الأحد، 12 مارس 2017

الشعر الجاهلي وتثبيت دلالة النبوة



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
                                                       أما بعد :

فقد وقع لي في الأيام الماضية الاطلاع على دواوين عدد من شعراء الجاهليين ، فعنت لي هذه الخاطرة

وقبل الولوج إليها أود التنبيه على أن الطعن في الشعر الجاهلي بالكلية رقاعة فكرية وقد أحسن في السخرية من ذلك عباس العقاد حيث قال  إنما ينكر التزييف تمامًا، ويرى أنه ما من قارئ للأدب يسيغ القول بوجود طائفة من الرواة يلفقون أشعار الجاهلية، كما وصلت إلينا، ويفلحون في ذلك التلفيق، إذ معنى ذلك "أولًا" أن هؤلاء الرواة قد بلغوا من الشاعرية ذروتها التي بلغها، امرؤ القيس والنابغة وطرفة وعنترة وزهير وغيرهم من فحول الشعر في الجاهلية، ومعنى ذلك "ثانيًا" أنهم مقتدرون على توزيع الأساليب على حسب الأمزجة والأعمار والملكات الأدبية، فينظمون بمزاج الشاب طرفة، ومزاج الشيخ زهير، ومزاج العربيد الغزِل امرئ القيس، ومزاج الفارس المقدام عنترة بن شداد، ويتحرون لكل واحد مناسباته النفسية والتاريخية، ويجمعون له القصائد على نمط واحد في الديوان الذي ينسب إليه، ومعنى ذلك "ثالثًا" أن هذه القدرة توجد عند الرواة، ولا توجد عند أحد من الشعراء، ثم يفرط الرواة في سمعتها، وهم على هذا العلم بقيمة الشعر الأصيل، وما من ناقد يسيغ هذا الفرض ببرهان، فضلا عن إساغته بغير برهان، ولغير سبب، إلا أن يتوهم ويعزز التوهم بالتخمين، وأن تصديق النقائض الجاهلية جميعًا لأهون من تصديق هذه النقيضة التي يضيق بها الحس، ويضيق بها الخيال.

غير أن ذلك لا يعني عدم وقوع النحل والإدخال كما قال أبو حاتم السجستاني أن الناس يحملون على امريء القيس شعراً كثيراً لم يقله

وأسباب النحل كثيرة منها اتفاق قبيلة شاعرين أو ظروفهما الاجتماعية فتدخل قصائد هذا على هذا أو يكون وضعاً متعمداً داخل قصيدة مشهورة وهناك أسباب أخرى

اطلعت على دواوين كل من الحارث بن حلزة والمهلهل بن ربيعة وعمرو بن كلثوم والحارث بن عباد وحاتم الطائي وعنترة بن شداد وامريء القيس وطرفة بن العبد  والنابغة الذبياني ولبيد بن ربيعة وزهير بن أبي سلمى وأمية بن أبي الصلت وهؤلاء الأعيان

لاحظت عدة أمور من تأملها معي انتهى إلى تثبيت النبوة المحمدية الإسلامية

خصوصاً وأن الشعر هو تأريخ للضمير العربي آنذاك

أولها : أن هؤلاء الشعراء جميعاً كانوا من الأعيان فمنهم من هو سيد قومه ومنهم من هو فارس قومه ومنهم من هو حكيمهم كبير السن فيهم ومنهم من هو ملكهم ومنهم من هو ابن ملكهم وقد أوتوا من الهمة وقوة البيان الشيء العظيم

ومع ذلك ما غيروا في العرب شيئاً بل على العكس هم قد جاروا العرب في عامة أحوالهم السيئة فعامتهم يذكر الخمر حتى مثل عنترة ويذكرون الميسر وأما غزو بقية العرب والسلب والنهب فأمر فاش والفخر بالقوم والمدح بالباطل كثير فيهم حتى أن منهم من يفخر بأنهم يظلمون ولا يُظلمون

فما لم ترتقِ إليه قريحة هؤلاء جميعاً مع ما أوتوا من البيان والذكاء والفروسية جاء به رجل أمي قد بلغ الأربعين من عمره وما سجل عليه أنه قال قصيدة فحارب وأد البنات والربا والخمر والميسر والفخر بالأحساب وأسس ليس لأرضية تجمع بين العرب فحسب وتوحدهم بل لأرضية تجمع بين العرب وكل من يكون على دينهم حتى توحد على هذا الدين أعراق شتى كل يرى الآخر أخاه

قال أحمد في مسنده  23536 - ثنا إسماعيل ثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة حدثني من سمع : خطبة رسول الله صلى الله عليه و سلم في وسط أيام التشريق فقال يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد إلا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى أبلغت قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال أي يوم هذا قالوا يوم حرام ثم قال أي شهر هذا قالوا شهر حرام قال ثم قال أي بلد هذا قالوا بلد حرام قال فإن الله قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم قال ولا أدري قال أو أعراضكم أم لا كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا أبلغت قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ليبلغ الشاهد الغائب.

بل أبلغ من ذلك صار الفارسي المسلم والكردي المسلم والبربري المسلم أعلى من القرشي المشرك فقلبت الموازين الجاهلية رأساً على عقب

وتحرر العرب من سطوة الفرس وهذا أمر لم يستطعه أولئك الفرسان جميعاً فتأمل

ثانيها : أن الناظر في أشعارهم يجدهم من أقبل منهم على فضيلة لم يكن عنده وسيلة لنشرها بين الناس أو الحض عليها بل يبدو أن المرء منهم كان لا يحب هذا ويحب أن ينفرد بهذه الفضيلة

بخلاف النبوة التي جعلت الفضائل سلوكاً جمعياً فالتواضع سلوك جمعي في الحج والصلاة والسخاء على الفقراء سلوك جمعي والعفة سلوك جمعي وهكذا وكان العربي غاية همه أن يأخذ بثأر أو يظفر بمعشوقة أدنف بها حباً أو يجلب مجداً لقومه عن طريق الإغارة على الناس كما هو ظاهر من أشعارهم ولما جاءت النبوة أخذتهم لاتجاه آخر تماماً ورفعتهم فوق هذا بمراحل عظيمة

وعادة التجريبيين وغيرهم أن ينظروا لكل انتقال سريع مفاجيء إلى أنه قريب المعجزة وهذا ما نراه هنا

وقد نبه ابن حزم لشيء مما ذكرته هنا

قال ابن حزم في الفصل :" وبرهان ضَرُورِيّ لمن تدبره حسي لَا محيد عَنهُ وَهُوَ أَنه لَا خلاف بَين أحد من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَسَائِر الْملَل فِي أَن بني إِسْرَائِيل كَانُوا بِمصْر فِي أَشد عَذَاب يُمكن أَن يكون من ذبح أَوْلَادهم تسخيرهم فِي عمل الطوب بِالضَّرْبِ الْعَظِيم والذل الَّذِي لَا يصبر عَلَيْهِ كلب مُطلق فَأَتَاهُم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَدعُوهُم إِلَى فِرَاق هَذَا الْأسر الَّذِي قتل النَّفس أخف مِنْهُ وَإِلَى الْحُرِّيَّة وَالْملك وَالْغَلَبَة والأمن مَضْمُون مِمَّن هُوَ فِي أقل من تِلْكَ الْحَال أَن يُسَارع إِلَى كل من يطْمع على يَدَيْهِ بالفرج وَأَن يستجيب لَهُ إِلَى كل مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ وَإِن أَكثر من فِي هَذَا الْبلَاء يستخير عبَادَة من أخرجه مِنْهُ لَا سِيمَا إِلَى الْعِزّ وَالْحُرْمَة وَكَانُوا أَيْضا أهل عَسْكَر مُجْتَمع وَبني عمر يُمكنهُم التواطؤ ثمَّ كَانُوا أهل بلد صَغِير جدا قد تكنفهم الْأَعْدَاء من كل جَانب وَأما عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَمَا اتبعهُ إِلَّا نَحْو اثْنَي عشر رجلا معروفين وَنسَاء قَلِيل وَعدد لَا يبلغ جَمِيعهم وَفِي جُمْلَتهمْ الاثنا عشر إِلَّا مائَة وَعشْرين فَقَط هَكَذَا فِي نَص إنجيلهم وَكَانُوا مشردين مطرودين غير ظَاهِرين وَلَا يقوم بِمثل هَؤُلَاءِ ضَرُورَة يَقِين الْعلم وَأما مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يخْتَلف أحد فِي مشرق الأَرْض وغربها أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى إِلَى قوم لقاح لَا يقرونَ بِملك وَلَا يطيعون لأحد وَلَا ينقادون لرئيس نَشأ على هَذَا آباؤهم وأجدادهم وأسلافهم مُنْذُ أُلُوف من الأعوام قد سرى الْفَخر والعز والنخوة وَالْكبر وَالظُّلم والأنفة فِي طباعهم وهم أعداد عَظِيمَة قد ملؤا جَزِيرَة الْعَرَب وَهِي نَحْو شَهْرَيْن فِي شَهْرَيْن قد صَارَت طباعهم طباع السبَاع وهم أُلُوف الألوف قبائل وعشائر يتعصب بَعضهم لبَعض أبدا فَدَعَاهُمْ بِلَا مَال وَلَا اتِّبَاع بل خذله قومه إِلَى أَن ينحطوا من ذَلِك الْعِزّ إِلَى غرم الزَّكَاة وَمن الْحُرِّيَّة وَالظُّلم إِلَى جري الْأَحْكَام عَلَيْهِم وَمن طول الْأَيْدِي بقتل من أَحبُّوا وَأخذ مَال من أَحبُّوا إِلَى الْقصاص من النَّفس وَمن قطع الْأَعْضَاء وَمن اللَّطْمَة من أجل من فيهم لأَقل علج غَرِيب دخل فيهم وَإِلَى إِسْقَاط الأنفة وَالْفَخْر إِلَى ضرب الظُّهُور بالسياط أَو بالنعال إِن شربوا خمرًا أَو قذفوا إنْسَانا وَإِلَى الضَّرْب بِالسَّوْطِ وَالرَّجم بِالْحِجَارَةِ إِلَى أَن يموتوا إِن زنوا فانقاد أَكْثَرهم لكل ذَلِك طَوْعًا بِلَا طمع وَلَا غَلَبَة وَلَا خوف مَا مِنْهُم أحد أَخذ بِغَلَبَة إِلَّا مَكَّة وخيبر فَقَط وَمَا غزا قطّ غَزْوَة يُقَاتل فِيهَا إِلَّا تسع غزوات بَعْضهَا عَلَيْهِ وَبَعضهَا لَهُ فصح ضَرُورَة أَنهم إِنَّمَا آمنُوا بِهِ طَوْعًا لَا كرها وتبدلت طبعائهم بقدرة الله تَعَالَى من الظُّلم إِلَى الْعدْل وَمن الْجَهْل إِلَى الْعلم وَمن الْفسق وَالْقَسْوَة إِلَى الْعدْل الْعَظِيم الَّذِي لم يبلغهُ أكَابِر الفلاسفة وأسقطوا كلهم أَوَّلهمْ عَن آخِرهم طلب الثأر وَصَحب الرجل مِنْهُم قَاتل ابْنه وَأَبِيهِ وأعدى النَّاس لَهُ صُحْبَة الْأُخوة المتحابين دون خوف يجمعهُمْ وَلَا رياسة ينفردون بهَا دون من أسلم من غَيرهم وَلَا مَال يتعجلونه فقد علم النَّاس كَيفَ كَانَت سيرة أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَيف كَانَت طَاعَة الْعَرَب لَهما بِلَا رزق وَلَا عَطاء وَلَا غَلَبَة فَهَل هَذَا إِلَّا بِغَلَبَة من الله تَعَالَى على نُفُوسهم وقره عز وَجل لطباعهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَو أنفقت مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم} ثمَّ بَقِي عَلَيْهِ السَّلَام كَذَلِك بَين أظهرهم بِلَا حارس وَلَا ديوَان جند وَلَا بَيت مَال محروساً مَعْصُوما وَهَكَذَا نقلت آيَاته ومعجزاته فَإِنَّمَا يَصح من أَعْلَام الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورين مَا نقل عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِصِحَّة الطَّرِيق إِلَيْهِ وارتفاع دواعي الْكَذِب والعصبية جملَة عَن اتِّبَاعه فِيهِ فجمهورهم غرباء من غير قومه لم يمنهم بدنيا وَلَا وعدهم بِملك وَهَذَا لَا يُنكره أحد من النَّاس وَأَيْضًا فَإِن سيرة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن تدبرها تَقْتَضِي تَصْدِيقه ضَرُورَة وَتشهد لَهُ بِأَنَّهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقًا فَلَو لم تكن لَهُ معْجزَة غير سيرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكفى وَذَلِكَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نَشأ كَمَا قُلْنَا فِي بِلَاد الْجَهْل لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب وَلَا خرج عَن تِلْكَ الْبِلَاد قطّ إِلَّا خرجتين أَحدهمَا إِلَى الشَّام وَهُوَ صبي مَعَ عَمه إِلَى أول أَرض الشَّام وَرجع وَالْأُخْرَى أَيْضا إِلَى أول الشَّام وَلم يطلّ بهَا الْبَقَاء وَلَا فَارق قومه قطّ ثمَّ أوطأ الله تَعَالَى رِقَاب الْعَرَب كلهَا فَلم تغير نَفسه وَلَا حَالَتْ سيرته إِلَى أَن مَاتَ وَدِرْعه مَرْهُونَة فِي شعير لقوت أَهله أصواع لَيست بالكثيرة وَلم يبت قطّ فِي ملكه دِينَار وَلَا دِرْهَم وَكَانَ يَأْكُل على الأَرْض مَا وجد ويخصف نَعله بِيَدِهِ ويرقع ثَوْبه ويؤثر على نَفسه وَقتل رجل من أفاضل أَصْحَابه مثل فَقده يهد عَسْكَر اقْتُل بَين أظهر أعدائه من الْيَهُود فَلم يتسبب إِلَى أَذَى أعدائه بذلك إِذْ لم يُوجب الله تَعَالَى لَهُ ذَلِك وَلَا توصل بذلك إِلَى دِمَائِهِمْ وَلَا إِلَى ذمّ وَاحِد مِنْهُم وَلَا إِلَى أَمْوَالهم بل فدَاه من عِنْد نَفسه بِمِائَة نَاقَة وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَال مُحْتَاج إِلَى بعير وَاحِد يتقوى بِهِ وَهَذَا أَمر لَا تسمح بِهِ نفس ملك من مُلُوك الأَرْض وَأهل الدُّنْيَا من أَصْحَاب بيُوت الْأَمْوَال بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا يَقْتَضِي هَذَا أَيْضا ظَاهر السِّيرَة والسياسة فصح يَقِينا بِلَا شكّ أَنه إِنَّمَا كَانَ مُتبعا مَا أَمر بِهِ ربه عز وَجل كَانَ ذَلِك مضراً بِهِ فِي دُنْيَاهُ غَايَة الْإِضْرَار أَو كَانَ غير مُضر بِهِ وَهَذَا عجب لمن تدبره ثمَّ حَضرته الْمنية وأيقن بِالْمَوْتِ وَله عَم أَخُو أَبِيه هُوَ أحب النَّاس إِلَيْهِ وَابْن عَم هُوَ من أخص النَّاس بِهِ وَهُوَ أَيْضا زوج ابْنَته الَّتِي لَا ولد لَهُ غَيرهَا وَله مِنْهَا أبان ذكران وكلا الرجلَيْن الْمَذْكُورين عَمه وَابْن عَمه عِنْده من الْفضل وَالدّين والسياسة فِي الدُّنْيَا والبأس والحلم وخلال الْخَيْر مَا كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا حَقِيقا بسياسة الْعَالم كُله فَلم يحابهما وهما من أَشد النَّاس عناء عَنهُ ومحبة فِيهِ وَهُوَ من أحب النَّاس فيهمَا إِذْ كَانَ غَيرهمَا مُتَقَدما لَهما فِي الْفضل وَإِن كَانَا بعيد النّسَب مِنْهُ بل فوض الْأَمر إِلَيْهِ قَاصِدا إِلَى مر الْحق وَاتِّبَاع مَا أَمر بِهِ وَلم يُورث ورثته ابْنَته ونساءه وَعَمه فلسًا فَمَا فَوْقه وهم كلهم أحب النَّاس إِلَيْهِ وأطوعهم لَهُ وَهَذِه أُمُور لمن تأملها كَافِيَة مغنية فِي أَنه إِنَّمَا تصرف بِأَمْر الله تَعَالَى لَا بسياسة وَلَا بهوى فوضح بِمَا ذكرنَا وَالله الْحَمد كثيرا أَن نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حق وَأَن شَرِيعَته الَّتِي أَتَى بهَا هِيَ الَّتِي وضحت براهينها واضطرت دلائلها إِلَى تصديقها وَالْقطع على أَنَّهَا الْحق الَّذِي لَا حق سواهُ وَأَنَّهَا دين الله تَعَالَى الَّذِي لَا دين لَهُ فِي الْعَالم غَيره وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين عدد خلقه ورضاء نَفسه وزنة عَرْشه ومداد كَلِمَاته على مَا وفقنا إِلَيْهِ من الْملَّة الإسلامية"

الأمر الثالث : أنه لا يظهر في عامة أشعارهم صنعة الابتهال لله تبارك وتعالى والثناء عليه والتي ظهرت في شعر الشعراء بعد الإسلام بل دائماً يأتي ذكر الله عرضاً وكثير من أسماء الله الحسنى لا يكاد يوجد لها ذكر في أشعارهم مثل اسم القدوس والجبار والمتكبر ونظيراتها

ويكثر سب الدهر في قصائدهم

فإن قلت : ماذا عن أمية بن أبي الصلت ؟

فيقال : هذا الشاعر طفق المستشرقون يزعمون أن القرآن أخذ منه لما وجدوا في قصائده من ذكر قصص الأنبياء التي في السور المكية وغفلوا عن أمر هام أن عامة قصائده إنما تروى في العصر الإسلامي فقد تكون ملفقة

بل غفلوا عن أمر أشد أهمية وهو أنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدح في أربع مواطن أو خمسة من قصائده في ديوانه المتأخر وفي أحد المواطن يصرح بالانتفاع بالقرآن

قال الباحث إبراهيم عوض  كذلك رجعتُ إلى تخريجات القصائد المشابهة للقرآن الكريم التي قام بها بهجة الحديثي في رسالته عن أمية، فلفت انتباهي أن هذه القصائد، أو على الأقل الأبيات التي يوجد فيها ذلك التشابه، لم ترِد في أي من كتب الأدب واللغة والتاريخ والتفسير المعتبَرة؛ ككتاب "جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد القرشي، أو "طبقات الشعراء" لابن سلام، أو "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، أو "الأغاني" للأصفهاني، أو "تاريخ الرسل والملوك" أو "جامع البيان في تفسير القرآن" للطبري مثلاً، بل إن كثيرًا من هذه الأشعار لم ترِد في طبعة الديوان الأولى، فضلاً عن أن بعضها قد نُسب في ذات الوقت إلى غيره من الشعراء، ونقطة أخرى مهمَّة جدًّا: لماذا لم يُثِر علماؤنا المتقدِّمون قضية التشابه بين شعر أمية والقرآن الكريم باستثناء محمد بن داود الأنطاكي، الذي كان يَردُّ - فيما يبدو - على من اتَّهم القرآن بالأخذ عن أمية بأن ذلك غير صحيح؛ لأنه - عليه السلام - لا يمكن أن يستعين في كتابه بشعر رجل أقرَّ بنبوَّته وصدَّق بدعوته، وأنه لو كان صحيحًا رغم ذلك لسارَع أمية إلى اتهام الرسول بالسرقة من شعره، وبذلك تسقُط دعوته - صلى الله عليه وسلم - بأيسر مجهود وأقلِّه؟ (الزهرة/ تحقيق د. إبراهيم السامرائي ود. نور حمود القيسي، ط2، مكتبة المنار، الزرقاء، 1406ه - 1985م/ 2/503)،

أقول : فمن القصائد المنسوبة له


لك الحمد والمنُّ رب العبا
دِ أنت المليك وأنت الحَكَمْ
ودِنْ دين ربك حتى التُّقى
واجتنبنَّ الهوى والضَّجَمْ
محمدًا ارْسَله بالهدى
فعاش غنيًّا ولم يُهتضَمْ
عَطاءٌ من الله أُعطيتَه
وخصَّ به الله أهل الحرمْ
وقد علِموا أنه خيرهم
وفي بيتهم ذي الندى والكرمْ
نبيُّ هدًى صادق طيِّب
رحيم رؤوف بوصْل الرَّحمْ
به ختَم الله مَن قبله
ومَن بعده من نبي ختَمْ
يموت كما مات مَن قد مضى
يُردُّ إلى الله باري النَّسمْ
مع الانبياء في جنان الخلو
د، همُ أهلها غير حِلِّ القَسمْ
وقُدِّس فينا بحب الصلاة
جميعًا، وعلَّم خط القلمْ
كتابًا من الله نقرا به
فمن يعتريه فقَدْمًا أَثِمْ

فإذا شكك المشكك بهذه القصيدة يسر وسهل التشكيك بكل ما سواها ونقضت الشبهة نفسها بنفسها علماً أنه روي عنه رثاء المشركين فكيف يكون حنيفياً مخلصاً للحنيفية وهو يقف مع عباد الأصنام في بدر ضد المسلمين الحنفاء

ولا يوجد في قصائده أي ذكر للشرائع من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها من الشرائع الإسلامية ولا ذكر لأي أمور ستقع للمشركين والمؤمنين كما في القرآن فلو صحت تلك القصائد له يكون معناها بكل وضوح أنه كان يسمع القرآن المكي ويسرد القصائد بفوائده وهذا واضح من مدحه للقرآن

كما أنه روي بأسانيد محتمله شربه للخمر ودعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم  أخذ من أمية لم يطرحها حتى المشركون لسخفها في أنفسهم يبدو

والذي في قصائده ليس في كتب اليهود والنصارى وإنما هو أمر إسلامي محض

والعجيب في أمر المشككين أنهم يصدقون بقصائد منقطعة لأمية ويكذبون بالمتواترات ويصدقون نصفها ويكذبون النصف الذي يثني فيه على النبي وأخلاقه ودينه ونبوته !

فانظر الحقد إلى أين يوصل صاحبه ؟

ومما لا يلاحظ أنه حتى في عموم الشعراء الذين قيل فيهم أنه نصراني أو حنيفي أنهم لا يقيمون الأدلة على الدين بل عامتهم لا يذكر المسيح البتة

ونبينا من الله عليه بالقرآن الذي فيه الدفاع عن سليمان وعن هارون وعن مريم وبيان لما كتم اليهود وهذا أمر معجز

ولكن الذي أريد التنبيه عليه النقلة النوعية التي نقلت للعرب بالوحي من رجل أمي وقد سبقه أقوام أولو بيان وذكاء

وإذا كانت العرب حفظت قصائد من حفظت من هؤلاء وفيها ما تجد في بعضها من الفحش والرقاعة كأشعار امريء القيس وفيها وما فيها من الهجائيات وفيها ما فيها من التفاخر بقهر وغلبة بعضهم البعض

فكيف لا يحفظون سنن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أجل في نفوسهم من كل هؤلاء وما مات إلا وهو ملك عليهم جميعاً وشريعته هي المرجع والمفزع عندهم في كل دقيق وجليل وما لبث الأمر إلا وقد حمله معهم كل أمة دخل في هذا الدين الحنيف
ثم إن نظم القرآن مختلف كل الاختلاف عن شعر العرب وعن نثرهم ومع ذلك ما أحسنه على السمع وما أرقه ومواضيعه مختلفة عن الاختلاف عن بيئة القوم
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم