مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: بيان غلط من غلط على الإمام الشافعي في مسائل التكفير

بيان غلط من غلط على الإمام الشافعي في مسائل التكفير



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

ينسب بعض الدكاترة للإمام الشافعي _ رحمه الله _ أنه قرر: بأن الإنسان لو اخطأ في حكمه على ١٠٠٠ كافر بالإسلام خيرٌ له من الخطأ في الحكم على مسلم واحد بالكفر..تأملوا..

فأقول : هذا التقرير غير معروف عن الشافعي وإنما هو معروف عن أبي حامد الغزالي الذي جنح إلى عدم تكفير المخالفين للأشعري مخالفاً لعدد كبير من أسلافه وإن كان قوله هو المنقول عن الأشعري نفسه 

وهذا التقرير المذكور إذا بحثت لن تجده بهذا الإطلاق إلا عن متكلمي الأشعرية وبعض الزيدية الذين خالفوا عامة متأخريهم

والحق أن معالجة الغلو بالتكفير لا تكون بالجنوح إلى الجانب الآخر فمن علامة الراسخين في العلم أنهم يردون البدعة بالحق ومن علامة الجهال أنهم يردون البدعة ببدعة

وهذا التقرير فيه نظر فإن الحكم على الكافر بالإسلام خطير كما أن الحكم على المسلم بالكفر خطيرٌ أيضاً

بل إن أهل العلم اختلفوا في كفر الخوارج مع تكفيرهم لكثير من أهل القبلة ، ولم يختلفوا في تكفير مرجئة الجهمية الذين شهدوا للكافر المصدق بقلبه ، أو العارف بالإيمان والنجاة في الآخرة

وأما مرجئة أهل الرأي ومن وافقهم فأكثر الخلاف معهم في الفاسق الملي لذا عامة أهل العلم ما كفروهم

وكما أنه يترتب أحكام خطيرة على الشهادة للمسلم بالكفر وجاءت الأخبار في التحذير من ذلك ، فكذلك الشهادة للكافر بالإسلام يترتب عليها أحكام خطيرة جداً

فمن ذلك تحليل الفرج المحرم عليه له ، وجعله يرث المسلم أو يرثه المسلم ولا حق له في ذلك وجعله يدفن في مقابر المسلمين ويصلى عليه ولا حق له في ذلك

وتعطيل حكم المرتد وهذا خطير فمن الظلم للمسلم قبل غيره أن يشهد للكافر بالإسلام فيكون هو والكافر لهما الحقوق نفسها


قال أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق في زوائده على كتاب الورع للمروذي ص89 ط دار الكتب العلمية :" سألت عبد الوهاب عمن لا يكفر الجهمية قلت يا ابا الحسن يصلي خلفه قال لا يصلي خلفه هذا ضال مضل متهم على الاسلام"

وقال أيضاً سألت عبد الوهاب يجالس من لايكفر الجهمية قال لا تجالسون ولا يكلمون المرء على دين خليله

قال ابن شاهين في كتابه اللطيف في مذاهب أهل السنة 28 - قال أحمد قال يزيد قال أبو خيثمة ومن شك في كفر الجهمية فهو كافر

وقال عبد الله بن أحمد في السنة 19 - حدثني غياث بن جعفر ، قال : سمعت سفيان بن عيينة ، يقول : « القرآن كلام الله عز وجل ، من قال : مخلوق ، فهو كافر ، ومن شك في كفره فهو كافر »

وقد نقل حرب الكرماني الإجماع على أن من لم يكفر الجهمية فهو مثلهم ( والمراد من لم يعد قولهم مكفراً أصلاً لا من يفرق بين الإطلاق والتعيين كما شرحته في مقالي توضيح إجماع حرب ، وحتى الذي لا يعد قولهم مكفراً أصلاً لا بد من قيام الحجة عليه )

ومن هذا الباب قول شيخ الإسلام في الصارم المسلول ص578:" وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضا في كفره فإنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى عنهم
والثناء عليهم بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق وأن هذه الأمة التي هي: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وخيرها هو القرن الأول كان عامتهم كفارا أو فساقا ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام"



وقال بو المُظفَّر السَّمعانيُّ في قواطعِ الأدلة (5/13): "كلُّ ما كانَ من أصولِ الدِّينِ, فالأدلةُ عليهِ ظاهرةٌ, والمُخالفُ فيهِ مكَابرٌ,-والقَولُ بِتضلِيلِهِ واجبٌ؟!, والبراءةُ منهُ شرعٌ"

فتأمل قوله ( القول بتضليله واجب )

قال البربهاري في شرح السنة [41] ولا نخرج أحدا من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله، أو يرد شيئا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يذبح لغير الله، أو يصلي لغير الله، فإذا فعل شيئا من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام، وإذا لم يفعل شيئا من ذلك فهو مؤمن مسلم بالاسم لا بالحقيقة.

تأمل قوله ( وجب عليك أن تخرجه من الإسلام )

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب(في الدرر السنية 8/118) لما ذكر المرتدين وفرقهم فمنهم من كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى عبادة الأوثان ومنهم من أقر بنبوة مسيلمة ظنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه في النبوة ومع هذا أجمع العلماء أنهم مرتدون ولو جهلوا ذلك ومن شك في ردتهم فهو كافر .

فتأمل قوله ( من شك في ردتهم فهو كافر )

وهذا نظير ما ذكره في نواقض الإسلام

وقول البخاري وأبي  عبيد القاسم فيمن لا يكفر الجهمية معروف

وهنا أمر مهم وهو  أنك إذا حكمت على شخص بالكفر أو البدعة خطأً فليس من لازم ذلك وقوع العقوبة عليك لأنك قد متأولاً

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (3/283) :" وإذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد شهد بدرا وما يدريك أن الله قد اطلع أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وهذا في الصحيحين وفيها أيضا من حديث الإفك أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة أنك منافق تجادل عن المنافقين واختصم الفريقان فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم إنك منافق ولم يكفر النبي لا هذا ولا هذا بل شهد للجميع بالجنة "

وقال أيضاً كما في مجموع الفتاوى :"  وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ والاتحادية وَنَحْوِهِمْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَتَدَيَّنَ الرَّجُلُ بِدِينِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ دِينًا سِوَى الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ بِمُسْلِمِ"

وقال أيضاً :" وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ يَكُونَ مُسْلِمٌ إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَيْسَ بِمُسْلِمِ. وَمَنْ لَمْ يُحَرِّمْ التَّدَيُّنَ - بَعْدَ مَبْعَثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَلْ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ وَيُبْغِضْهُمْ فَلَيْسَ بِمُسْلِمِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ"

وبناء عليه ينبغي عليك أن تفتح باب العذر للحاكم كما أنك فتحته للمحكوم عليه فهو الآخر له عرض وسيسألك الله عن مقالتك فيه 

وقال ابن القيم في زاد المعاد (3/371) :" وَفِيهَا : أَنّ الرّجُلَ إذَا نَسَبَ الْمُسْلِمَ إلَى النّفَاقِ وَالْكُفْرِ مُتَأَوّلًا وَغَضَبًا لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ لَا لِهَوَاهُ وَحَظّهِ فَإِنّهُ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ بَلْ لَا يَأْثَمُ بِهِ بَلْ يُثَابُ عَلَى نِيّتِهِ وَقَصْدِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ فَإِنّهُمْ يُكَفّرُونَ وَيُبَدّعُونَ لِمُخَالَفَةِ أَهْوَائِهِمْ وَنِحَلِهِمْ وَهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِمّنْ كَفّرُوهُ وَبَدّعُوهُ "

وهذا لا يعني فتح الباب على مصراعيه فلا بد أن يكون الكلام بعلم وعدل ومن تحرى العلم والعدل قدر المستطاع وأخطأ دخل في كلام شيخ الإسلام وتلميذه وأما من سوى ذلك مأثوم مأزور

غير أنه لا يجوز أيضاً إغلاق هذا الباب العظيم من الدين أو إسقاط كبير منه وهو تكفير المرتدين بحجة الورع وأن ذلك أسلم بل الورع يكون في قول كلمة الحق سواءً كانت حكماً بالإسلام أو الكفر وخشية أن يتكلم بما ليس له به علم

وإن لم تقف بينة مرجحة فالتوقف أولى لك من أن تحكم على واقع في الردة بالإسلام فتشهد له شهادة زور يترتب عليها العديد من المفاسد

(ستكتب شهادتهم ويسألون )

قال عياض في الشفا (2/277) :" ولمثل هذا ذهب أبو المعالى  في أجوبته لأبى محمد عبد الحق وكان سأله عن المسألة فاعتذر له بأن الغلط فيها يصعب لأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين"

وهذا الذي نقله عياض عن الجويني أحسن من المنقول عن بعض متكلمي الأشعرية بأن تكفير رجل واحد من أهل القبلة أشد من الحكم بإسلام كافر ويعللون ذلك بأمر الدماء وهذا غلط فلا يلزم من التكفير استحلال الدم بكل حال ، وقد وقع في هذه الأمة من الدماء بين أهل الإسلام ما يعلم المرء أن ذلك حصل بينهم بتأويل مغفور إن شاء الله تعالى

والفيصل أن من دل الكتاب والسنة وأقوال السلف على كفره فلا حرج في تكفيره وليس للورع مدخل هنا فالورع ترك ما قد يضر في الآخرة ، واتباع الكتاب والسنة ومنهج السلف لا يضر أبداً بل النفع كله فيه ، بل الذي يضر جزماً ترك دلالات الكتاب والسنة وأقوال السلف والخلط بين المسلمين والمرتدين

وقد قال الله تعالى : (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)

فالتمييز بين الخبيث والطيب مقصد شرعي جليل ، ونعم طهرت نابتة تغلو بالتكفير وتخترع له الذرائع ويقودهم بعض السفهاء ولكن البدعة لا ترد ببدعة
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي