة مثل التزامهم أن الله عز وجل يجوز عليه تعذيب الطائعين ، وإثابة العصاة وأنه يجوز عليه الأمر بعبادة الأوثان وأن ذلك يكون حسناً لأن مرجع التحسين إلى الشرع

وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بطلان مذهب الأشاعرة هذا ومن وافقهم في مواطن عديدة من كتبهم

فأولاً نبين أن المذهب الذي تبناه المصنف هو مذهب الأشاعرة الجبرية

قال شيخ الإسلام في الجواب الصحيح (3/3) :" قد تنازع الناس في حسن الأفعال وقبحها كحسن العدل والتوحيد والصدق وقبح الظلم والشرك والكذب هل يعلم بالعقل أم لا يعلم إلا بالسمع وإذا قيل أنه يعلم بالعقل فهل يعاقب منفعل ذلك قبل أن يأتيه رسول على ثلاثة أقوال معروفة في أصحاب الأئمة وغيرهم وهي ثلاثة أقوال لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم فقالت طائفة لا يعرف ذلك إلا بالشرع لا بالعقل وهذا قول نظار المجبرة كالجهم بن صفوان وأمثاله وهو قول أبي الحسن الأشعري وأتباعه من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأبي عبدالله بن حامد والقضي أبي يعلى وأبي المعالي وأبي الوفاء بن عقيل وغيرهم وقيل بل قد يعلم حسن الأفعال"

بين هنا شيخ الإسلام أن ابن عقيل إنما تابع الأشعري في هذه المسألة وقد بين شيخ الإسلام أن هذا القول محدث ومخترع ولم يقل به السلف ، وأنه من الأصول المبتدعة


قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/42) وهو يعدد مقتضيات هذا القول القبيح   :" واستلزامه التسوية بين التثليث والتوحيد في العقل وأنه قبل ورود النبوة لا يقبح التثليث ولا عبادة الأصنام ولا مسبة المعبود ولا شيء من أنواع الكفر ولا السعي في الأرض بالفساد ولا تقبيح شيء من القبائح أصلا وقد التزم النفاة ذلك وقالوا أن هذه الأشياء لم تقبح عقلا وإنما جهة قبحها السمع فقط وانه لا فرق قبل السمع بين ذكر الله والثناء عليه وحمده وبين ضد ذلك ولا بين شكره بما يقدر عليه العبد وبين ضده ولا بين الصدق والكذب والعفة والفجور والإحسان إلى العالم والإساءة إليهم بوجه ما وإنما التفريق بالشرع بين متماثلين من كل وجه وقد كان تصور هذا المذهب على حقيقته كافيا في العلم ببطلانه وأن لا يتكلف رده ولهذا رغب عنه فحول الفقهاء والنظار من الطوائف كلهم فأطبق أصحاب أبي حنيفة على خلافه وحكوه عن أبي حنيفة نصا واختاره من أصحاب أحمد أبو الخطاب وابن عقيل وأبو يعلى الصغير ولم يقل أحد من متقدميهم بخلافه ولا يمكن أن ينقل عنهم حرف واحد موافق للنفاة واختاره من أئمة الشافعية الإمام أبو بكر محمد بن على بن إسماعيل القفال الكبير وبالغ في إثباته وبنى كتابه محاسن الشريعة عليه وأحسن فيه ما شاء وكذلك الإمام سعيد بن على الزنجانى بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعرى القول بنفي التحسين والتقبيح وأنه لم يسبقه إليه أحد وكذلك أبو القاسم الراغب وكذلك أبو عبد الله الحليمى وخلائق لا يحصون وكل من تكلم في علل الشرع ومحاسنه وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين إذ لو كان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهى لم يتعرض في إثبات ذلك لغير الأمر والنهي فقط وعلى تصحيح ذلك فالكلام في القياس وتعليق الأحكام بالأوصاف المناسبة المقتضية لها دون الأوصاف الطردية التي لا مناسبة فيها فيجعل الأول ضابطا للحكم دون الثاني لا يمكن إلا على إثبات هذا الأصل فلو تساوت الأوصاف في نفسها لانسد باب القياس والمناسبات والتعليل بالحكم والمصالح ومراعات الأوصاف المؤثرة دون الأوصاف التي لا تأثير لها "

فنص ابن القيم على أن ابن عقيل إنما تابع الأشعري في هذه المسألة ، وأن نسبة هذا القول لمتقدمي الحنابلة باطلة




قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى الكبرى (6/611) :" لْحُجَّةُ أَنَّهُمْ نَفَوْا التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ الْعَقْلِيَّ وَجَعَلُوا أَحْكَامَ الْأَفْعَالِ لَا تُتَلَقَّى إلَّا مِنْ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ بَيَّنَ بِذَلِكَ تَعْظِيمَهُمْ لِلشَّرْعِ وَاتِّبَاعَهُمْ لَهُ. وَأَنَّهُمْ لَا يَعْدِلُونَ عَنْهُ لِيَثْبُتَ بِذَلِكَ تَسَنُّنُهُمْ، وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ حُسْنُ فِعْلٍ وَلَا قُبْحُهُ، بَلْ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ حَادِثٌ فِي حُدُوثِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ ثُمَّ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأُمَّةِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ مِنْهَا فَمَا مِنْ طَائِفَةٍ إلَّا وَهِيَ مُتَنَازِعَةٌ فِي ذَلِكَ "

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (8/ 432) بعد أن تكلم على مذهب المعتزلة في المسألة :" وَأَمَّا الطَّرَفُ الْآخَرُ فِي " مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ " فَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ:

إن الْأَفْعَالَ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى صِفَاتٍ هِيَ أَحْكَامٌ وَلَا عَلَى صِفَاتٍ هِيَ عِلَلٌ لِلْأَحْكَامِ بَلْ الْقَادِرُ أَمَرَ بِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لِمَحْضِ الْإِرَادَةِ لَا لِحِكْمَةِ وَلَا لِرِعَايَةِ مَصْلَحَةٍ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِالشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَيَنْهَى عَنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَيَنْهَى عَنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تُوصَفُ بِهَا الْأَحْكَامُ مُجَرَّدُ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ فَقَطْ وَلَيْسَ الْمَعْرُوفُ فِي نَفْسِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ وَلَا الْمُنْكَرُ فِي نَفْسِهِ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ. بَلْ إذَا قَالَ: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَنْهَاهُمْ وَيُحِلُّ لَهُمْ مَا يُحِلُّ لَهُمْ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ مَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ بَلْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ لَا مَعْرُوفٌ وَلَا مُنْكَرٌ وَلَا طَيِّبٌ وَلَا خَبِيثٌ إلَّا أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يُلَائِمُ الطِّبَاعَ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي عِنْدَهُمْ كَوْنَ الرَّبِّ يُحِبُّ الْمَعْرُوفَ وَيُبْغِضُ الْمُنْكَرَ. فَهَذَا الْقَوْلُ وَلَوَازِمُهُ هُوَ أَيْضًا قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ أَيْضًا لِلْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ. فَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} كَمَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وَقَالَ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَعَلَى قَوْلِ الْنُّفَاةِ: لَا فَرْقَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَبَيْنَ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَيْسَ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ تَنْزِيهِهِ عَنْ الْآخَرِ وَهَذَا خِلَافُ الْمَنْصُوصِ وَالْمَعْقُولِ"

وقال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية (1/214) :" أما الذي جرأه عليهم فإن هؤلاء المتكلمين الذين لا يقولون برعاية الحكمة في أفعال الله تعالى: كأبي الحسن الأشعري وأصحابه ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب أحمد رحمه الله وغيرهم: كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء ابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني ونحوهم ممن يوافقهم على هذا وعلى نفي التحسين والتقبيح العقليين مطلقا مع أن أكثر الذين يوافقونهم من هؤلاء وغيرهم يتناقضون فيثبتون الحكمة في أكثر ما يتكلمون فيه من  هؤلاء وغيرهم يتناقضون فيثبتون الحكمة في أكثر ما يتكلمون فيه من "مسائل الخلق والأمر" وجمهور الفقهاء يقولون بذلك ويصرح بالتحسين والتقبيح العقليين طوائف
من الفقهاء

كأكثر أصحاب أبي حنيفة وقد ينقلونه عنه وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كأبي الحسن التميم وأبي الخطاب وكأبي نصر السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وطوائف كثيرة من أهل الحديث والفقه والكلام"

وقد ناقض الأشاعرة في هذا الباب المعتزلة فذهبوا إلى إثبات ، فذهبوا إلى إثبات الحسن والقبح العقليين ، ولكنهم غلوا فرأوا أن الحجة قائمة بدون إرسال الرسل ، وأن الثواب والعقاب يقعان وإن لم يتم إرسال الرسل لأن حسن التوحيد وقبح الشرك ثابتان بالعقل

والقول الوسط أن الحسن والقبح يثبتان في العقل والفطرة والشرع ، ولكن العقاب متعلق بورود الشرع

قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/222) :"  قد دل القرآن أنه لا تلازم بين الأمرين وأنه لا يعاقب إلا بإرسال الرسل وأن الفعل نفسه حسن وقبيح ونحن نبين دلالته على الأمرين
 أما الأول ففي قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وفي قوله رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وفي قوله كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء فلم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل بل للنذر وبذلك دخلوا النار وقال تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليك آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين وفي الزمر ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا ثم قال في الأنعام بعدها ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون وعلى أحد القولين وهو أن يكون المعنى لم يهلكهم بظلمهم قبل إرسال الرسل فتكون الآية دالة على الأصلين أن أفعالهم وشركهم ظلم قبيح قبل البعثة وأنه لا يعاقبهم عليه إلا بعد الإرسال وتكون هذه الآية في دلالتها على الأمرين نظير الآية التي في القصص ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فهذا يدل على أن ما قدمت أيديهم سبب لنزول المصيبة بهم ولولا قبحه لم يكن سببا لكن امتنع إصابة المصيبة لانتفاء شرطها وهو عدم مجيء الرسول إليهم فمذ جاء الرسول  انعقد السبب ووجد الشرط فأصابهم سيئات ما عملوا وعوقبوا بالأول والآخر "

وقال شيخ الإسلام في درء التعارض (4/ 332) :" وقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } حجة على الطائفتين وإن كان نفاة التحسين والتقبيح العقلي يحتجون بهذه الآية على منازعيهم فهي حجة عليهم أيضا فإنهم يجوزون على الله أن يعذب من لا ذنب له ومن لم يأته رسول ويجوزون تعذيب الأطفال والمجانين الذي لم يأتهم رسول بل يقولون : إن عذابهم واقع
 وهذه الآية حجة عليهم كما أنها حجة على من جعلهم معذبين بمجرد العقول من غير إرسال رسول
 والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح قد يعلم بالعقول ويعلم أن هذا الفعل محمود ومذموم ودل على أنه لا يعذب أحدا بعد إرسال رسول والله سبحانه أعلم"

تلخيص كلام الشيخين في أمرين

الأول : أنه قوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً لئلا يكون للناس حجة ) قوله ( لئلا يكون للناس ) فيه رد على الأشاعرة الجبرية الذين لا يثبتون في أفعال الحكمة ، وقوله ( وما كنا معذبين ) رد عليهم إذ يجوزون عليه تعذيب الطائعين والأطفال وأن ذلك يكون حسناً منه إذ لا يتعلق بأفعاله حكمة


الثاني : قوله ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) فيه الرد على المعتزلة القائلين بأن الثواب والعقاب يثبت بالعقل وإن لم يرد الشرع

وقال الله تعالى (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء )

وعند الأشاعرة أن الله لو أمر بالفحشاء لم تكن فحشاء وعلى هذا المعنى يتعطل معنى الآية ، إذ أن الله عز وجل يدلل على بطلان دعواهم في بعض الأوامر أن الله أمر بها ، على قبحها طبعاً وعقلاً وأن الله عز وجل لا يأمر بمثل هذا، وهي فاحشة قبل ورود الشرع وجاء الشرع بتبكيتهم عليها وبيان استحالة أن يأمر الله بمثل هذا

هذا الموطن الأول المنتقد من كلام عطية محمد سالم

وأما الموطن الثاني فقوله في شرحه على الأربعين :" فيقول : ( إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ) أي: بعصيانكم وعدم استغفاركم ( ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ) أي: إن استجبتم واستغفرتم، وكذلك هدايتكم لن تنفعني، وعدم هدايتكم لن تضرني! إذاً: تلك التكاليف كلها لمصلحة الإنسان، وهنا يمكن أن يقف الإنسان وقفة طويلة ويناقش المعتزلة في أن العبادات والأحكام غير معللة، وأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل، وأن له أن يكلف الخلق بما شاء، وأرجو من طلبة العلم أن يبحثوا ويتقصوا ذلك، مع أنه ما من أمر أو نهي موجه للخلق إلا وفيه لهم جلب نفع أو دفع ضر، فإنه لا يوجد أمر واحد في كتاب الله أو نهي واحد لا يعود على المكلف بخير"

هنا يقرر أن أفعال الخالف غير معللة ولعل شخصاً سيفهم من كلامه العكس ولكن إذا علمت أن المعتزلة الذين يرد عليهم يعللون أفعال الخالق وتأملت في سياق كلامه علمت أنه يريد نفي التعليل ، ولكنه خصصه بنفي التعليل العائد على الله عز وجل وهذا مذهب المعتزلة

 فالناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال

الأول : نفي الحكمة والتعليل وهو قول الجهمية الأشعرية

الثاني : القول بحكمة تعود على المخلوقات لا الخالق وهو قول المعتزلة على أصلهم في نفي قيام الصفات بالرب

الثالث : وهو قول أهل السنة والجماعة ، فهم يثبتون الحكمة لله سبحانه وتعالى ، وهذه الحكمة تتضمن أمرين :
الأمر الأول: حكمة تعود إليه سبحانه يحبها و يرضاها ، فهو يأمر بما يحب وينهى عما يكره
الأمر الثاني : حكمة تعود إلى عباده هي نعمة عليهم يفرحون بها و يلتذون بها ( مستفاد من بعض الأخوة )

قال ابن القيم في شفاء العليل ص186 :" فانظر كيف اعترف بأنه لا خلاص عن هذه الأسئلة إلا بتكذيب جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم وإبطال جميع الكتب المنزلة من عند الله ومخالفة صريح العقل في أن خالق العالم سبحانه مريد مختار ما شاء كان بمشيئته وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته وأنه ليس في الكون شيء حاصل بدون مشيئته البتة فأقر على نفسه أنه لا خلاص له في تلك الأسئلة إلا بالتزام طريقة أعداء الرسل والملل القائلين بأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام ولا أوجد العالم بعد عدمه ولا يفنيه بعد إيجاده وصدور ما صدر عنه بغير اختياره ومشيئته فلم يكن مختارا مريدا للعالم وليس عنده إلا هذا القول أو قول
الجبرية منكري الأسباب والحكم والتعليل أو قول المعتزلة الذين أثبتوا حكمة لا ترجع إلى الفاعل وأوجبوا رعاية مصالح شبهوا فيها الخالق بالمخلوق وجعلوا له بعقولهم شريعة أوجبوا عليه فيها وحرموا وحجروا عليه فالأقوال الثلاثة تتردد في صدره وتتقاذف به أمواجها تقاذف السفينة إذا لعبت بها الرياح الشديدة والعاقل لا يرضى لنفسه بواحد من هذه الأقوال لمنافاتها العقل والنقل والفطرة والقول الحق في هذه الأقوال كيوم الجمعة في الأيام أضل الله عنه أهل الكتابين قبل هذه الأمة وهداهم إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة: "أضل الله عنها من كان قبلنا فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى" ونحن هكذا نقول بحمد الله ومنه القول الوسط الصواب لنا وإنكار الفاعل بالمشيئة والاختيار لأعداء الرسول وإنكار الحكمة والمصلحة والتعليل والأسباب للجهمية والجبرية وإنكار عموم القدرة والمشيئة العائدة إلى الرب سبحانه من محبته وكراهته وموجب حمده ومقتضى أسمائه وصفاته ومعانيها وآثارها للقدرية المجوسية ونحن نبرأ إلى الله من هذه الأقوال وقائلها إلا من حق تتضمنه مقالة كل فرقة منهم فنحن به قائلون وإليه منقادون وله ذاهبون "



ويلاحظ أن عطية محمد سالم وشيخه محمد الأمين يوافقان الأشاعرة في عدد من مسائل القدر ، والسبب في ذلك النظر في كتب القوم في أصول الفقه فإنهم لا يذكرون إلا قولين قولهم وقول المعتزلة وربما ذكروا بعض أدلة أهل السنة في الرد على المعتزلة ثم جنحوا بالقاريء إلى الجبر

وبعض مقالات القوم قد يطلقها المرء ولا يعرف ما وراءها من البلاء فلا يخليه ذلك من المسؤولية إذ أن اللفظ المجمل الذي يحتمل حقاً وباطلاً إذا تكلم به المرء في مواطن العطب كان مستحقاً للوم فكيف إذا تكلم بألفاظهم الذي لا يستخدمونها إلا بالباطل

قال ابن تيمية _ رحمه الله _ في درء تعارض العقل والنقل (1/254) :" فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل ويراعون أيضا الألفاظ الشرعية فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقا وباطلا نسبوه إلى البدعة أيضا وقالوا إنما قابل بدعة ببدعة وردا باطلا بباطل
 ونظير هذا القصص المعروفة التي ذكرها الخلال في كتاب السنة هو وغيره في مسألة اللفظ ومسألة الجبر"

ويؤخذ على عطية محمد سالم موافقته لشيخه في مسألة شد الرحال والله المستعان
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي