الجمعة، 27 سبتمبر 2013

التنبيه على كلمات مشكلة في متن الفقه الأكبر المنسوب لأبي حنيفة



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

                           
جاء في كتاب الفقه الأكبر المنسوب لأبي حنيفة ص301 :
 "وصفاته الذاتية والفعلية، أما الذاتية فالحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة.
 وأما الفعلية فالتخليق والترزيق والإنشاء والإبداع والصنع وغير ذلك من صفات الفعل لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته"
 القول بأن صفة الكلام ذاتية مشكل بل باطل لأن صفة الكلام ذاتية فعلية ، فالله يتكلم بما شاء متى شاء.
 قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، والقول بأن صفة الكلام ذاتية إنما يجري على أصول الكلابية القائلين بالكلام النفسي فالكلام عندهم لا يتعلق بالمشيئة، وحتى السمع والبصر هي قديمة النوع حادثة الآحاد.

قال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح العقيدة الواسطية :" الأشاعرة والماتريدية وجماعات يقولون سمعه قديم، يثبتون السمع ولكن السمع عندهم ليس بحادث، السمع قديم، فسمع الكلام في القدم لعلمه به هكذا يزعمون.
وهذا الكلام فيه التكذيب للقرآن ولولا التأويل لكانوا كفارا بذلك ، لأن الله جل وعلا يقول ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ وقال ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ﴾ وإذا كان السماع في الماضي قبل مجيء الكلام وقبل حصوله وقبل حصول المجادلة بين المرأة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يصح أن يقال ﴿قَدْ سَمِعَ﴾ بصيغة الماضي؟

وإنما يقال: ﴿قَدْ سَمِعَ﴾ إذا كان الأمر قد وقع وانتهى ولهذا قال نجد في النصوص لفظ الماضي ولفظ المضارع فقد يكون في إثبات السمع القديم البصر القديم دون البصر الحادث والسمع الحادث والكلام الحادث فيه نفي لدلالات النصوص وفيه تكذيب لها لأن الله جل وعلا يقول: ﴿قَدْ سَمِعَ﴾ وهؤلاء يقولون سمعه قديم .

كيف ؟ سمع في القدم قبل حدوث الكلام ؟
هذا لا يصح أن يقال: ﴿قَدْ سَمِعَ﴾.
قال جل وعلا ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ هذا فعل مضارع دلالته على الحال يعني يسمع تحاوركما الآن .
قد قالت عائشة: (سبحان من وسع سمعه الأصوات، أتت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجادله في زوجها وليس بيني وبينها إلا جدار لم أسمعها).
الله يسمع ، حين الكلام سمع ذلك جل وعلا .
وهذا ما يثبته أهل السنة والجماعة ، هذا ولا شك يعظم الصفة في نفس المؤمن لأنه يعلم أن الله جل وعلا يسمع سره ونجواه ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ﴾ يسمع جل وعلا السر والنجوى فلا يخفى عليه شيء ، سمعه وسع الأصوات ، ما من شيء يُسْمَع إلا والله جل وعلا يسمعه ، يسمع صوت دبيب النمل فوق الصفا ، وهذه الصفة يجب الإيمان بها كما ذكرت بدلالاتها".

أقول : وهذا الكلام الذي ذكره الشيخ صالح في صفة السمع والبصر يقال أيضاً في صفة الإرادة إذ أن لها آحاداً حادثة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية كلاماً لابن رشد الفيلسوف ينقض فيه مذهب المتكلمين القائل بأن الله عز وجل أراد بإرادة قديمة جميع المحدثات.

وقال الشيخ صالح الفوزان في التعليقات المختصرة على العقيدة الطحاوية: "وأما أفعاله سبحانه، فهي قديمة النوع حادثة الآحاد"، وعلى قول الشيخ هذا يصح إطلاق (قديمة النوع حادثة الآحاد) في جميع الصفات الفعلية.
 من هذا تعلم خطأ الشيخ الدكتور محمد الخميس حين أورد هذا النص في كتابه اعتقاد الأئمة الأربعة على أنه اعتقاد سلفي، وكذلك أحمد النجار في كتاب له في القواعد في الأسماء والصفات، وهناك نصوص أخرى مشكلة أو باطلة في كتاب الفقه الأكبر المنسوب لأبي حنيفة.

فمن ذلك قوله:
"ولفظنا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق وكتابتنا لَهُ مخلوقة وقراءتنا لَهُ مخلوقة وَالْقُرْآن غير مَخْلُوق"
 وهذا قول اللفظية الذين بدعهم السلف ، وهذا من براهين بطلان نسبة هذه الرسالة لأبي حنيفة فإنه لم يدرك مبحث اللفظ هذا.
 ومن ذلك قوله في الفقه الأكبر :
" وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وهم فِي الْجنَّة بأعين رؤوسهم بِلَا تَشْبِيه وَلَا كَيْفيَّة وَلَا يكون بَينه وَبَين خلقه مَسَافَة".

فنفي وجود المسافة إنما يجري على أصول القائلين بأنه يرى إلى غير جهة وهو قول الأشعرية الجهمية ومذهب السلف أن الإثبات والنفي بحسب الوارد بالنصوص ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم رؤية الله عز وجل برؤية القمر ، والقمر يرى بالبصر وهو فوقنا.

 ومن ذلك قوله:
"والأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام كلهم منزهون عَن الصَّغَائِر والكبائر وَالْكفْر والقبائح وَقد كَانَت مِنْهُم زلات وخطايا".

القول بتنزيه الأنبياء عن الصغائر هو قول الأشاعرة، وقد بينت بطلانه في الرد على الداني آل زهوي.

وقوله :
" وَمُحَمّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حَبِيبه وَعَبده وَرَسُوله وَنبيه وَصفيه ونقيه وَلم يعبد الصَّنَم وَلم يُشْرك بِاللَّه تَعَالَى طرفَة عين قطّ وَلم يرتكب صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة قطّ".
 هذا يخالف القرآن في قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)، وقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)، ويخالف الأحاديث الكثيرة ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فِي سُجُودِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ ، وَجِلَّهُ ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلاَنِيَتَهُ وَسِرَّهُ) رواه مسلم.

وكذلك قوله في الفقه الأكبر:
"وَالْقُرْآن منزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي الْمَصَاحِف مَكْتُوب وآيات الْقُرْآن فِي معنى الْكَلَام كلهَا مستوية فِي الْفَضِيلَة وَالْعَظَمَة الا ان لبعضها فَضِيلَة الذّكر وفضيلة الْمَذْكُور مثل آيَة الْكُرْسِيّ لِأَن الْمَذْكُور فِيهَا جلال الله تَعَالَى وعظمته وَصِفَاته فاجتمعت فِيهَا فضيلتان فَضِيلَة الذّكر وفضيلة الْمَذْكُور ولبعضها فَضِيلَة الذّكر فَحسب مثل قصَّة الْكفَّار وَلَيْسَ للمذكور فِيهَا فضل وهم الْكفَّار وَكَذَلِكَ الْأَسْمَاء وَالصِّفَات كلهَا مستوية فِي العظمة وَالْفضل لَا تفَاوت بَينهَا".

القول بأن آيات القرآن مستوية في الفضيلة هو قول الأشاعرة ويدفع ذلك حديث أبي في فضل آية الكرسي ، والأحاديث في فضل سورة الإخلاص وما ذكره في الفضل تأويل لحقيقة الفضيلة.

وكذلك القول بأن أسماء الله مستوية في الفضل هو قول الأشعري ويدفعه الأخبار الواردة في اسم الله الأعظم، وقوله: (وَالْإِيمَان هُوَ الْإِقْرَار والتصديق) وهذا تعريف مرجئة الجهمية والمعروف أن أبا حنيفة كان من مرجئة الفقهاء.

وقوله: (وَلَيْسَ قرب الله تَعَالَى وَلَا بعده من طَرِيق طول الْمسَافَة وقصرها وَلَكِن على معنى الْكَرَامَة والهوان والمطيع قريب مِنْهُ بِلَا كَيفَ والعاصي بعيد مِنْهُ بِلَا كَيفَ والقرب والبعد والإقبال يَقع على المناجي وَكَذَلِكَ جواره فِي الْجنَّة وَالْوُقُوف يين يَدَيْهِ بِلَا كَيْفيَّة)
 وهذا تأويل للقرب والبعد بل هو قرب وبعد حقيقي.

قال البخاري في صحيحه [  2441 ]:
 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ:
 بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى ؟
فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ .
قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾.

وقال الخلال في السنة [  320]:
 حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلاَّدٍ الْبَاهِلِيُّ , قَالَ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ , عَنْ مَنْصُورٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ :
 ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى﴾ قَالَ : ذَكَرَ الدُّنُوَّ حَتَّى يَمَسَّ بَعْضَهُ.
321: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَرِيكٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي , قَالَ : حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ , قَالَ : حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ , قَالَ : سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ :
 وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى﴾ قَالَ : ذَكَرَ الدُّنُوَّ مِنْهُ.

والخلاصة أن الملحوظات على هذا الكتاب ليست محصورةً في باب الإيمان والواقع أنه يبعد جداً صحة نسبة هذا الكتاب لرجل عاش في ذاك الزمان.
 وقد أحسن الدكتور الخميس حيث لم يورد عامة هذه العبارات في كتابه (اعتقاد الأئمة الأربعة) وأخطأ في إيراده العبارة المتعلقة بكون صفة الكلام والسمع والبصر صفات ذاتية .
علماً أنه أخطأ في إهماله لمسألة النبوات في الجمع وقد صنف الكتاب ليثبت أن اعتقاد الأئمة الأربعة واحد إلا في مسائل الإيمان غير أن كتاب الفقه الأكبر الذي اعتمده ينغص على ذلك كثيراً، بل وحتى كتاب الفقه الأبسط ففيه قوله :" يَد الله فَوق أَيْديهم لَيست كأيدي خلقه وَلَيْسَت جارحة".

وهذه عقيدة الكلابية في صفة اليد يثبتون لله يدا واحدة ولا يقولون بالتثنية ، وينفون الجارحة وعقيدة أهل السنة أنهم لا ينفون ولا يثبتون ما لم يرد به النص ، وليس في الفقه الأبسط إثبات شيء من الصفات الفعلية كالمجيء والنزول وغيرها ، وكتاب الفقه الأبسط أيضاً لا يثبت

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم