الأحد، 19 مارس 2017

حقيقة الكفر العملي عند الجهمية وتوضيح مسألة قصد الكفر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
                                                       أما بعد :
فهذا بحث يسير في بيان حقيقة مذهب الجهمية في الكفر العملي الأكبر ، وحقيقة مذهبهم في اشتراط القصد

لبيان نقطة خلط فيها كثيرون وهي أنهم يرمون كل من توسع في العذر بالجهل توسعاً غير مرضي بأنه موافق للجهمية أو أنه جهمي في مسائل الإيمان

والذي يقتضيه الإنصاف بيان ما في هذا من الشطط

فنحن أنفسنا نعذر بالجهل في المسائل الخفية فهل طريقتنا موافقة لطريقة الجهمية في المسائل الخفية ؟

وإليك تفاصيل مذهب الجهمية في الإيمان

قال ابن تيمية في الصارم المسلول :" وأما الجهمية الذين يقولون: "هو مجرد المعرفة والتصديق بالقلب فقط وإن لم يتكلم بلسانه"

فهم لا يشترطون القول لصحة الإيمان وخالفهم بذلك المرجئة وأهل السنة فاشترطوا ذلك

ويحصرونه بتصديق القلب

والكفر عندهم محصور بالتكذيب فعندهم من يفعل الكفر الأكبر إذا كان مصدقاً بقلبه فإن ذلك لا يضره فإن دل النص على أن ذلك يضره فإن ذلك لدلالته على أن الواقع في هذا الكفر العملي الظاهر مكذب لا لكون نفس الفعل كفراً

قال ابن تيمية في الصارم المسلول :" والغرض بهذا التنبيه على أن الاستهزاء بالقلب والانتقاص ينافي الإيمان الذي في القلب منافاة الضد ضده والاستهزاء باللسان ينافي الإيمان الظاهر باللسان كذلك.
والغرض بهذا التنبيه على أن السب الصادر عن القلب يوجب الكفر ظاهرا وباطنا.
هذا مذهب الفقهاء وغيرهم من أهل السنة والجماعة خلاف ما يقوله بعض الجهمية والمرجئة القائلين بأن الإيمان هو المعرفة والقول بلا عمل من أعمال القلب من أنه إنما ينافيه في الظاهر وقد يجامعه في الباطن وربما يكون لنا إن شاء الله تعالى عودة إلى هذا الموضع.
والغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب فكذلك قد تتجرد عن قصد تبديل الدين وإرادة التكذيب بالرسالة كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية وإن كان عدم هذا القصد لا ينفعه كما لا ينفع من قال: الكفر أن لا يقصد أن يكفر"

وقال ابن تيمية في كتاب الإيمان :" ولم يكف الجهمية أن جعلوا كل كافر جاهلاً بالحق حتى قالوا: هو لا يعرف أن الله موجود حق، والكفر عندهم ليس هو الجهل بأي حق كان، بل الجهل بهذا الحق المعين، ونحن والناس كلهم يرون خلقاً من الكفار يعرفون في الباطن أن دين الإسلام حق، ويذكرون ما يمنعهم من الإيمان، إما معاداة أهلهم، وإما مال يحصل لهم من جهتهم يقطعونه عنهم، وإما خوفهم إذا آمنوا ألا يكون لهم حرمة عند المسلمين كحرمتهم في دينهم، وأمثال ذلك من أغراضهم التي يبينون أنها المانعة لهم من الإيمان، مع علمهم بأن دين الإسلام حق، ودينهم باطل. وهذا موجود في جميع الأمور التي هي حق، يوجد من يعرف بقلبه أنها حق وهو في الظاهر يجحد ذلك، ويعادي أهله لظنه أن ذلك يجلب له منفعه ويدفع عنه مضرة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} [المائدة: 51: 53]"


قال ابن تيمية في الإيمان أيضاً :"  قولهم: كل من كفره الشارع فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى، وكثير من المتأخرين لا يميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية؛ لاختلاط هذا بهذا في كلام كثير منهم، ممن هو في باطنه يرى رأي الجهمية والمرجئة في الإيمان، وهو معظم للسلف وأهل الحديث فيظن أنه يجمع بينهما، أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف."

فمذهب الجهمية أن كل من كفره الشارع فإن كفره بسبب التكذيب فهم يحصرون الكفر بالتكذيب فحسب

وبناء عليه إذا كفرنا واطيء المصحف فإن ذلك لأن هذا يدل على تكذيبه لا لكون الفعل في نفسه كفراً

والآن نأتي إلى بيان مذهب أهل السنة والجماعة وأوجه مخالفة مذهب الجهمية

أولاً : أهل السنة يشترطون القول لصحة الإيمان ويشترطون العمل أيضاً والمنتسبون للسنة المعاصرون منهم من يشترط العمل حتى ممن يعذر بالجهل ومنهم من أخر العمل ولم يشترط أي عمل فأخر العمل عن القول ولكنه في الوقت نفسه يصرح بزيادة الإيمان ونقصانه بالعمل وأن العمل جزء من الإيمان وهذه مقالة مردودة كتب كثيرون في نقضها وليس هذا محل البحث فيها

ثانياً : أهل السنة يقولون بأن الأعمال المكفرة الظاهرة هي كفر في نفسها ولا شك أنها مقترنة بكفر باطن ولكن هذا الكفر الباطن ليس تكذيباً بالضرورة

بل قد يكون استكباراً أو جحوداً أو حسداً

فلو جاء شخص وقال أنا لا أعتبر هذه الأمور كفراً إلا باعتبار ما تدل عليه من باطن الشخص قلنا مقالته موافقة لمقالة الجهمية ولكن إذا قال هذا الباطن ليس تكذيباً بالضرورة فيقال أنه وافق الجهمية في بعض قولهم وخالفه في البعض الآخر

قال ابن تيمية في الإيمان :" هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احتج الناس به عليهم، جمع في ذلك جملاً يقول غيره بعضها، وهذا الإلزام لا محيد لهم عنه. ولهذا لما عرف متكلمهم مثل جَهْم ومن وافقه أنه لازم التزموه، وقالوا: لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافرًا في الباطن، لكن يكون دليلاً على الكفر في أحكام الدنيا، فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافرًا في الآخرة. قالوا: فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء، فإنها عندهم شيء واحد، فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع.
وهذا القول مع فساده عقلاً وشرعًا، ومع كونه عند التحقيق لا يثبت إيمانًا، فإنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا لا حقيقة له. كما قالت الجهمية"
إذن الجهمية فريقان فريق يقول الكفر الظاهر لا يؤثر على المرء إذا كان باطنه التصديق

وفريق يقول أنه يؤثر لأنه يدل على التكذيب

هذه حقيقة مذهب الجهمية فمن قال الكفر الظاهر كفر بنفسه وإن جامع تصديقاً في القلب لأن الكفر ليس كله تكذيب بل قد يكون استكباراً وقد يكون جحوداً وقد يكون حسداً

ومن يقول أنه لا يتصور وجود الإيمان النافع بشروطه في القلب مع صدور نواقض الإيمان الظاهرة مختاراً

فقد بريء من كلام الجهمية في هذه المسألة

والآن نسلط الضوء على مسألة قصد الكفر

هناك كلمة لابن تيمية في الصارم المسلول يقول فيها :" ومما يؤيد القول الأول أن القوم لو ظهر لهم أن هذا الكلام سب وطعن لبادروا إلى الإنكار عليه ويمكن أن يقال: رابهم أمره فتوقفوا حتى استثبتوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم لما تعارض وجوب طاعة الرسول وعظم ما أتاهم به هذا اللعين ومن نصر القول الأول قال: كل كذب عليه فإنه متضمن للطعن عليه كما تقدم ثم إن هذا الرجل لم يذكر في الحديث أنه قصد الطعن والإزراء وإنما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه وهذا شأن كل من تعمد الكذب عليه فإنه إنما يقصد تحصيل غرض له إن لم يقصد الاستهزاء به والأغراض في الغالب إما مال أو شرف كما أن المسيء إنما يقصد إذا لم يقصد مجرد الإضلال إما الرياسة بنفاذ الأمر وحصول التعظيم أو تحصيل الشهوات الظاهرة وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافرا إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله"

فيأتي بها بعض الناس ويجعلون كل من عذر شخصاً بجهل مشترطاً لئن يكون قاصداً للكفر وهذا تصور فاسد لمذهب الخصم

فإن خصمك لا يشترط أن يكون الواقع في الكفر عارفاً أنه كفر أو شرك وليس هذا معنى قيام الحجة عنده

بل معنى قيام الحجة عندهم أن يعلم أن هذا الفعل مخالف للشرع وإن لم يعلم أنه كفر فإنه يقع الحكم عليه كمن جامع في نهار رمضان ولم يعرف الكفارة لزمته الكفارة وإن لم يعرفها
وأما مذهب الجهمية فهم يقولون إن فعل ذلك مع معرفته أنه مخالف للشرع ولم يقصد أن يكفر بالفعل فإنه لا يكفر إن كان في قلبه تصديق

وفرق واضح بين المقالتين

ونحن نعذر بالجهل في المقالات الخفية وهذا وجه مخالفتنا للجهمية في ذلك

وتقرير هذه القاعدة وهي أنه لا يشترط في فاعل الكفر أن يعلم أنه كفر بل يكفي أنه مخالف للشرع ( في الخفيات ) يذكرها أمثال عبد العزيز الريس في كتابه قواعد في توحيد الألوهية فضلاً عن غيره والله يحب الإنصاف

بل العجيب أنك تجد في المعاصرين من تقع موافقة هذا الأصل الجهمي وهو يرمي غيره بالإرجاء كمن قال أن حاطباً لم يكفر بجاسوسيته بسبب أنه لم يكن يعلم أنها كفر فهذا اشتراط لئن يعلم الواقع في الكفر أنه كفر وأقدم من رأيت يذكر هذا أبو يعلى وهذه موافقة للأصل الجهمي ولكنني لا أقول عن الواقعين فيه أنهم جهمية في مسائل الإيمان لأنهم يخالفون الجهمية في أصولهم وفروعهم بشكل واضح وجلي

وكذلك فتيا بعض المشيخة المعاصرين بأن تارك الصلاة في البلد التي لا يكفر علماؤها تارك الصلاة اشتراط ضمني أن يكون الواقع في المخالفة الشرعية المكفرة عالماً بأنها كفر وهذا غير صحيح بل موافق للأصل الجهمي بل يكفي أن يعلم أن الصلاة عليه واجبة حتى يلزمه حكم تركها بكل تبعاته

وفي الحقيقة قد ابتلينا في هذه الأيام بجهال يتصدرون الكلام في دقائق المسائل بجهل وقلة علم فحتى لو وافقوك على بعض قولك تجدهم يقع منهم من البغي على الخصوم ما يذهب معه بهاء هذا الحق

وآخر ما رأيت من تقاليع بعض مشيختهم أنه يتهم المجدد بأنه متأثر بقول الأشاعرة بوجوب الاجتهاد في العقيدة لأنه قال ( معرفة دين الإسلام بالأدلة ) وذكر وجوب هذا ولا يعلم المسكين أن المجدد يعني بالأدلة الأدلة الشرعية وليست الكلامية فالحديث والآية دليل فمعرفة أن التوحيد والصلاة والصيام والزكاة من الدين يكفي فيها حديث جبريل وكذلك الإيمان والإحسان وهذا ذكره المجدد نفسه ورسالته التي يحسن أي عامي أن يفهمها في شرح هذه المسألة فكيف يدعي الجاهل ما يذكره المجدد يلزم له إمام مجتهد !

ثم إن المجدد إذا قال ( يجب ) لا يقصد أن تارك هذا الواجب سيكون كافراً بدليل أنه أوجب الدعوة والصبر وهذه لا يقول أحد بكفر تاركها مطلقاً

وهذا الآجري صنف كتاباً أسماه ( فرض طلب العلم ) فهل هو يكفر من لا يطلب العلم ؟

فأين هذا من مقالة بعض المتكلمين القائلين بوجوب النظر لتحصيل أصل الإيمان إنكاراً منهم لدلالة الفطرة عليه ( والشيخ حين يقول دين الإسلام فهو لا يعني معرفة أن الله خالق بل يعني دين الإسلام الوارد في حديث جبريل كما وضحه في الرسالة نفسها قاتل الله الحقد والغباء )

وعوداً على مسألتنا ومزيداً من الإيضاح


قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 557): " فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله والتكلم بالتثليب وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفرا فى الباطن ولكنه دليل فى الظاهر على الكفر ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم فى الباطن عارفا بالله موحدا له مؤمنا به فاذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطنا وظاهرا قالوا هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك "

قلت: فتأمل كيف أن الجهمية يجوزون أن يوجد هذا الفعل الكفري مع الإيمان الباطن؟ ولا يجعلونه كفراً إلا إذا كان تكذيباً

وقال شيخ الإسلام (7/ 557):" وأما الثاني فالقلب إذا كان معتقدا صدق الرسول وأنه رسول الله وكان محبا لرسول الله معظما له امتنع مع هذا أن يلعنه ويسبه فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الاستخفاف به وبحرمته فعلم بذلك أن مجرد إعتقاد أنه صادق لا يكون إيمانا إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب "

قلت: فتأمل كيف أن شيخ الإسلام جعل القول باجتماع الكفر العملي الكبر مع الإيمان القلبي الواجب من الممتنعات فلا بد من وجود تكذيب أو بغض أو استخفاف معها فتأمل!

قال في (7/ 644):" حتى آل الأمر بغلاتهم - كجهم وأتباعه - إلى أن قالوا: يمكن أن يصدق بقلبه ولا يظهر بلسانه إلا كلمة كلمة الكفر وقالوا حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول: فلكونه دليلاً على انتفاء ما في القلب وقولهم متناقض فإنه إذا كان ذلك دليلاً مستلزماً لانتفاء الذي في القلب امتنع أن يكون الإيمان ثابتاً في القلب "

قلت: تأمل هذا النص جيداً، الإيمان القلبي عند غلاة المرجئة محصور التصديق فإذا كان العمل عندهم دالاً على انتفاء ما في القلب فهو دال على التكذيب لانحصار الكفر في التكذيب عندهم لذلك التزم بعضهم أن إبليس واليهود كانوا مكذبين بقلوبهم وهذا القول مكابرة للنصوص بخلاف أهل السنة الذي يرون أن هذه الكفر قد يقع عن كبر أو بغض أو استخفاف

ويرون أنه كفرٌ ظاهراً وباطناً لأن الكفر الأكبر الظاهر يقع مع تحصل الشروط وانتفاء الموانع مع وجود الإيمان القلبي الواجب من تصديق ومحبة وتعظيم

وقال شيخ الإسلام في (7/ 582):" وبهذا يتبين فساد قول جهم والصالحي ومن اتبعهما في الإيمان كالأشعري في أشهر قوليه وأكثر أصحابه وطائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة كالماتردي ونحوه حيث جعلوه مجرد تصديق في القلب يتساوى فيه العباد، وأنه إما أن يعدم وإما أن يوجد لا يتبعض وأنه يمكن وجود الإيمان تاماً في القلب مع وجود التكلم بالكفر والسب لله ورسوله طوعاً من غير إكراه وأن ماعلم من الأقوال الظاهره أن صاحبه كافر فلأن ذلك مستلزم عدم التصديق في الباطن "
قلت: فانظر كيف أنهم يحصرون الكفر القلبي في عدم التصديق - وهو التكذيب - بخلاف أهل السنة الذين يجعلونه أنواع فيدخلون الاستخفاف والاستكبار وغيرها

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 273) :" وَهَؤُلَاءِ الصِّنْفُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ غَيْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ حَلَفُوا بِاَللَّهِ مَا قَالُوا وَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ الَّتِي كَفَرُوا بِهَا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَعَوْا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَصِلُوا إلَى مَقْصُودِهِمْ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ : هَمُّوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا لَكِنْ { بِمَا لَمْ يَنَالُوا } فَصَدَرَ مِنْهُمْ قَوْلٌ وَفِعْلٌ قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } فَاعْتَرَفُوا وَاعْتَذَرُوا ؛ وَلِهَذَا قِيلَ : { لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَدْ أَتَوْا كُفْرًا بَلْ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرِ فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ إيمَانِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ إيمَانٌ ضَعِيفٌ فَفَعَلُوا هَذَا الْمُحَرَّمَ الَّذِي عَرَفُوا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَلَكِنْ لَمْ يَظُنُّوهُ كُفْرًا وَكَانَ كُفْرًا كَفَرُوا بِهِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا جَوَازَهُ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ"

قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول ص515 :" وهذا موضع لا بد من تحريره ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلة منكرة وهفوة عظيمة ويرحم الله القاضي أبا يعلي قد ذكر في غير موضع ما يناقض ما قاله هنا وإنما وقع من وقع في هذه المهواة ما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين وهم الجهمية الإناث"
قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (2/ 339) :" كما ان المتنبي انما يقصد اذا لم يقصد مجرد الاضلال اما الرياسة بنفاذ الامر وحصول التعظيم او تحصيل الشهوات الظاهرة وبالجملة فمن قال او فعل ما هو كفر كفر بذلك وان لم يقصد ان يكون كافرا اذ لا يكاد يقصد الكفر احد الا ما شاء الله "



ثم إنه ينبغي التنبه إلى أن هناك من له مقالات تقترب من مقالات الجهمية وربما هي هي

كمن يقول الذبح لغير الله والنذر لغير الله لا يكون شركاً مخرجاً من الملة إلا إذا اعتقد أن المذبوح له أو المنذور مساوياً لله بالقدرة

فهذا في حقيقته ينكر وجود شرك في الألوهية أصالة ويرجع الأمر إلى شرك من نوع آخر ومقالته متناقضة وفاسدة جداً وليس هذا محل بيان بطلانها وقد أبطلها المجدد في العديد من رسائله

وهناك من هو مثل ما ينسب لحاتم العوني في رسالته تكفير أهل الشهادتين ( ولم أقف على نصوصه ) في دعواه أن قاذف أم المؤمنين ومكفر الصحابة لا يكفر إلا إذا كان قصده انتقاص الدين أو النبي صلى الله عليه وسلم

ومقالته متناقضة فإن مناط كون هذه الأمور كفراً مناقضتها للنصوص الظاهرة ثم إن قصد الانتقاص لا يعلم بتصريحهم فإنه لا يكاد يصرح بهذا وإنما يظهر بقولهم ما يقتضي هذا اقتضاء ظاهراً لا يخفى على متأمل

وهؤلاء يخالفون أهل الإرجاء المتوسعين بالعذر ويخالفوننا فمن يتوسع بالعذر توسعاً غير مرضي يرى أن أصل عبادة غير الله شرك ولا يشترط أن يعتقد فاعل ذلك هذا الاعتقاد بل يشترط فقط أن يعلم أن هذه عبادة لغير الله أو يعلم أن هذا مخالف للشرع

وأما نحن ففي الأمور المكفرة عندنا والتي قد تكون خفية في بعض الأشخاص أو بعض الأزمان فمثلاً من أنكر قراءة متواترة لعدم علمه بها واشتهار خلافها في بلده فإنه يعذر ويحتاج الأمر لقيام الحجة وبيان أن هذه قراءة متواترة وقولنا باشتراط قيام الحجة في مثل هذا لاعتقادنا أن نفس إنكار القرآن كفر ولا نشترط أن يكون فاعله قاصداً للطعن في الدين مثلاً

وخلاصة ما مضى أنه ليس كل من توسع في العذر توسعاً لا يرضينا أو يخالف مذهب السلف رميناه بالتجهم فإن التجهم مذهب له أصول وقواعد وحقيقة وكثير ممن يرمون بهذا مخالفون لهذه الأمور بشكل واضحهم فغاية أمرهم أن يكون الأمر إرجاءً

والعجيب أن اليوم يوجد من يجهم في مسائل الإيمان مخالفيه مع كون لا يطلق هذا التجهيم في الأشاعرة منكري العلو !
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم