مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: هل كان شيخ الإسلام ابن تيمية يعلم الغيب؟

هل كان شيخ الإسلام ابن تيمية يعلم الغيب؟



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

قال ابن القيم في مدارج السالكين (2/489): "ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم ووقائع فراسته تستدعي سفراً ضخماً أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة وأن جيوش المسلمين تكسر وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام وأن كلب الجيش وحدته في الأموال: وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة، ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام: أن الدائرة والهزيمة عليهم وأن الظفر والنصر للمسلمين وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا فيقال له: قل إن شاء الله فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.

وسمعته يقول ذلك قال : فلما أكثروا علي قلت: لا تكثروا كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ : أنهم مهزومون في هذه الكرة وأن النصر لجيوش الإسلام قال: وأطعمت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر".

هذا الكلام يستدل به بعض سفلة الصوفية ممن لم يفهم الأمر على وجهه، وشيخ الإسلام -رحمه الله- إنما كان يتأول قوله تعالى: ﴿ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور﴾[الحج:60]، فلما تأمل هذه الآية وما فيها من الوعد ورأى انطباقها على حالهم نطق بتلك الكلمات من قوة إيمانه رحمه الله بوعد الله عز وجل، وقد نص ابن كثير على أن سبب قول شيخ الإسلام تلك الكلمة تأوله للآية.

قال ابن كثير في البداية والنهاية (14/28): "وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يحلف للامراء والناس إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الامراء: قل إن شاء الله، فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.

وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى: ﴿ثم بغي عليه لينصرنه الله﴾".

وقال ابن كثير أيضاً في البداية والنهاية (14/18): "واستهل جمادى الاولى والناس على خطة صعبة من الخوف، وتأخر السلطان واقرب العدو، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مستهل هذا الشهر وكان يوم السبت إلى نائب الشام في المرج فثبتهم وقوى جأشهم وطيب قلوبهم ووعدهم النصر والظفر على الاعداء، وتلا قوله تعالى: ﴿ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور﴾[الحج:60] وبات عند العسكر ليلة الاحد ثم عاد إلى دمشق".

فتأمل هذا فإنه نافع ، والفراسة باب غير الكشف الصوفي الذي يدعي فيه بعضهم أنه نظر في اللوح المحفوظ ، أو يجعل كشفه حاكماً على النص أو شرعاً جديداً يتبعه مريديه.

قال شيخ الإسلام كما في مجموعة الرسائل والمسائل (1/42): "وأما خواص الناس فقد يعلمون عواقب أقوام بما يكشفه الله لهم، لكن ليس هذا مما يجب التصديق العام به فإن كثيراً مما يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظاناً في ذلك ظناً لا يغني من الحق شيئاً، وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى كاهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله وأن يزنوا مواجيدهم ومشاهدتهم وآرائهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله لا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن سيد المحدثين المخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد كان تقع له وقائع يردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدث نفسه عن ربه ولهذا أوجب على جميع الخلق إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته في جميع أمورهم الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة لكان مستغنياً عن الرسول في بعض دينه".

فلا غنى عن الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الدين والبلاغ ، وربما ألقي في روع الولي أنه سيحدث أمر ويكون كما ظن ، كما ألقي في روع الصديق أن الذي في بطن امرأته أنثى وكان كما ظن.

وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/218): "فهذه الحكاية إن صحت فهى من جنس أخبار الكهان بشىء من المغيبات وقد أخبر ابن صياد النبي صلى الله عليه و سلم بما خبأ له في ضميره فقال له أنت من إخوان الكهان وعلم تقدمه المعرفة لا تختص يما ذكره المنجمون بل له عدة اسباب يصيب ويخطىء ويصدق الحكم معها ويكذب منها الكهانة ومنها المنامات ومنها الفأل والزجر ومنها السانح والبارح ومنها الكف ومنها ضرب الحصى ومنها الحظ في الأرض ومنها الكشوف المستندة إلى الرياضة ومنها الفراسة ومنها الجزاية ومنها علم الحروف وخواصها إلى غير ذلك من الأمور التى ينال يها جزء يسير من علم الكهان وهذا نظير الأسباب التى يستدل بها الطبيب والفلاح والطبائعى على أمور غيبية بما تقتضيه تلك الأدلة مثال الطبيب إذا رأى الجرح مستديرا حكم بأنه عسر البرء وإذا رآه مستطيلا حكم بأنه أسرع برءا وكذلك علامات البحارين وغيرها ومن تأمل ما ذكره بقراط في علائم الموت رأى العجائب وهى علامات صحيحة مجربة وكذلك ما علم به الربان في أمور تحدث في البحر والريح بعلامات تدل على ذلك من طلوع كوكب أو غروبه أو علامات أخرى فيقول يقطع مطر أو يحدث ريح كذا وكذا أو يضطرب البحر في مكان كذا ووقت كذا فيقع ما يحكم به وكذلك الفلاح يرى علامات فيقول هذه الشجرة يصيبها كذا وتيبس في وقت كذا وهذه الشجرة لا تحمل العام وهذه تحمل وهذا النبات يصيبه كذا وكذا لما يرى من علامات يختص هو بمعرفتها بل هذا أمر لا يختص بالإنسان بل كثير من الحيوان يعرف أوقات المطر والصحو والبرد وغيره كما ذكره الناس في كتب الحيوان والفرس الردىء الخلق إذا رأى اللجام من بعيد نفر وجزع وعض من يريد ان يلجمه علما منه بما يكون بعد اللجام وهذه النملة إذا خزنت الحب في بيوتها كسرته بنصفين علما منها بأنه ينبت إذا كان صحيحا وأنه إذا انكسر لا ينبت فإذا خزنت الكفرة كسرتها بأربعة أرباع علما منها بأنها تنبت إذا كسرت بنصفين وهذا السنور يدفن أذاه ويغطيه بالتراب علما منه بأن الفأر تهرب من رائحته فيفوته الصيد ويشمه أولا فإن وجد رائحته شديدة غطاه بحيث يوارى الرائحة والجرم وإلا اكتفى بأيسر التغطية وهذا الأسد إذا مشى في لين سحب ذنبه على آثار رجليه ليفطيها علما منه بأن المار يرى مواطىء رجليه ويديه وإذا ألف السنور المنزل منع غيره من السنانير الدخول إلى ذلك المنزل وحاربهم أشد محاربة وهم من جنسه علما منه بأن أربابه ربما استحسنوه وقدموه عليه أو شاركوا بينهما في المطعم وأن أخذ شيئا مما يجزيه أصحاب المنزل عنه هرب علما بما يكون إليه منهم من الضرب فإذا ضربوه تملقهم أشد التملق وتمسح بهم ولطع أقدامهم علما منه بما يحصله له الملق من العفو والإحسان وهذا في الحيوان البهيم أكثر من أن نذكره فله من تقدمة المعرفة ما يليق به وللخيل والحمام من ذلك عجائب وكذلك الثعلب وغيره فعلم ان هذا أمر عام للانسان والحيوان أعطى من تقدمه المعرفة بحسبه وأسباب هذه التقدمة تختلف والأمم الذين لم يتقيدوا بالشرائع لهم اعتبار عظيم بهذا وكذلك من قل التفاته واعتناؤه بما جاءت به الرسل فإنه يشتد التفاته ويكثر نظره واعتناؤه بذلك وأما أتباع الرسل فقد أغناهم الله بما جاءت به الرسل من العلوم النافعة والأعمال الصالحة عن هذا كله فلا يعتنون به ولا يجعلونه من مطالبهم المهمة لأن ما يطلبونه أعلى وأجل من هذا ومع هذا فلهم منه أوفر نصيب بحسب متابعتهم الرسل من الفراسة الصادقة والمنامات الصالحة الصحيحة والكشوفات المطابقة وغيرها وهممهم لا تقف عند شىء من ذلك بل هى طامحة نحو كشف ما جاء به الرسل من الهدى ودين الحق في كل مسألة وهذا اعظم الكشوف وأجله وأنفعه في الدارين مع كشف عيوب النفس وآفات الأعمال واما الكشف الجزئي عما أكل فلان وعما أحدثه في داره وعما يجرى له في غده ونحو ذلك فهذا ممالا يعبا به من علت همته ولا يلتفت إليه ولا يعده شيئا على أنه مشترك بين المؤمن والكافر فلعباد الأصنام والمجوس والصابئة والفلاسفة والنصارى من ذلك شىء كثير وذلك لا ينفعهم عند الله ولا يخلصهم من عذابه".

وهذا كلام نفيس غاية في تحرير المسألة.
 
وهذه الأمور مذكورة حتى عن غير ابن تيمية 
 
 قال الماوردي في الحاوي :" كُنْتُ ذَاتَ يَوْمٍ ، وَأَنَا جَالِسٌ بِجَامِعِ الْبَصْرَةِ ، وَرَجُلٌ يَتَكَلَّمُ فَجَمَعَنِي وَأَصْحَابِي حُضُورُهُ ، فَلَمَّا سُمِعَتُ كَلَامَهُ ، قُلْتُ لَهُ : وُلِدْتَ بِأَذْرَبِيجَانَ ، وَنَشَأَتْ بِالْكُوفَةِ ، قَالَ : نَعَمْ .
 فَعَجِبَ مِنِّي مَنْ حَضَرَ ، وَالْقِيَافَةُ ، وَالْفِرَاسَةُ ، غَرِيزَةٌ فِي الطِّبَاعِ يُعَانُ فِيهَا الْمَجْبُولُ عَلَيْهَا ، وَيَعْجِزُ فِيهَا الْمَصْرُوفُ عَنْهَا ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ "

وأيضاً هذا مذكور عن عمر بن الخطاب في أخبار 

مرّ بعمر -رضي الله عنه- سواد بن قارب، ولم يكن يعرفه، فقال: لقد أخطأ ظني، وإنّ هذا كاهنٌ، أو كان يعرف الكهانة في الجاهلية، فلما جلس بين يديه سأله عمر عن ذلك، فقال: صدقت يا أمير المؤمنين كنت كاهناً في الجاهلية

ولا يوجد أحد ينكر أصل كرامات الأولياء أو معجزات الأنبياء وإنما الإشكال في جعل كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء سبباص لعبادتهم أو إدخال الفجار في الأولياء واختراع الكرامات لهم فلا داعي لخلط الأوراق
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي