الأربعاء، 2 أكتوبر 2013

الرد على « وليد السعيدان » في دعواه الإجماع على أن في البدع صغائر



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
                
            
قال وليد بن راشد السعيدان في كتابه في الإجماعات العقدية:
 "وأجمعوا على أن البدع تختلف أحكامها ، فمنها ما هو مكفر مخرج عن الملة ، ومنها ما هو في عداد الكبائر ، ومنها ما هو في عداد الصغائر ، ومنها ما هو خطأ مغفور وإنما الخلاف في بعض تفاصيل ذلك ، وأما ما ذكرته فهو متفق عليه "

أقول : أما إن صغار البدع إن سميت صغاراً فإنما ذلك مقارنة بغيرها من البدع وإلا فهي كلها كبيرة جاء فيها وعيد

قال الشيخ محمد بن علي بن حسين المكي المالكي (ت1330) في "تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية" (4/354-355 ط دار الكتب العلمية):

"أن البدع على أنها إنما تكون قبيحة منهياً عنها هل لها حكم واحد أم متعدد ؟
طريقتان ذهب بعضهم إلى الأولى:
وأنها لا تكون إلا كبائر وأيدها بأن الصغيرة فضلا عن الكراهة وإن ظهرت في المعاصي غير البدع لا تظهر في البدع وذلك ؛ لأن البدع ثبت لها أمران:
- أحدهما : أنها مضادة للشارع ومراغمة له حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة لا نصب المكتفي بما حد له
- والثاني: أن كل بدعة - وإن قلت - تشريع زائد أو ناقص أو تغيير للأصل الصحيح ، وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقاً بما هو مشروع فيكون قادحا في المشروع ، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عد الكفر ؛ إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير قل أو كثر كفر فلا فرق بين ما قل منه وما كثر فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه وألحقه بالمشروع ، فإذا لم نكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر ؛ لأن الجميع لا تحملها الشريعة لا بقليل ، ولا بكثير لا سيما .
وعموم الأدلة في ذم البدع من غير استثناء ، وكلام السلف يدل على عموم الذم فيها فالأقرب أن يقال : كل بدعة كبيرة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه تتفاوت رتبها إذا نُسِبَ بعضها إلى بعض فيكون منها صغار وكبار إما باعتبار أن بعضها أشد عقابا من بعض فالأشد عقابا أكبر مما دونه ،وإما باعتبار فوت المطلوب في المفسدة فكما انقسمت الطاعة باتباع السنة إلى الفاضل والأفضل لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل انقسمت البدع لانقسام مفاسدها إلى الرذل والأرذل إلى الصغر والكبر من باب النسب والإضافات فقد يكون الشيء كبيرا في نفسه لكنه صغير بالنسبة لما هو أكبر منه فلا ينظر إلى خفة الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها ، وإن دقت بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة ورميها لها بالنقص والاستدراك وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها ،بخلاف سائر المعاصي فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها، بل صاحب المعصية يتنصل منها مقرا لله بمخالفته لحكمها
فحاصل المعصية =أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة
وحاصل البدعة= مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة
ولذلك قال مالك بن أنس من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله خان الرسالة ؛ لأن الله يقول { اليوم أكملت لكم دينكم } إلى آخر الحكاية ومثلها جوابه لمن أراد أن يحرم من المدينة .
وقال : أي فتنة فيها إنما هي أميال أزيدها ، فقال : وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلا قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر الحكاية فإذاً لا يصح أن يكون في البدع ما هو صغيرة بل صار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من المتشابهات كما صار اعتقاد نفي الكراهية التنزيه عنها من الواضحات .
وإلى الطريقة الثانية أعني تعدد حكم البدع مال الإمام أبو إسحاق الشاطبي فقال في كتابه الاعتصام :..."اهـ"

فهنا الشيخ ينقل الخلاف خلافاً لدعوى صاحبنا الإجماع


قال شيخ الإسلام في الرد على الأخنائي ص219:" وهو سبحانه إنما يعبد بما شرع من الدين لا يعبد بما شرع من الدين بغير إذنه فإن ذلك شرك قال الله تعالى { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } والدين الذي شرعه إما واجب وإما مستحب فكل من عبد عبادة ليست واجبة في شرع الرسول ولا مستحبة كانت من الشرك والبدع"

فكيف تكون صغيرة وهي داخلة في الشرك الأصغر

فتأمل وصف شيخ الإسلام كل عبادة أحدثها الناس ولم يأذن بها الله ( وهذا حد البدعة ) أنها ( شرك ) ، ولا يريد الشيخ تكفير أهل البدع فإن الشرك هنا هو الشرك الأصغر ، وهناك من البدع ما هو مكفر مخرج من الملة


وقريب من قول شيخ الإسلام هذا قوله في اقتضاء الصراط المستقيم (2/36) :" وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع ، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضا ، قال تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله ، أو أوجبه بقوله أو بفعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله ، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله "

وهذا الكلام من شيخ الإسلام فيه الرد على من زعم أن بعض البدع لا يفسق فاعلها وإن أقيمت عليه الحجة أو كان داعية ، فكيف يكون الشرك لا يفسق فاعله

وكذلك فيه الرد على من قارن بعض المعاصي ، وبعض البدع وزعم أن بعض المعاصي شرٌ من بعض البدع ، إذ كيف يكون الشرك _ وإن كان أصغراً _ دون المعاصي الشهوانية كالزنا وأكل الربا وشرب الخمر

وممن بين أن البدع شرك _ وإن كان ليس الشرك الأكبر _ لأنها تشريع مع الله سماحة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب حيث قال في رسالته فضل الإسلام :" باب ما جاء أن البدعة أشد من الكبائر17 ]
وقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)"

فاستدل بوعيد الشرك على البدعة ، لأن البدعة شرك

قال  ابن باز في شرحه لكلامه هذا :" والمعنى: أن البدعة أكبر من الكبائر لأنها تنقص للإسلام وإحداث في الإسلام واتهام للإسلام بالنقص، فلهذا يبتدع ويزيد. وأما المعاصي فهي اتباع للهوى وطاعة للشيطان فهي أسهل من البدعة وصاحبها قد يتوب ويسارع ويتعض، أما صاحب البدعة فيرى أنه مصيب وأنه مجتهد فيستمر بالبدعة نعوذ بالله، ويرى الدين ناقص فهو بحاجة إلى بدعته. ولهذا صار أمر البدعة أشد وأخطر من المعصية قال تعالى في أهل المعاصي: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). فأهل المعاصي تحت المشيئة، وأما أهل البدع فذنبهم عظيم وخطرهم شديد لأن بدعتهم معناها التنقص للإسلام وأنه محتاج لهذه البدعة ويرى صاحبها أنه محق ويستمر عليها ويبقى عليها ويجادل عنها نسأل الله العافية"

واعلم أنه من أعظم الناس تناقضاً أولئك يدعون أنهم فيهم غيرةً على شرع الله ، وعلى ما يسمونه ب( الحاكمية ) ، ثم هم يسكتون عن أهل البدع ، الذين يشرعون مع الله عز وجل
 بل العامي إذا حكم بغير ما أنزل الله عز وجل ، في بعض المسائل فإنه لا يكون مستحلاً في عامة أحواله ، ولا داعياً إلى ذلك بخلاف المبتدع ، فالمبتدع أولى بالرد من أئمة الجور بل دلت النصوص على أن أئمة الجور يصبر عليهم ، وأما أهل البدع فيرد عليهم

قال شيخ الإسلام "وكذلك أهل السنة أئمتهم خيار الأمة وأئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الخوارج ونهى عن قتال الولاة الظلمة" (مجموع الفتاوى 7/284)


وشيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (4/225) : "أصل السنة توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وأصل البدع الإشراك بالله شركاً أصغر أو أكبر"

وقال رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل (3/3) : "ولكن البدع مشتقة من الكفر فلهذا كانت معارضة النصوص الثابتة عن الأنبياء بآراء الرجال هي من شعب الكفر وإن كان المعارض لهذا بهذا يكون مؤمنا بما جاء به الرسول في غير محل التعارض"


قال الشوكاني في إرشاد الفحول :" وذهب جماعة إلى أن المعاصي قسم واحد ومنهم الأستاذ أبو إسحاق والجويني وابن فورك ومن تابعهم قالوا إن المعاصي كلها كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة بالنسبة إلى ما هو أكبر كما يقال الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر "

قلت : موطن الشاهد في قوله ( الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر )

وعلى هذا يحمل قول مالك بن مغول :" الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل السنة "

قال ابن القيم في مداراج السالكين (1/322) معلقاً على قوله هذا :" يريد أن البدعة من الكبائر وأنها أكبر من كبائر أهل السنة فكبائر أهل السنة صغائر بالنسبة إلى البدع وهذا معنى قول بعض السلف : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها "

وأما كلام الشاطبي  في ضابط البدعة الصغيرة فالشاطبي نفسه بين أن ذلك نادر ولا يكاد يوجد وإليك الضوابط التي ذكرها لكون البدعة صغيرة

قال الشاطبي في الإعتصام (2/65) :" فعلى هذا إذا اجتمع في البدعة وصفان كونها جزئية وكونها بالتأويل صح أن تكون صغيرة والله أعلم "

قلت : هذا الشرط الأول والشرط الثاني ، والشرط الثاني محل بحثٍ ونظر فإن التأويل مانعٌ من التأثيم فلا ينظر في حجم الجناية مع التأويل إذ أن المرء ليس مؤاخذاً ، والتأويل متعلقٌ بفاعل البدعة لا في البدعة نفسها والبحث في البدعة لا المبتدع

ثم قال في ( 2/66) :" وإذا قلنا إن من البدع ما يكون صغيرة فذلك بشروط أحدها أن لا يداوم عليها فإن الصغيرة من المعاصى لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه "

قلت : هذا الشرط يكاد يلغي التقسيم ويجعل البدع كلها كبيرة فإن المداومة على البدعة هو شأن المبتدعة ، ولو تركها المبتدع تركها شاعراً بالتقصير ، وذلك لأن أهل البدع يرونها قربةً إلى الله

وقد اعترف الشاطبي بهذا فقال :" بخلاف البدعة فإن شأنها في المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها وان تقوم على تاركها القيامة وتنطلق عليه ألسنة الملامة "



وقال :" والشرط الثاني أن لا يدعو إليها فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه "

قلت : هذا الشرط الرابع وعليه فإن البدعة الصغيرة تصبح كبيرةً بالدعوة إليها بأي صورةٍ من الصور ومن أبلغ الدعوة التكتل مع أهلها والثناء عليهم وإرشاد الناس إليهم

وقال الشاطبي :" والشرط الثالث أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس أو المواضع التي تقام فيها السنن وتظهر فيها اعلام الشريعة "

قلت : هذا الشرط يكاد يلغي التقسيم ويجعل البدع كلها كبيرةً فإن الأصل في أهل البدع أنهم يجهرون بها ، وأهل السنة أصلاً لا ينكرون البدعة إلا بعد ظهورها ، علماً بأن هذا الشرط مأخوذ من قياس البدع على المعاصي الشهوانية فالصغائر فيها تصير كبائر بالمجاهرة لحديث :" كل أمتي معافى إلا المجاهرون " رواه البخاري

وقال الشاطبي :" والشرط الرابع أن لا يستصغرها ولا يستحقرها - وإن فرضناها صغيرة - فإن ذلك استهانة بها والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب به فكان ذلك سببا لعظم ما هو صغير "

قلت : هذا الشرط مشكل ويكاد يلغي التقسيم أيضاً فإن الإستصغار والإحتقار إنما يتعلق بالذنوب الشهوانية لأن صاحبها ينظر إليها على أنها ذنوب وأما البدع فصاحبها يعظمها ويجلها لأنها عنده طاعات

وبهذا تكون قد انتهت الشروط التي ضبط بها الشاطبي الصغيرة من البدع ولو تنبه لهذا المقارنون بين صغائر البدع والكبائر الشهوانية لوجدوا أن مقارناتهم لا تقوم على أصل متين

وذلك أن البدعة المستصغرة عندهم تصير كبيرةً بمجرد الجهر بها أو انعدام التأويل أو الدعوة إليها
وهنا نقلٌ عن الشاطبي يصرح فيه بأن البدعة الصغيرة لا تكاد توجد في الواقع

قال الشاطبي في الإعتصام (1/174) :"فقلما تقدم بل تقع منهم على اصلها من الكراهية الا ويقترن بها ما يدخلها في مطلق التأثيم من اصرار وتعليم أو اشاعة أو تعصب أو ما اشبه ذلك فلا يكاد يوجد في البدع بحسب الوقوع مكروه لا زائد فيه على الكراهية والله اعلم"

قلت : وهذه الأمور التي ذكرها الشاطبي وهي التعليم والإشاعة والدعوة والتعصب والإصرار كلها تحيل صغار البدع إلى كبائر عنده فتأمل.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم