الخميس، 26 سبتمبر 2013

نقد الدعوة إلى الوطنية



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

                           
فإن الدعوة إلى «الوطنية» وأخوة المواطنة لا تقل خطورةً عن الدعوة إلى القومية العربية، بل هي أخطر، لما فيها من مزيد تشتيت لجمع المسلمين وتحزيبهم، وقد قال الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾، ومما يستدل به دعاة هذا المذهب ، الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «حب الوطن من الايمان»، وهذا الحديث لا أصل له، بل إن حب الوطن أمرٌ غريزي لا يترتب عليه حمدٌ ولا ذم حتى يرى مآل هذه المحبة.

قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة «1/110-ح:36»: «حب الوطن من الإيمان»؛ موضوع، كما قال الصغاني (ص 7) وغيره، ومعناه غير مستقيم إذ إن حب الوطن كحب النفس و المال و نحوه ، كل ذلك غريزي في الإنسان لا يمدح بحبه و لا هو من لوازم الإيمان، ألا ترى أن الناس كلهم مشتركون في هذا الحب لا فرق في ذلك بين مؤمنهم و كافرهم؟.ا.هـ.



وقال  ابن عثيمين «في شرح البيقونية ص70»: ومثله «حب الوطن من الإيمان» وهو مشهور عند العامة على أنه حديث صحيح، وهو حديث موضوع مكذوب، بل المعنى أيضاً غير صحيح بل حب الوطن من التعصب.ا.هـ.

أقول : يعني بقوله «من التعصب» إذا ترتب عليه ولاء وبراء غير شرعيين.

وقال محمد رشيد رضا  في مجلته المنار «2/391»: وذلك كحديث حب الوطن من الإيمان الذي لا يفهم منه بعد التأويل والتحليل إلا الحث على تفرق ( الجامعة الإسلامية ) التي تنشد ضالتها الآن ، فإنه يقضي بتفضيل مسلمي مصر مثلاً على من سواهم ، وأن من في الشام يفضِّل إخوته هناك على غيرهم ، وهكذا ، وهو الانحلال بعينه والتفرق المنهي عنه والله يقول: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ ولم يقيد الأخوة بمكان ، ويقول: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ وأقل ما فيه تفويت فضيلة الايثار.ا.هـ.

أقول : ومحمد رشيد رضا مع عقلانيته الجامحة وانحرافه عن السنة إلا أنه هنا قد أجاد.

وقد ذكر ابن علان «في دليل أرباب الفالحين 4/498» أن جمعاً من العلماء حملوا حديث «حب الوطن من الإيمان» على الجنة، ولا حاجة إلى هذا التأويل مع ضعف الحديث.

وقال ابن عثيمين «في شرح رياض الصالحين 1/42»: وما يذكر من أن «حب الوطن من الإيمان» وأن ذلك حديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم كذب.…حب الوطن إن كان لأنه وطن إسلامي فهذا تحبه لأنه إسلامي , ولا فرق بين وطنك الذي هو مسقط رأسك ، أو الوطن البعيد من بلاد المسلمين ؛ كلها وطن الإسلام يجب أن نحميه.ا.هـ.

ويروى عن عمر أنه قال: «لولا حب الوطن لخرب بلد» ولم أقف عليه مسنداً ، ولو صح لما كان فيه حجة لهذا المذهب ، فغاية ما فيه ذكر فائدة هذا الحب الفطري، ويحتج أصحاب هذه الدعوة بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾، فقالوا : امتحنهم بالخروج من أوطانهم مما يدل على استحباب محبتها وأن ذلك من الإيمان.

والجواب : أن هذه المحبة فطرية ، وقد قرنت محبة الوطن هنا بمحبة النفس ، فهل من قائل أن حب النفس من الايمان؟

ولهذه الحزبية الوطنية مفاسد كثيرة يصعب حصرها.

منها: الولاء والبراء الضيق ، وذلك له مظاهر من أسوأها بغض السلفي للسلفي أو على الأقل نفرته منه من أجل أنه من بلد له مع بلده بعض المشاكل السياسية التي أوجبت نفرةً بين الشعبين ، وذلك كيرٌ ينفخ فيه الساسة القوميون ، وللأسف يؤثر ذلك على بعض أهل الاستقامة.

ومنها : تعطيل بعض الأوامر الشرعية ، مثل الهجرة من الديار التي لا يتمكن المرء من إقامة دينه فيها ، أو يفشو فيها البدع والمعاصي إلى بلد يسلم فيه المرء على دينه ، بحجة حب الوطن والولاء للأرض!

ومن مظاهر هذا الأمر دعوة بعضهم إلى ترك تسمية أهل البدع حفاظاً على الوحدة الوطنية! ودعوة بعضهم إلى إقرار بناء الكنائس حفاظاً على اللحمة الوطنية ! ودعوة بعضهم إلى تذويب الخلافات العقدية والفقهية حفاظاً على الوحدة الوطنية!

وقد قال الله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

ومنها: حرف مسار الجهاد في سبيل الله ، إلى الجهاد من أجل الأرض! وهذا كثيرٌ في أطروحات القوميين بل والحزبيين الاسلاميين -زعموا-.

قال ابن أبي شيبة في المصنف «35585» : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ أَتَتْهُ الْجُنُودُ وَعَلَيْهِ إزَارٌ وَخُفَّانِ وَعِمَامَةٌ وَهُوَ آخِذٌ بِرَأْسِ بَعِيرِهِ يَخُوضُ الْمَاءَ ، فَقَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، تَلْقَاك الْجُنُودُ وَبَطَارِقَةِ الشَّامِ وَأَنْتَ عَلَى هَذِه الْحَالِ ، قَالَ : فَقَالَ عُمَرُ : إنَّا قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالإِسْلاَمِ فَلَنْ نَلْتَمِسَ الْعِزَّ بِغَيْرِهِ.

وقال محمد بن صالح العثيمين «في شرح رياض الصالحين 1/17»: قال أهل العلم: ويجب علي المسلمين أن يكون منهم جهاد في العام مرة واحدة ، يجاهد أعداء الله ؛ لتكون كلمة الله هي العليا ، لا لأجل أن يدافعوا عن الوطن من حيث إنه وطن، لأن الدفاع عن الوطن من حيث هو وطن يكون من المؤمن والكافر ، حتى الكفار يدافعون عن أوطانهم ، لكن المسلم يدافع عن دين الله ، فيدافع عن وطنه ؛ لا لأنه وطنه مثلاً ، ولكن لأنه بلد إسلامي ؛ فيدافع عنه حماية للإسلام الذي حل في هذه البلد.. .

ولذلك يجب علينا في مثل هذه الظروف التي نعيشها اليوم النبي صلي الله عليه وسلم يجب علينا أن نذكر جميع العامة بأن الدعوة إلي تحرير الوطن ، وما أشبه ذلك دعوة غير مناسبة ، وأنه يجب أن يعبأ الناس تعبئة دينية ، ويقال إننا ندافع عن ديننا قبل كل شيء ؛ لأن بلدنا بلد دين، بلد إسلام يحتاج إلي حماية ودفاع ، فلابد أن ندافع عنها بهذه النية.

أما الدفاع بنية الوطنية ، أو بنية القومية ، فهذا يكون من المؤمن والكافر ، ولا ينفع صاحبه يوم القيامة ، وإذا قتل وهو يدافع بهذه النية فليس بشهيد ؛ لأن الرسول صلي الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية ، ويقاتل شجاعة ، ويقاتل ليري مكانه أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».

انتبه إلي هذا القيد «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا» لا لأنه وطنه وإذا كنت تقاتل لوطنك ؛ فأنت والكافر سواء ، لكن قلت لتكون كلمة الله هي العليا، ممثلة في بلدك؛ لأن بلدك بلد إسلام؛ ففي هذه الحال يكون القتال قتالاً في سبيل الله.ا.هـ.



وقال أيضاً «1/44» : ونرجو منكم أن تنبهوا على هذه المسألة ؛ لأننا نري في الجرائد والصحف: الوطن ! الوطن ! الوطن ! وليس فيها ذكر للإسلام ، هذا نقص عظيم، يجب أن توجه الأمة إلى النهج والمسلك الصحيح ، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يجب ويرضي.ا.هـ.

أقول : ومن هذا الذي حذر منه الشيخ ابن عثيمين، ما يحصل في قناة الرحمة لـ«محمد حسان» من وضع الأناشيد الوطنية التي تتضمن عبارات مثل «أفديك بروحي يا وطني» ، وهذا ضلالٌ مبين ، ولم يؤثر عن أحد من السلف أنه تلفظ بهذه العبارات ، بل هي دعوةٌ صارخة للميتة الجاهلية والله المستعان.

و«محمد حسان» نفسه كان يصيح في بعض كلماته «الله ثم وطننا ، ديننا ثم وطننا» ، وهذه العبارة لم تؤثر عن أحد من السلف بل لم يؤثر ما هو أعم منها كقوله: «الله ثم العرب» فهذه دعوةٌ للحزبية الوطنية الجاهلية.

وهل يجوز محمد ابن حسان أن يقول أحد «الله عز وجل ثم قبيلتي»؟ وحب القبيلة غريزي ، وأقوى من حب الوطن عند عموم الأعراب.

ولا أدري أين ذهبت قطبية «محمد حسان»، فسيد قطب كان يعتبر الدعوة إلى الوطنية من الدعوات إلى عبادة الأوثان!!

قال سيد في ظلاله «3/339»: على أننا نرى في زماننا هذا صنوفاً وألواناً من الشرك؛ ممن يزعمون أنهم يوحدون الله ويسلمون له ، ترسم لنا صورة من مدارج الشرك التي ترسمها هذه النصوص.

إن الناس يقيمون لهم اليوم آلهة يسمونها « القوم » ويسمونها «الوطن» ، ويسمونها «الشعب» . . إلى آخر ما يسمون . وهي لا تعدو أن تكون أصناماً غير مجسدة كالأصنام الساذجة التي كان يقيمها الوثنيون . ولا تعدو أن تكون آلهة تشارك الله - سبحانه - في خلقه ، وينذر لها الأبناء كما كانوا ينذرون للآلهة القديمة ! ويضحون لها كالذبائح التي كانت تقدم في المعابد على نطاق واسع!.ا.هـ.

أقول : فـ«محمد حسان» في ميزان سيد قطب كمن يقول :«الله ثم اللات والعزى»! فهو داعية وثنية في تصور سيد قطب ومن يقلده!

وهنا تلبيس شيطاني ، يلبس به على بعضهم ، وهو أنه يجد لبلده الذي يسكنه بعض الفضائل ، فيتعصب لهذا البلد تعصباً غير شرعي ، ويعلل ذلك بما ورد لبلده من الفضائل.

وهذا يقال له: أن الأمر إذا كان كذلك فينبغي أن تحب كل بلدٍ وردت له الفضائل، وكل قبيلة وتتعصب له أو لها.

فإن كنت شامياً ، فاعلم أن لمكة والمدينة واليمن أيضاً فضائل كثيرة، وإن كنت أنصارياً تحتح بفضائل قومك ، فاعلم أن لقريش فضائل كثيرة، وعليه فعليك أن تخص القرشي بمزيد موالاة ، إن لم يمنع من ذلك مانع «كابتداع أو فسق» وإن كان أعجمياً.

قال شيخ الاسلام في منهاج السنة «4/300» : ولا ريب أنه لآل محمد -صلى الله عليه وسلم - حقا على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة مالا يستحقه سائر بطون قريش كما أن قريشا يستحقون من المحبة والمالاة مالا يستحقه غير قريش من القبائل كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والموالاة مالا يستحقه سائر أجناس بني ادم وهذا على مذهب الجمهور الذين يرون فضل العرب على غيرهم وفضل قريش على سائر العرب وفضل بني هاشم على سائر قريش وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره.ا.هـ.

ثم إن ما ورد لبعض البلدان من الفضائل لا ينبغي أن يستدل به على فضل بعض ساكنيها ، إذا ورد منهم ما يخالف الشرع ، فإن مخالفتهم للشرع اختيارية ، وانتسابهم إلى بلدٍ ما في عامة أحواله لم يقع اختياراً ، من هذا تعلم سفه بعض يأتي بفضائل الشام مثلاً ، وينزلها على بعض أهل الإحداث من أهل هذا البلد!

والأرض المقدسة لا تقدس أحداً كما روي عن سلمان « ولا يصح لانقطاعه وهو عند مالك في الموطأ » ، فلا ينفعه كونه شامياً ، أو يمانياً إذا أحدث في دين عز وجل ، كما لا تنفع القرشي قرشيته إذا أحدث مع كل ما لقريش من الفضائل.

وأخيراً أقول : كل ما قاله أهل العلم في نقد الدعوة إلى القومية العربية ، ينبغي أن ينزل من باب على الدعوة إلى الوطنية ، فإن جنس العرب أفضل من جنس غيرهم باتفاق أهل السنة «نقله شيخ الاسلام في الاقتضاء (1/148)» ، ومع ذلك ذم العلماء الدعوة إلى القومية العربية، والدعوة إلى الوطنية أضيق وأبعد عن الشبهة.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم