الجمعة، 19 يناير 2018

تحرير موقف ابن تيمية من مناظرة الجهم للسمنية



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
                                                       أما بعد :

فقد سبق لي أن كتبت في تحرير موقف شيخ الإسلام من المعارف القبلية وكنت قد راعيت أكثر الأبواب وضوحاً وهو كلامه على الفطرة ونقده لكلام ابن عبد البر الذي بلغني احتجاج أحد الخصوم به والذي بعد خروج المقال صار يزعم أن نقد ابن تيمية له خارج موضوع الخلاف مع أنه كان يحتج به قبلها

والآن سندخل في موضع أكثر ضيقاً من الآنف حتى نفهم بعض ما غلط في فهمه المخالف

القول بوجود معقولات لا يمكن الإحساس بها سواء كان العقل متقدماً على الحس أو متأخراً أو مقارناً له كما تقول الجهمية في الله تبارك وتعالى أنه معقول ولا يرى ولا يسمع وهذا محال في حقه شيء

والقول بولادتنا بفطرة ومباديء عقلية تمكننا من الاستفادة من المحسوسات وأن ما نعرفه بالعقل لا ينفي ذلك أننا نحس به حالياً أو بعد حين أو يجوز عليه الحس كما يقول أهل السنة في الله تبارك وتعالى أنه في الدنيا لا نراه ونراه في الآخرة شيء آخر وأن كل كمال في المخلوق هو أولى به فنستدل استدلالاً عقلياً على كماله بما نراه في المحسوسات ولا ينفي هذا تقدمه عليها واستدلالنا على الشيء لا ينفي كونه فطرياً كما أن ثبوت الشيء بالعقل لا ينفي وروده في النصوص والعكس


والخلط بين القولين قبيح غاية فليسا شيئاً واحداً لا في المقدمة ولا في النتيجة فيأتي بعضهم ويجعل نقد ابن تيمية للقول الأول منصباً على الثاني ويهمل كلام ابن تيمية في الفطرة والعقل وفي التحسين والتقبيح العقليين

وأساس بحث المسألة أن المشهور أن الجهم بن صفوان لجأ إلى قوله في الصفات بعد مناظرته للسمنية حين قالوا له أنه كيف تعبد إلهاً لا تحس به بحواسك الخمس فشك الجهم أربعين يوماً ثم استدرك وجاءهم وقال لهم أن الروح لا تسمع ولا ترى ولا تشم ونؤمن بها فكذلك الله عز وجل وكان هذا أصله في نفي الصفات عن الله تبارك وتعالى

وكثر في كلام المتكلمين نسبة السمنية إلى إنكار المتواترات لأنه لم يقع عليها الحس المعين وكثر في كلامهم أيضاً نسبتهم إلى نفي المعقولات

وقد تعقب ابن تيمية رحمه الله المناظرة وما نسب للسمنية وهذا التعقب فهم منه بعض الناس أنه يوافق في أن الحس هو أول المعارف وأنه لا معارف قبل وجود الحس وأن المعارف العقلية فرع عن المعارف الحسية

وهذا تعسف عجيب في الفهم

فالسياق أولاً جدلي فأنت إما تلزم الخصم على أصله أو تلزمه التناقض والسياقات الجدلية لا ينبني عليها تقرير مذهب لشخص

فعلى سبيل المثال لو أنكر علي رافضي شيئاً فأتيت به من كتبه فهذا سياق جدلي ليس معناه أنني أقر  بما في كتبه

والجهم لو كان طرح هذا جدلاً للإسكات لهان الأمر ولكنه جعلها قاعدة مطردة بنى عليها تصوره عن الله عز وجل

وثانياً : إذا ثبت لك أن السمنية لا ينكرون المباديء العقلية أصلاً كما يدعي عليهم أهل الكلام وأن نقاشهم مع الجهم أصلاً مبني على مبدأ عقلي وهو القياس العقلي فهذا سيقضي على هذا الاستنتاج فحتى المتكلمون أدلتهم على وجود الله منها دليل الحدوث وهو دليل مبني على المشاهدة للمخلوقات أولاً ثم الاستدلال بها على الخالق ولم يقل أحد بأنهم يجعلون الحسيات مبدأ المعارف لأن نظرهم في الكون كان مبنياً على أسس عقلية

قال ابن تيمية في بيان التلبيس هو يعلق على المناظرة : فلو لم يكونوا يقرون بشيء من القياس العقلي لما سمعوا مثل هذا الكلام ولا أمكن مخاطبتهم به كما لا يمكن أن يحتج بقول الأنبياء على كذبهم ولا يقال هو أقام الحجة عليهم ببيان وجود موجود غير محسوس ثم قاس عليه لأنه يقال لو كان من أصلهم أنهم لايقبلون القياس في المحسوس لكانوا لا يقبلونه فيما لزمهم القول به من غير المحسوس وكانوا يقولون هذا يعلم وجوده كما ذكرت فمن أين يجب علينا أن نعترف بنظيره إذا كان من أصلهم أن الشيء ر يعرف حكمه من جهة النظير.

أقول : والقياس ومعرفة حكم الشيء من حكم النظير هذه كلها مباديء عقلية غير مفتقرة إلى الحس بل هي مقارنة أو سابقة لها وولد الناس بها وما أمكنهم الانتفاع بالمحسوس لولاها ولهذا الشيخ ينفي أن يكون السمنية يحصرون المعارف بالمحسوسات بل هم يقولون بأنه لا يمكن الإقرار بما ليس هناك شيء من جنسه محسوس فهم مقرون بالمحسوسات وبالقياس العقلي الذي لا تستقيم الحياة إلا به والشيخ ينكر أن يكونوا ينكرون المتواترات فلا تستقيم الحياة إلا بهذا

من هنا يفهم وجه نقد الشيخ للجهمية والسمنية معاً فالشيخ يرى غلط الأول في كونه يقر بوجود شيء لا يمكن الإحساس به بحال بل ذلك عليه محال كما يدعيه المشائون في جدلهم مع الطبائعيين وكما تبناه عتاة الجهمية

وأما نقد السمنية فمنصب على أنهم أبوا إلى أن يدخلوا الله تبارك وتعالى في قياس الشمول أو التمثيل وهو قياس مبني على الإقرار بالعلة وهذا معناه الإقرار بالسببية والسببية تدل على الخالق دون افتقار إلى مشاهدة حس فمن أقر ببعض أحكام العلة وجحد بعضا كان متناقضاً، ولا فرق بين الاستدلال بالشيء على نظيره أو من نظيره وبين الاستدلال بالصنعة على الصانع وإن لم يكن من جنسها

وكان من الممكن أن يجيبهم الجهم بجواب جدلي على أصولهم اقترحه عليه الشيخ يأتي ذكره


قال في بيان تلبيس الجهمية (1/318) :" فقطعهم _ يعني الجهم _ مع غلطه في المناظرة ومغالطتهم أيضاً ولو كانوا هم لا يقرون إلا بما أحسه أحدهم لم يكونوا قد انقطعوا بمثل هذه المناظرة لأن غايتها إثبات وجود موجود غير محسوس فيقاس الرب عليه فلو لم يكونوا يقرون بشيء من القياس العقلي لما سمعوا مثل هذا الكلام ولا أمكن مخاطبتهم به كما لا يمكن أن يحتج بقول الأنبياء على من كذبهم ولا يقال هو أقام الحجة عليهم ببيان وجود موجود غير محسوس ثم قاس عليه لأنه يقال لو كان من أصلهم أنهم لا يقبلون القياس في المحسوس لكانوا لا يقبلونه فيما لزمهم القول به من غير المحسوس وكانوا يقولون هذا يعلم وجوده كما ذكرت فمن أين يجب علينا أن نعترف بنظيره إذا كان من أصلهم أن الشيء لا يعرف حكمه من جهة النظير ، بل الذي يقال إن القوم كانوا يقولون لا يكون شيء موجودا إلا أن يمكن إحساسه فلا يصدق الإنسان بوجود مالا يمكن معرفته بشيء من الحواس لا يقولون الإنسان المعين لا يعلم إلا ما أحسه هو بل ينكر ما أخبره جميع الناس من الأمور التي تماثل ما أحسه وينكر أيضا وجود نظير ما أحسه أو لا يمكنه الاعتراف بذلك فإن هذا لا يتصور أن تقوله طائفة مدنية وقد ذكر هذا المتكلمون فقالوا إن الطائفة التي تبلغ مبلغ التواتر لا يتفقون على إنكار ما يعرف بالضرورة كما ذكر المؤسس _ يعني الرازي_ في هذا الكتاب إن الطائفة العظيمة من العقلاء لا يجتمعون على إنكار الضروريات فلا ينقلهم ذلك السلب العام عن طائفة من العقلاء ولا يبين به أن طوائف العقلاء يقعوا في شيء من هذا السلب وكلا الأمرين باطل بل التحقيق أن العقلاء لا يتفقون على إنكار العلوم الضرورية من غير تواطئ واتفاق كما لا يتفقون على الكذب من غير تواطئ ولا اتفاق وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان يعلم الأمور الضرورية بغير اختياره كما يجهل بعضها وخلقه بفطرته يخبر بما يعلمه إلا لمعارض يغيره عن فطرته وكذلك خلقه بفطرته يريد العدل والمصلحة إلا لمعارض فهو وإن كان ظلوما جهولا فذاك في كثير من الأمور أما أن تكون أمة من الأمم تجهل كل شيء أو تكذب في كل شيء أو تظلم في كل شيء فهذا لا يتفق أبدا فإن اجتماع بني آدم في الدنيا وهو الاجتماع الفطري الطبيعي الذي لا يعيشون بدونه لا يتصور مع هذا الإنكار وذلك أنهم لا بد أن يقروا بأن لأحدهم أبا وأخا ونحو ذلك ومن المعلوم أنه لم يعرف بحسه إحبال أبيه لأمه ولا ولادة أمه له وكذلك لم يحس ولادة أهله وأهل مدينته مع أنه لا بد لهم من اعتراف أن هذه أم فلان وهذا ابنها وإنما يشهد الولادة في العادة بعض النساء وكذلك لا بد أن يعرف أن آباءهم وأمهاتهم مولودون وأن أجدادهم ماتوا وأن الناس يموتون في الجملة ولم يحس كل منهم موت من غاب عنه ولا أن أحدهم يستعين بالآخر لجلب منفعة ودفع مضرة مباينة فيصلح له طعاما وشرابا أو لباسا ويحصل ذلك بأنواع الصناعات والمعاوضات الذي لم يشهد بحسه تفاصيل ذلك بل يستفيده من إخبار المباشرين له وكذلك ما يكون في قريته ومدينته من أحوال أهلها وصناعتهم وأحوالهم التي تتعلق مصلحته بها لا يعرف كل منهم كل شيء في ذلك بالمشاهدة بل بعضهم يشهد ذلك ويخبر غيره حتى يخبر بعضهم بعضا بالمدائن القريبة منهم وأحوالها ولا يخفى على سليم العقل أن الطعام الذي يأكله واللباس الذي يلبسه قد أوتي به إليه من مكان لم يشهده وصنع بأسباب متنوعة لم يشهد عامتها وكذلك لا بد لكل أمة من رئيس مطاع وكبير منهم لا يشهدونه وأكثرهم لا يشهدون تفاصيل أحواله التي تتعلق مصالحهم بها وإنما يتسامعون بها ولهذا جاءت الشريعة بقبول شهادة الاستفاضة في هذا وأمثاله كالموت والنسب باتفاق الفقهاء وإن كان لهم فيما يقبل فيه غير ذلك أقوال مختلفة ففي الجملة قبول الأخبار المستفيضة والمتواترة ونحو ذلك فيما يحس جنسه هو من الأمور الفطرية الضرورية لبني آدم كما أن الأكل والشرب والنكاح لهم كذلك فمن قال إن أمة من الأمم عاشت بدون هذه العلوم والأقوال كمن قال إنها عاشت بدون هذه الحياة وهذه الأفعال ولكن اشتبه النوع بالشخص فلما كان قولهم إنما لا يعرف بجنس الحواس لم يعترف به اشتبه ذلك بأن كل من لا يعرف هذا الجنس المعين لم يعترف به وبين القولين بون عظيم جدا فإن هذا الثاني في غاية الجحد والتكذيب ولهذا اشتد إنكار الناس كلهم لهذا القول وجعل هؤلاء المتكلمين هذا أحد أنواع السفسطة"

فتأمل كيف أن الشيخ جعل المحسوسات تفيد القطع _ في نظائرها مما لم يحس_ بالقرائن وما هذه القرائن إلا قرائن عقلية ضرورية مبنية على المباديء العقلية انظر في كلام الشيخ وتأمل مراراً وتكراراً هل يلتقي مع دعوى أنه يجعل المرجع الأساسي للحس فحسب وأن المعارف العقلية إنما تولدت من التجربة الحسية ! ، هذا مع إقراره بوجود علوم ضرورية واضحة في قوله : وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان يعلم الأمور الضرورية بغير اختياره كما يجهل بعضها وخلقه بفطرته يخبر بما يعلمه إلا لمعارض يغيره عن فطرته وكذلك خلقه بفطرته.

فما عسى أن يكون يقصد إلا معارف قبلية في مثل قوله هذا معارف غير مفتقرة إلى الاستدلال ولا الاختيار حتى ، ويذكر الفطرة

وقال معلقاً على مقالة السوفسطائية : ولا يتصور أن عاقلا يصر على إنكار ذلك ولكن قد يعرض للعقل نوع من الفساد كما يعرض للحس فينكر المنكر لذلك ما دام به ذلك المرض والآفة العارضة لعقله أو حسه أما أن يكون ذلك مقالة ومذهبا يقولها طائفة عقلاء يعيشون بين بني آدم فهذا لا يتصور.

فتأمل جعله الفساد اللاحق بالعقل من نحو الفساد اللاحق بالحس فكل واحد منهما عند الشيخ معرفة مستقلة عن الأخرى ويتقاطعان وكما أن هناك محسوسات لا يشك فيها فهناك معقولات لا يشك فيها

وقال الشيخ في بيان التلبيس وهذا النص قد يستدل به نفاة المعارف القبلية:" وهذا الأصل الذي قالوه عليه أهل الإثبات فإن أهل السنة والجماعة المقرين بأن الله تعالى يُرى متفقين على أن ما لا يمكن معرفته بشيء من الحواس فإنما يكون معدومًا لا موجودًا فكان حق الجهم أن يقول لهم إن أردتم أني لابد أن أحس بإلهي فلا يجب عندكم أن ينكر الإنسان ما لم يحسه هو وإن أردتم انه لا بد أن يمكن أن يحس به فإلهي يمكن أن يرى وأن يسمع كلامه وإن أردتم أنه لابد أن يكون قد عرفه بالحس بعض الآدميين فهذا مع أنه غير واجب فقد سمع كلامه من سمعه من الرسل وهو احد الحواس وقد رآه بعضهم أيضًا عند كثير من أهل الإثبات وكان يقول لهم أتريدون أنه لابد أن يحسه هذا الحس الظاهر أم يكفي إحساس الباطن إياه وشهوده إياه الأول منقوض بأحوالنا الباطنة الجسمانية والنفسانية وأما الثاني فمسلم وقد شهدته بعض القلوب فعدل عن ذلك وادعى وجود موجود لا يمكن إحساسه"

والتعليق على هذا الكلام وتوضيحه في نقاط

أولها : أن النقاش كما ترى جدل عقلي مبني على مقدمات عقلية أساسية والخصم لا ينفي وجود أسس عقلية يدور عليها النقاش وإنما يدعي أن هذه المعارف العقلية تأخرت عن الحس واستفيدت من الحس وهذا القول وإن كان نقيضاً لقول المشائين القائلين بوجود معقولات لا يمكن الإحساس بها إلا أن نفي قول المشائين لا ينفي وجود مباديء عقلية وفطرة وجدت مع المخلوق تدل على الخالق ولا ينتفع بالمحسوس تماماً إلا بها وليست مفتقرة إلى استدلال حسي ، ولا ينفي وجود فطرة متسامية ، وكل ما يستدل به لنفي قول المشائين لا يقع على القول الآخر ولكن يلزمه لزوماً ضرورياً نفي الاستدلال على الله عز وجل بالعقل مما لا يقره أحد من الإسلاميين أو يكون الله عز وجل من جنس المحسوسات الأخرى من كل وجه حتى يشمله قياس الشمول

فإن قيل : فما تقول باستدلال أهل الاثبات الذي ذكره الشيخ أن ما لا يمكن معرفته بشيء من الحواس فإنه يكون معدوماً

فيقال : هذا استدلال عقلي محض مبني على القياس العقلي واستخدام المحسوسات كركن من أركان القياس لا ينفي وجود العلة العقلية كركن آخر 

وهو ليس قياس شمول بل هو قياس أولى كما سيأتي تحريره في كلام الشيخ وهو أن ما يقترحه الجهمية هو صفة المعدوم وما ثم إلا معدوم وموجود والموجود أكمل من المعدوم ومانح الكمال أولى به فالجهمية يقولون باستحالة رؤية الله أو الإحساس به وسيأتي كلام الشيخ عن قياس الأولى وهو استدلال عقلي مبني على المباديء العقلية وسيأتي في كلام الشيخ أن كون الشيء لا داخل ولا خارجه وموجود في آن واحد قضية منتقضة بداهة فهذه فهذه صفة العدم وعلى هذا بنوا قولهم بنفي الرؤية أصالة فإذا أثبت أن هذه صفة العدم انتفى ما انبنى عليه  

واقترح الشيخ على جهم أن يقول للسمنية : أنه لا يمكن إنكار ما لا تحسونه فكثير مما لا تدركونه بالحس عرفتموه بالعلامة كموت أجدادهم مثلاً والأخبار التي تأتي عن البلدان النائية وغيرها من الأمور التي تعرف بالتواتر

فالحس محدود فما لم تعرفوه بالحس لا يمكنكم نفي وجوده حتى تتأكدوا من ذلك حسياً وذلك متعذر

فإن بدلوا قولهم وعادوا إلى ما ينسبه لهم الشيخ من القول أنه لا يكون إلها حتى يمكن الإحساس به وليس من شرط ذلك أن يحس به جميع الناس

فيقول الشيخ أن هذا غير واجب _ وهنا يظهر بوضوح أنه يرى أن البرهنة على الله ليست مفتقرة إلى الحس المباشر وهذا يعني ضرورة أن عنده براهين أخرى ويمكن أن يقال جدلاً أنه سمع كلامه بعض الأنبياء وتواترت أخبارهم والحس إن أريد بها هذا الظاهر فليس لازماً وإن أريد الباطن فقد شهد ذلك الكثير من العباد _ وهنا الشيخ يدخل في مسمى الحس الأحاسيس القلبية _

وهذا كله جواب جدلي مبني على الإلزام بأصل الخصم

ثم بعد انتهاء الشيخ من السياق الجدلي والمحاكمة بين الجهمية والسمنية

عاد لشرح مذهب أهل الحديث :" وأما السلف والأئمة فكانوا في ذلك من العدل والاستقامة وموافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح بحال آخر فالعصمة وإن كانت شاملة لجماعتهم فآحادهم مع ذلك لا يجترئون في مخالفة النصوص المشهورة والمعقولات المعروفة على ما يجترئ عليه هؤلاء المسفسطون وكانوا يستعملون القياس العقلي على النحو الذي ورد به القرآن في الأمثال التي ضربها الله تعالى للناس فإن الله ضرب للناس في القرآن من كل مثل وبين بالأقيسة العقلية المقبولة بالعقل الصريح من المطالب الإلهية والمقاصد الربانية ما لم تصل إليه آراء هؤلاء المتكلفين في المسائل والوسائل في الأحكام والدلائل كما قد تكلمنا على ذلك في غير موضع والله تعالى له المثل الأعلى فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوي أفراده في حكمه فإن الله سبحانه ليس مثلاً لغيره ولا مساويًا له أصلاً بل مثل هذا القياس هو ضرب الأمثال لله وهو من الشرك والعدل بالله وجعل الند لله وجعل غيره له كفوًا وسميًّا وهم مع هذا كثيرو البراءة من التشبيه والذم له وهم في مثل هذه المقاييس داخلون في حقيقة التمثيل والتشبيه والعدل بالله وجعل غيره له كفوًا وندًّا وسميًّا كما فعلوا في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك ولهذا ذكر الوزير أبو المظفر بن هبيرة في كتاب الإيضاح في شرح الصحاح أن أهل السنة يحكون أن النطق بإثبات الصفات وأحاديثها يشتمل على كلمات متداولات بين الخالق وخلقه وتحرجوا من أن يقولوا مشتركة لأن الله تعالى لا شريك له بل لله المثل الأعلى وذلك هو قياس الأولى والأحرى فكل ماثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال فالمعطي الكمال لغيره أولى بأن يكون هو موصوفًا به إذ ليس أعطى وأنه سلب نفسه ما يستحقه وجعله غيره فغن ذلك لا يمكن بل وهب له من إحسانه وعطائه ما وهبه من ذلك كالحياة والعلم والقدرة وكذلك ماكان منتفيًا عن المخلوق لكونه نقصًا وعيبًا فالخالق هو أحق بأن ينزه عن ذلك وقد بسطت هذه القاعدة في غير هذا الموضع"

فهذا كله من ابن تيمية تعليق على طلب السمنية إدخال الله تبارك وتعالى في قياس شمول أو تمثيل بل هو يرى الله تبارك وتعالى لا يليق في حقه إلا قياس الأولى أن كل ما منحه للعبد من كمال هو أولى به وأن البراهين العقلية والأقيسة العقلية الدالة عليه مع دلالة الفطرة والمشار إليها في النصوص عظيمة وقال أنها بسطت في غير هذا الموضع وقد لخصها تلميذه ابن القيم في الصواعق المرسلة ، وكون الله يرى ويسمع أو كون بعض المخلوقات يستدل عليها بالعقل فهذا لا يقتضي المماثلة فالاستدلال على الله أعظم من كل استدلال بل يصح الاستدلال على شيء إلا بالثقة بالعقل والحواس وهذا يقتضي الثقة بواهبها ، والمخلوق قد يحتاج إلى معرفته بالتحقق من رؤيته أو سماعه وليس هذا المعنى في الله تبارك وتعالى بل رؤيته وسماعه ثواب للطائعين

والجهم نفسه أيضاً وافق على هذا القياس فجاءهم بشيء من المخلوقات لا يحسون به ويقرون بوجوده وقاس الله تبارك وتعالى عليه

وسواء كان الحس سابقاً على العقل أو العقل سابقاً على الحس فحجة الجهم قائمة على السمنية وإنما تبطل إذا نفي الأصل الذي بنى عليه قياسه

وتبطل طريقته على أصلنا بالإقرار بإمكانية سماع الله أو رؤيته أو الإحساس به أو الإخبار عنه بالتواتر إلزاماً للسمنية بأصلهم أو بإلزام السمنية بالأصل العقلي الذي يقرون به ابتداء ثم الاستدلال عليهم بالأدلة العقلية المعروفة

والدارمي كان يقيم الحجة على المريسي بقياس الأولى فيلزمه تشبيه بالأعمى أو الأقطع أو الجمادات أو رفع النقيضين ومعلوم أن البصير وذا اليد والحي أكمل في المخلوقات من الأقطع والجماد والأعمى ومانح الكمال أولى به

وقد قال الشيخ بعد عدة صحف :" وقد استقرأت أنا في طوائف من الآدميين فوجدت فطرهم كلهم على هذا الوجه الثالث أن يقولوا نحن نعلم بالضرورة العقلية أن الموجود إما أن يكون موصوفًا وإما أن يكون صفة أو نعلم أن القائم بنفسه لا يكون إلا موصوفًا وهذا متفق عليه بين الصفاتية ومن نازع في ذلك قيل له أنت توافقنا على ما هو معلوم بالفطرة من أن الموجود القائم بنفسه لا بد أن يوصف أي يخبر عنه بما هو مختص به متميز به عن غيره إذ الموجود في الخارج لا يكون مرسلاً مطلقًا لا يتميز بشيء بل فساد هذا معلوم بالضرورة باتفاق العقلاء المتفقين "

فتأمل قوله ( معلوم بالضرورة ) وحديثه عن الفطرة فكل مباحثة بين اثنين لا بد أن ترجع إلى أصل عقلي معلوم بالاضطرار وهذا ما يسميه الناس مباديء عقلية وأهل الإسلام يرونها مستفادة من الله تبارك وتعالى فلا يلزمهم أي شيء مما يورد على المثاليين

يقول : أؤمن بأن الناس دخلوا هذه الدنيا وهم ورقة بيضاء بلا أي معارف أولية وما معهم إلا الحس

فتقول : فكيف عرف البشر مبدأ السببية مثلاً

فيقول : بسيطة بدأ ينظر بحسه المجرد فرأى أن لكل شيء سبباً فاتخذه مبدأً

فتقول : إذن السبب في اتخاذه مبدأ السببية هو أنه وجد لكل شيء سبباً ، ألا تلاحظ أنك استخدمت مبدأ السببية في اكتشاف مبدأ السببية !

والذي يفترض أنك لم تعرفه بعد !

حبل السفسطة قصير

القول بنفي المعارف القبلية يلزم منه تصويب قول من قال أنه لا يصح إيمان أحد حتى يستدل هذا أمر مقطوع به إذا كان مبدأ المعارف من الحس لا طريق لتحصيل الإيمان إلا بالاستدلال الذي مبدأه من نظر حسي يقترن بمباديء عقلية فينتج نتيجة

قال ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (7/406) :" وذكر غير واحد أن هذا قول جمهور المسلمين، كما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم في كتابه المعروف بـ الفصل في الملل والنحل فقال في مسألة: (هل يكون مؤمناً من اعتقد الإسلام دون استدلال، أم لا يكون مسلماً إلا من استدل؟) .
قال: (وذهب محمد بن جرير والأشعرية إلا أبا جعفر السمناني إلى أنه لا يكون مسلماً إلا من استدل، وإلا فليس مسلماً) .
قال: (وقال الطبري: من بلغ الاحتلام أو الإشعار من الرجال أو النساء، أو بلغ المحيض من النساء، ولم يعرف الله بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال، فهو كافر حلال الدم والمال: وقال إنه أذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمهما وتدريبهما على الاستدلال على كل ذلك) .
قال: (وقالت الأشعرية: لا يلزمهما الاستدلال على ذلك إلا بعد البلوغ) قال: وقال سائر أهل الإسلام: كل من اعتقد بقلبه اعتقاداً لا يشك فيه، وقال بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن كل ما جاء به حق، وبرىء من كل دين سوى دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه مسلم مؤمن، ليس عليه غير ذلك.

تعليق ابن تيمية
قلت: القول الأول هو في الأصل معروف عمن قاله من القدرية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام، وإنما قاله من قاله من الأشعرية موافقة لهم، ولهذا قال أبو جعفر السمناني: القول بإيجاب النظر بقية بقيت في المذهب من أقوال المعتزلة، وهؤلاء الموجبون للنظر يبنون ذلك على أنه لا يمكن حصول المعرفة الواجبة إلا بالنظر، لا سيما القدرية منهم، فإنهم يمنعون أن يثاب العباد على ما يخلق فيهم من العلوم الضرورية، وليس إيجاب النظر على الناس هو قول الأشعرية كلهم، بل هم متنازعون في ذلك"

تأمل أن الشيخ ينسب للمعتزلة أنهم يقولون بأنه لا يمكن حصول المعرفة الواجبة إلا بالنظر _ يعني الاستدلال _ وهذا القول أهون من قول نفاة المعارف القبلية مطلقاً لأنهم يثبتون وجود معارف أولية بدون استدلال ولكنها ليست الواجبة التي ينبني عليه الثواب والعقاب فهم معترفون بوجود علوم ضرورية لا تفتقر إلى أي نوع من الاستدلال

‏- قال الطوفي في "مختصر الروضة" ردا على حصر السمنية للمعارف في الحس : (المدركات العقلية كثيرة , منها : حصركم المذكور , فإن كان معلوما لكم وليس حسيا , بطل قولكم , وإلا فهو جهل فلا يُسمع). ( هذه فائدة من أحد الأخوة )

والخلاصة : أن الشيخ إنما أنكر قول جهم أنه يوجد في الموجودات ما لا يمكن الوصول إليه حساً بحال ثم قياس الله تبارك وتعالى على هذا كما أن أنكر القول المنسوب للسمنية بحصر المعارف في المحسوسات ورأى أنه لا يمكن التخاطب بين الناس إلا بشيء من العقل وأن السمنية ما قطعهم الجهم إلا بإقرارهم بقياس عقلي أصالة وأن ما أثبت جهم وجوده حتى أنهم يقولون النفس الناطقة لا داخل العالم ولا خارجه أمر يخالفهم فيه عامة العقلاء

والجهمية لا يقولون أن الله لا يرى ولكن يعقل فحسب ، بل يقولون الله عز وجل تستحيل رؤيته والإشارة إليه وهذه هي صفة العدم وهم هربوا مما ادعوه تشبيهاً بالمحسوسات فشبهوه بالنفوس والعقول التي لا داخل العالم ولا خارجه عندهم

وحين يقول شخص أن المعنى أو المباديء العقلية أو الفطرة متسامية على المادة أو غير مفتقرة للتجربة الحسية فهو لا يعني أنها لا داخل العالم ولا خارجه فالعقل والفطرة قائمان في الإنسان وإنما أصل هذا كله من الله تبارك وتعالى البائن من خلقه فالخلط بين القولين قبيح

قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية :" لكن نفي موجود لا داخل العالم لا خارجه معلوم بالفطرة البديهية لا بالقياس ولا بعدم النظير"

فالشيخ هنا يصرح أن نفي موجود لا داخل العالم ولا خارجه ينافي البديهة _ وهذا ما يمكن أن نسميه مباديء عقلية أن رفع النقيضين لا يقعان _ لا القياس العقلي ولا انعدام النظير _ وهو استدلال حسي _ فلو كان الشيخ يرى أن الحس هو أصل الفطرة والعقل لما صح أن يوجد استدلال بالعقل أو الفطرة غير موجود حساً أو له نظير في الحس
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم