الخميس، 19 يونيو 2014

تعقيب على الدكتور هشام الصيني فيما وافق فيه المرجئة ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

فقد نظرت في كتاب أقوال الصحابة المسندة في مسائل العقيدة جمعاً ودراسةً وتحقيقاً لكاتبه هشام الصيني وقد بذل فيه جهداً كبيراً وفي عمله خلل بين في باب البحث الإسنادي

غير أنني وجدته قد انتصر لقول المرجئة بجواز قول المرء عن نفسه ( أنا مؤمن ) بدون استثناء اغتراراً بما رواه المرجئة واستنكره الإمام أحمد من رجوع ابن مسعود عن الاستثناء

واغتر بأثر عن عبد الله بن يزيد الأنصاري رواه بعض المرجئة

قال ابن أبي شيبة في الإيمان 31 - حدثنا أبو معاوية ، عن الشيباني ، عن ابن علاقة ، عن عبد الله بن يزيد الأنصاري ، قال : « تسموا باسمكم الذي سماكم الله بالحنيفية ، والإسلام ، والإيمان »

ولم يتبه الباحث إلى أن المنفرد بهذا الأثر هو أبو معاوية مرجيء معروف

وزياد بن علاقة لا يعرف له سماع من عبد الله بن يزيد وقد روى المرجئة عنه عن عبد الله بن يزيد خبراً آخر في نصرة الإرجاء

قال ابن أبي شيبة في المصنف 31015- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ مِسْعَرٍ ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاقَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : إذَا سُئِلَ أَحَدُكُمْ : أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ ؟ فَلا يَشُكُّ فِي إيمَانِهِ.

مسعر مرجيء وتسمية الاستثناء في الإيمان شكاً هو سبيل المرجئة وكل الناس يعرفون أن الإرجاء حدث بعد هزيمة ابن الأشعث ولم يكن الصحابة يعرفون منه شيئاً

على أن عبد الله بن يزيد الأنصاري طعن في صحبته عدد من أهل العلم على رأسهم الإمام أحمد

قال العلائي في جامع التحصيل :" 405 - عبد الله بن يزيد الخطمي قال أحمد بن حنبل ليست له صحبة صحيحة هو شيء يرويه أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي بردة عن عبد الله بن يزيد قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم وضعفه وقال ما أرى ذلك شيئا حكاه الأثرم عنه وكذلك قال مصعب الزبيري أيضا ليست له صحبة وقال أبو حاتم كان صغيرا على عهد النبي صلى الله عليه و سلم فإن صحت روايته فله صحبة قلت أخرج له البخاري أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المثلة والنهبى وذلك يقتضي صحة سماعه وقد قيل إنه شهد الحديبية وهو بن سبع عشرة سنة والله أعلم"

لا يوجد دليل على صحبته ومن نفى أوسع اطلاعاً ممن أثبت والبخاري أورد له حديثاً صح من حديث غيره 

ولست أعني اتهام مسعر بالكذب وإنما يبدو أنه حصل له كما حصل لابن أبي رواد حين مدح المرجئة في آخر خبر ذكره عن ابن عباس فوصل بعض الرواة هذا المدح وجعله من كلام ابن عباس فهذا الكلام أنسب بعصر مسعر ومذهبه غلط من روى عنه ووصله بالرواية التي ذكرها 

ولو فرضنا أن ذلك صحيح عنه فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عن النهي عن قولك ( أنا مؤمن )

قال أبو داود في سننه  4685 : حدثنا أحمد بن حنبل ثنا عبد الرزاق ح وثنا إبراهيم بن بشار ثنا سفيان المعنى قالا ثنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه
 : أن النبي صلى الله عليه و سلم قسم بين الناس قسما فقلت أعط فلانا فإنه مؤمن قال " أومسلم ؟ إني لأعطي الرجل العطاء وغيره أحب إلي مننه مخافة أن يكب على وجهه "

موطن الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقره على شهادته لصاحبه بالإيمان وقال له ( أومسلم ) وهذا مما احتج به علماء أهل السنة على مشروعية الاستثناء وعلى التفريق بين الإسلام والإيمان ( وإن كان القول بالتسوية ) منسوباً لبعضهم وعلى أنه يستثنى في الإيمان ولا يستثنى في الإسلام ( وهذا الذي عليه عامة روايات أحمد )

وليعلم ما يقرره بعضهم من جواز ترك الاستثناء وأن تقول ( مؤمن ) مطلقاً لم يجوزه أحد من السلف بل أنكروا على قائله وإنما يجوزون التقييد كأن تقول ( مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله )


سر الخلاف بين المرجئة وأهل السنة في مسألة الاستثناء هو  حقيقة قول الفريقين في حقيقة الإيمان ، فالمرجئة يقولون بأن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ فقولك ( إن شاء الله ) شك والشك في بعض الإيمان شك فيه كله لأنه لا يتجزأ عندهم والشك كفر لهذا يذكرون في ألفاظ الردة في كتبهم الفقهية ( الحنفية ) قول القائل ( أنا مؤمن إن شاء الله )

وأما أهل السنة فالإيمان عندهم يتجزأ والعمل داخل في مسمىى الإيمان والاستثناء عندهم على العمل فإنهم لا يدرون قبل منهم أم لم يقبل

قال الخلال في السنة 1057: وَأَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَطَرٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ , يَقُولُ : لاَ نَجِدُ بُدًّا مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ ؛ لأَنَّهُ إِذَا قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ فَقَدْ جَاءَ بِالْقَوْلِ , فَإِنَّمَا الاِسْتِثْنَاءُ بِالْعَمَلِ لاَ بِالْقَوْلِ.

ويريد بالقول الشهادتين وقول القلب وإلا فمن أقوال اللسان ذكر الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من العبادات القولية  وهذا لا يجزم المرء بإتيانه به على وجه مقبول منه

قال إسحاق بن راهوية في مسنده (3/671) : أخبرنا محمد بن أعين قال قال بن المبارك وذكر له الإيمان فقال قوم يقولون إيماننا مثل جبريل وميكائيل إما فيه زيادة إما فيه نقصان هو مثله سواء وجبريل ريما صار مثل الوضع من خوف الله تعالى وذكر أشباه ذلك قال فقيل له إن قوما يقولون إن سفيان الثوري حين كان يقول إن شاء الله كان ذاك منه شك .
فقال بن المبارك أترى سفيان كان يسبقني في وحدانية الرب أو في محمد صلى الله عليه وسلم إنما كان استثناءه في قبول إيمانه وما هو عند الله .
قال بن أعين قال بن المبارك والاستثناء ليس بشك ألا ترى إلى قول الله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين وعلم أنهم داخلون قال لو أن رجلا قال هذا نهار إن شاء الله ما كان شكا قال .
وقال شيبان لابن المبارك يا أبا عبد الرحمن ما تقول فيمن يزني ويشرب الخمر ونحو هذا أمؤمن هو قال بن المبارك لا أخرجه من الإيمان فقال على كبر السن صرت مرجئا .
فقال له بن المبارك يا أبا عبد الله إن المرجئة لا تقبلني أنا أقول الإيمان يزيد المرجئة لا تقول ذلك والمرجئة تقول حسناتنا متقبلة وأنا لا أعلم تقبلت مني حسنة
وقال ابن أبي شيبة في الإيمان 22 : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، قال :
 جاء رجل إلى عبد الله فقال : إني لقيت ركبا فقلت : من أنتم ؟ قالوا : نحن المؤمنون.
 قال : فقال : ألا قالوا نحن من أهل الجنة .

وهذا إسناد صحيح وهذا إنكار من ابن مسعود على من يقول ( أنا مؤمن ) فكيف يقال أن ذلك يجوز أو مكروه فقط

بل قال عبد الرحمن بن مهدي ( أصل الإرجاء ترك الاستثناء )

قال الخلال في السنة 965: وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ عَلِيٍّ النَّسَائِيُّ بِحِمْصَ قَالَ : سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ مَنْصُورٍ , يَقُولُ : قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَا مُؤْمِنٌ ؟
 قُلْتُ : مَا أَعْلَمُ رَجُلاً أَثِقُ بِهِ . قَالَ : لَمْ تَقُلْ شَيْئًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَنَا.
966: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : هَلْ عَلَيَّ فِي هَذَا شَيْءٌ , إِنْ قُلْتُ : أَنَا مُؤْمِنٌ ؟ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لاَ تَقُلْ : أَنَا مُؤْمِنُ حَقًّا , وَلاَ الْبَتَّةَ , وَلاَ عِنْدَ اللَّهِ.
967: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : قِيلَ لِي مُؤْمِنٌ أَنْتَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ , عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ هَلْ النَّاسُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ ؟ فَغَضِبَ أَحْمَدُ , وَقَالَ : هَذَا كَلاَمُ الإِرْجَاءِ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ.
968: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , أَنَّ الْفَضْلَ حَدَّثَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ , وَزَادَ : {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}.
969: وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ الأَشْعَثُ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ , قَالَ يَحْيَى : وَكَانَ سُفْيَانُ يُنْكِرُ أَنْ يَقُولَ : أَنَا مُؤْمِنٌ . قَالَ سُلَيْمَانُ : وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ , حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ : قَالَ سُفْيَانُ :
 النَّاسُ عِنْدَنَا مُؤْمِنُونَ فِي الأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ , نَرْجُو أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ , وَلاَ نَدْرِي مَا حَالُنَا عِنْدَ اللَّهِ.

وهذه كلها أخبار صحيحة إلى الإمام أحمد فكيف يقال بعد ذلك أن الإنسان يجوز أن يقول ( أنا مؤمن ) والاستثناء مستحب فقط ، أو إذا كان الإنسان يقصد حاله الآن فإنه يجوز له ترك الاستثناء .
ويا ليت شعري هل يجوز أن يشهد أن حسناته الآن متقبلة إن هذا إلا قول المرجئة

قال الخلال في السنة 974: أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ , قَالَ : سَمِعْتُ إِسْحَاقَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ , قَالَ : الرَّجُلُ يَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا ؟ قَالَ : هُوَ كَافِرٌ حَقًّا.
975: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ , قَالَ : حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ , يَقُولُ : لاَ يُعْجِبُنَا أَنْ نَقُولَ : مُؤْمِنٌ حَقًّا , وَلاَ نُكَفِّرُ مَنْ قَالَهُ.

بل لما قال مسعر بترك الاستثناء مع قوله الإيمان قول وعمل  بدعوه ونسبوه إلى الإرجاء ، فجعله الخلال من المرجئة ، وكذا جعله ابن سعد مرجئاً وهجره الثوري

وقال أحمد ( أرجو ألا يكون مرجئاً ) ، وأحياناً قال ( هذا أسهل ) ولكنه نص على إرجائه في رواية ثابتة عنه

قال الخلال في السنة 994 : أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكَرْمَانِيُّ، قَالَ: قِيلَ لِأَحْمَدَ: مَا مَعْنَى حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، فَلَمْ يُجِبْ فِيهِ. قِيلَ: فَإِنَّ قَوْمًا، قَالُوا: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِثْلَنَا، فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: هَذَا تَفْسِيرُ مِسْعَرٍ وَعَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ، كَلَامُ الْمُرْجِئَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَبَلَغَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ فَأَنْكَرَهُ.
 وَقَالَ:  لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ أَكَانَ يَكُونُ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟

قال حرب في مسائله (3/1015) : وسمعت إسحاق أيضًا يقول: أول من تكلم بالإرجاء زعموا أن الحسن بن محمد بن الحنفية، ثم غلت المرجئة حتى صار من قولهم: إن قومًا يقولون: من ترك المكتوبات، صوم رمضان، والزكاة، والحج، وعامة الفرائض من غير جحود بها إنا لا نكفره يرجأ أمره إلى الله بعد إذ هو مقر فهؤلاء المرجئة الذين لا شك فيهم، ثم هم أصناف، منهم من يقول: نحن مؤمنون البتة، ولا يقول عند الله، ويرون الإيمان قولًا وعملًا، وهؤلاء أمثلهم، وقوم يقولون: الإيمان قول ويصدقه العمل، وليس العمل من الإيمان، ولكن العمل فريضة والإيمان هو القول، ويقولون: حسناتنا متقبلة، ونحن مؤمنون عند الله، وإيماننا وإيمان جبريل واحد. فهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث أنهم المرجئة التي لعنت على لسان الأنبياء.

قوله (فهؤلاء المرجئة الذين لا شك فيهم، ثم هم أصناف، منهم من يقول: نحن مؤمنون البتة، ولا يقول عند الله، ويرون الإيمان قولًا وعملًا، وهؤلاء أمثلهم) يريد به فرقة مسعر فصرح بأنهم مرجئة مع قولهم الإيمان قول وعمل لتركهم الاستثناء

وجاء في الشريعة للآجري 288 - وسمعت أحمد قال : قال يحيى بن سعيد : كان سفيان « ينكر أن يقول : أنا مؤمن »

وقال الأصبهاني في الحجة :" وَيكرهُ لمن حصل مِنْهُ الإِيمان أَن يَقُول: أَنا مُؤمن حَقًا وَمُؤمن عِنْد اللَّه وَلَكِن، يَقُول: أَنا مُؤمن أَرْجُو أَو مُؤمن إِن شَاءَ اللَّه، أَو يَقُول: آمَنت بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى طَرِيق الشَّك فِي إِيمانه، لكنه عَلَى معنى أَنه لَا يضْبط أَنه قد أَتَى بِجَمِيعِ مَا أَمر بِهِ، وَترك جَمِيع مَا نهي عَنهُ، خلافًا لقَوْل من قَالَ: إِذَا علم من نَفسه أَنه مُؤمن جَازَ أَن يَقُول: أَنا مُؤمن حَقًا.
وَالدَّلِيل عَلَى امْتنَاع الْقطع لنَفسِهِ وَدخُول الِاسْتِثْنَاء إِجماع السّلف، قيل لِابْنِ مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِن هَذَا يزْعم أَنه مُؤمن قَالَ: سلوه أَفِي الْجنَّة هُوَ أم فِي النَّار؟ . فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: اللَّه أعلم. فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ: فَهَلا وكلت الأولى، كَمَا وكلت الْآخِرَة
 وَلِأَنَّهُ قد ثَبت أَن الإِيمان جَمِيع الطَّاعَات وَترك الْمُحرمَات، وَهُوَ فِي الْحَال لَا يضْبط أَنه قد أدّى سَائِر مَا لزمَه، واجتنب كل مَا حرم عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يعلم ذَلِك فِي الثَّانِي، فَلَا يجوز أَن يعلم أَنه مُؤمن مُسْتَحقّ للثَّواب.
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/238) :" وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إسْلَامًا بِلَا إيمَانٍ فِي قَوْله تَعَالَى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا وَفِي رِوَايَةٍ قَسَمَ قَسْمًا وَتَرَكَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُعْطَهُ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إلَيَّ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما لَك عَنْ فُلَانٍ؟
 فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مُسْلِمًا.
 أَقُولُهَا ثَلَاثًا وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ} وَفِي رِوَايَةٍ: {فَضَرَبَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي وَقَالَ: أَقَتَّالٌ أَيْ سَعْدٌ} . فَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي نَفَى اللَّهُ عَنْ أَهْلِهِ دُخُولَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ هَلْ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ؟ أَمْ هُوَ مِنْ جِنْسِ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِين وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ؛ وَهُوَ قَوْل حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَقَائِقِ.
قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت هِشَامًا يَقُولُ: كَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ: مُؤْمِنٌ. وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الخزاعي قَالَ: قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: " الْإِيمَانُ " الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ وَالْعَمَلُ إلَّا أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا"

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 319) :" قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَاحْتَجُّوا بِإِنْكَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ .
فَقَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَجُلُّ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: {يَخْرُجُ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَإِنْ رَجَعَ رَجَعَ إلَيْهِ} وَبِمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ: مُؤْمِنٌ؛ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي جَعْفَرٍ الَّذِي حَدَّثَنَاهُ إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنْبَأَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ فضيل بْنِ بَشَّارٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} .
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هَذَا الْإِسْلَامُ وَدَوَّرَ دَارَةً وَاسِعَةً وَهَذَا الْإِيمَانُ وَدَوَّرَ دَارَةً صَغِيرَةً فِي وَسَطِ الْكَبِيرَةِ فَإِذَا زَنَى أَوْ سَرَقَ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العاص}.
 حَدَّثَنَا بِذَلِكَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ شريح بْنِ هَانِئٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجهني أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العاص} .
وَذَكَرَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَجَعَلَ
الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا. قَالَ: فَلَنَا فِي هَؤُلَاءِ أُسْوَةٌ وَبِهِمْ قُدْوَةٌ مَعَ مَا يَثْبُتُ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ اسْمَ الْمُؤْمِنِ اسْمَ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ وَمِدْحَةٍ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} وَقَالَ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} وَقَالَ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وَقَالَ: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} وَقَالَ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} وَقَالَ: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} "

قال شيخ الإسلام كما في أجوبة الاعتراضات المصرية ص143 :" ولهذا صحَّ عند السلف ومن اتبعهم أن يقال عن الفاسق الملّي: ليس بمؤمنٍ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يَسرِق السارقُ حين يَسرِق وهو مؤمن، ولا يشربُ الخمرَ حين يشربُها وهو مؤمن»، ولا يكون ذلك نفيًا لجميع أجزاء إيمانِه، فإن الإيمان عندهم وإن كان مؤلَّفًا من أمورٍ واجبةٍ، فإذا انتفَى بعضُها انتفَى الإيمانُ الواجبُ الذي به يَستحقُّ الجنَّةَ وينجو من النار، ولم يَنتفِ جميعُ أجزاء الإيمان، بل قد يبقى معه بعض أجزائه التي ينجو بها من النار بعد دخولها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه «يَخرجُ من النار من كان في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمان»"

ومسألة الاستثناء في الإيمان غلط فيها كثيرون من المنتسبين للسنة والله المستعان


ولمزيد في المسألة يراجع مقالي ( تحقيق ما ورد عبد الله بن مسعود في توبته من الاستثناء في الإيمان ) ومقالي ( مسائل مهمة في الاستثناء في الإيمان)
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم