الأربعاء، 25 سبتمبر 2013

فتيا سعيد بن المسيب فيما يشبه التورق المصرفي ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد : 

                          
فمن المسائل التي حصل فيها سجال عظيم بين الفقهاء قديماً وحديثاً مسألة التورق وهو أن يشتري سلعة إلى أجل ثم يبيعها على طرف آخر غير الذي اشتراه منه حالاً ، لا يريد السلعة وإنما يريد المال فيستفيد أنه حصل مالاً حالاً ، ويأخذ وقته في سداد المؤجل

وقد أجاز جماعة من الفقهاء هذا اعتماداً على أنهما عقدان منفصلان ، وأن هناك طرفاً ثالثاً ففارقت العينة

ومن منع رأى أن ذلك حيلة على العينة كما ذهب إليه شيخ الإسلام وتبعه تلميذه ابن القيم

غير أن التورق المصرفي المعاصر فيه أمر زائد على التورق الذي اختلف فيه أهل العلم

فهو أولاً عملية منظمة والربح فيها مضمون ، وثانياً البنك الذي تشتري منه السلعة هو نفسه يكون وكيلاً في بيعها أو وسيطاً على الأقل

وعبر بعض إخواننا عن هذه الحال أنه أتي ببعض الأوراق فوقع عليها فقيل له اشتريت ! ، وأتي بأوراق أخرى فوقع عليها فقيل له بعت !

والمخشي منه أن يكون هذا حيلة على الربا فتكون حقيقة الأمر أن البنك أقرضك مالاً حالاً على أن ترده بأكثر منه آجلاً وجعلت هذه السلعة بينهما من باب التحليل والتحيل

كما عبر ابن عباس عن مثل هذا البيع بقوله مال بمال وبينهما حريرة !

وقد وجدت فتيا لسعيد بن المسيب فيما يشبه التورق المصرفي الذي يكون فيه البائع عليك وكيلاً لك أيضاً في بيع السلعة

قال ابن أبي شيبة في المصنف23561- حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ : أَنَّهُ بَاعَ مِنْ أُخْتِهِ بَيْعًا إلَى أَجَلٍ ، ثُمَّ أَمَرَتْهُ أَنْ يَبِيعَهُ ، فَبَاعَهُ ، فَسَأَلْت ابْنَ الْمُسَيَّبِ ؟ فَقَالَ : أبْصِرْ أَنْ يَكُونَ أَنْتَ هُوَ؟ قُلْتُ : أَنَا هُوَ ، قَالَ : ذَاكَ هُوَ الرِّبَا ، ذَاكَ هُوَ الرِّبَا ، فَلاَ تَأْخُذْ مِنْهُ إلاَّ رَأْسَ مَالِكِ.

فداود هنا صار كالمصرف اليوم باع على أخته أولاً ثم أراد أن يصير وكيلاً لها في البيع ، وسعيد أفقه التابعين في البيوع رأى أن هذا ربا وهناك فتيا للحسن مطابقة لفتيا سعيد هذه

وقبل أن أختم المقال أود التنبيه على أمر ، وهو أن المرء إذا بحث مسألة علمية لا بد له أن يتحرى الصواب لا الأسهل على نفسه

ولا يخدعن نفسه فيقول ( الشريعة ميسرة فالقول الأيسر في نفوسنا هو الأصوب ) فإن الشريعة ميسرة نعم وكلها مصالح ولكن نفوسنا ربما دخلها من الهوى ما دخلها فتظن الأيسر والأصوب الموافق لهواها

والله عز وجل يعلم من المصالح ما لا نعلم ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب

والناس اليوم يستحدثون أحوالاً وتشديدات ما أمرهم الله بها بل أمرهم بخلافها ، ثم يتكلفون تحليل الحرام لأجل هذه الأمور

فاستحدث الناس غلاء المهور والاسراف في الأفراح ثم صاروا يتكلفون الولوغ في المعاملات المشبوهة لتأمين المبالغ المطلوبة ، حتى أنك إذا جئت تكلم بعض الناس في هذه المسألة رأيت مسحة الهوى بينة في منطقه حتى لكأنه يقول ( لا تضيق علينا )!

وأخيراً : أهل العلم من أهل الحديث والأثر والذين هم أيضاً أهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل وما ذكرهم بغير هذا فهو على غير السبيل ، غير أن المخالفة العلمية لا تعد طعناً إلا عند أهل الجهل والسفه

والعالم مهما بلغ من المنزلة فلن يصل إلى رتبة العصمة ، وما دام نازلاً عن محل العصمة فأقواله يستدل لها ولا يستدل بها ، وإذا ظهر لك في مسألة خطؤه أو زل به ورأيت الدليل خلاف قوله وجب عليك ترك قوله فإن تشبثت بقوله بعد هذا فقد قارفت الهوى المردي ، ولا تبرأ لك ذمة بذلك ولا تقل كما يقول جهلة العامة ( ضعها في ظهر عالم واخرج منها سالماً )

تأمل هذا جيداً ففيه السلامة من غلو الغالين وجفاء الجافين.
 هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم