الجمعة، 16 ديسمبر 2016

ليسوا ملاحدة بالمعنى الذي تظنون ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
 
فتنتشر كتابة مأخوذة من بعض ما كتب عبد الرحمن بدوي في دعوى أن بعض الأعلام المشاهير في التاريخ الإسلامي ملاحدة

والملحد بمعنى من ينكر وجود الله أو ينكر النبوات مطلقاً وكلها دعاوى لا أصل لها من الصحة فأول هؤلاء الأعلام

أ_ ابن المقفع

وهذا الرجل كان يتهم بالميل للمجوسية دينه القديم لأنه كان مجوسياً فأسلم غير أن كتاباته تدل على إيمانه بالدين والمرء يؤخذ بما كتب لا بما اتهم به وقد تكون عنده بعض العقائد الفاسدة الكفرية ولكنه لم يكن طاعناً في وجود الله ولا في أصل النبوة

قال ابن المقفع في كتابه الأدب :" وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين, وفي الأخلاق, وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدره, أو في كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه، ويكلفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفًا من إصلاح الخلة3, والخلتين, والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر.
فكلما أصلح شيئًا محاه، وكلما نظر إلى محو استبشر، وكلما نظر إلى ثابت اكتأب"

ويقول أيضاً :" الدين أفضل المواهب التي وصلت من الله إلى خلقه، وأعظمها منفعة، وأحمدها في كل حكمة، فقد بلغ فضل الدين والحكمة أن مدحا على السنة الجهال, على جهالتهم بهما وعماهم عنهما"

ويقول أيضاً :" فضل العلم في غير الدين ملهكة، وكثرة الأدب في غير رضوان الله, ومنفعة الأخيار قائد إلى النار"

فرمي شخص كهذا بالإلحاد على المعنى المعروف عندنا سفه

ب_ محمد بن زكريا الرازي

فهذا نسبوا له نفي النبوة والقول بإنكار الخالق

وهذا غير صحيح وإنما هو يقول بحدوث العالم وله رسالة فيما بعد الطبيعة ينكر فيها على الطبائعيين ويبدو من حاله أنه يثبت النبوة بالجملة ولكنه لا يثبتها على المعنى الشرعي وإنما على معنى فلسفي لهذا نسبه ابن تيمية إلى نفيها بالمعنى الشرعي الخاص وإلا كلامه في الاعتراف بوجود أنبياء واضح

قال محمد بن زكريا الرازي في رسالته في الأخلاق :" فنقول: إنه ليس من أحد يستجيز أن يُعَد العشق منقبةً من مناقب الأنبياء ولا فضيلةً من فضائلهم ولا أنه شئ آثروه واستحسنوه، بل إنما يُعَدّ هفوةً وزلةً من هفواتهم وزلاّتهم"

وأما رسالته فيما بعد الطبيعة فيقول فيها :" ومما يسألون عنه أن يقال لهم: إنا وجدناكم تصفون الطبيعة بما تصفون به الحي المختار العالم الحكيم فتقولون إنها لا تفعل إلا حكمة وصوابا وإنها تقصد غرضا وتفعل شيئا لشيء يكون، كفعلها للجنين العين للنظر واليد للبطش والأضراس للطحن وإنها تضع جميع الأشياء مواضعها وترتبها على ما يجب أن ترتبها عليه وإنها تصور الجنين في الرحم وتدبِّره ألطف تدبير حتى يكمل ثم تدبر الإنسان وتجلب له الصحة وتنفي عنه الأسقام حتى قال بقراط الطبائع أطباء الأمراض. ثم زعمتم مع ذلك أنها موات غير حية ولا حساسة ولا قادرة ولا مختارة ولا عالمة. وهذه مناقضة بينة وإحالة ظاهرة لأن ما وصفتموها به لا يكون إلا من الحي المختار"

فهو يقول أن الطبائعيين الذي يقولون ليس ثمة إلا الطبيعة يتناقضون فيقولون الطبيعة تفعل كذا لكذا تعطي العينين للرؤية مثلاً والطبيعة في نفسها معنى أصم لا حقيقة خارجية له فكيف ينسبون لها أفعالاً لا يفعلها إلا الحي المختار

وهذا الإيراد القوي يرد على العلمويين الطبائعيين إلى يومنا هذا

وعامة رسائله تبدأ بالبسملة وتنتهي بالصلاة على النبي مما يدل على أنه كان متظاهراً بالشريعة

نعم هو تكلم بزندقة في مسألة القدماء الخمسة ولكنه لم ينكر وجود الخالق أو النبوات فضلاً عن دعوى أنه ألف يناقض القرآن والكتب الأخرى فهذا كذب

ج_ جابر بن حيان

فهذا الرجل شخصية غامضة ولا يعرف عنه أي كلام في الإلهيات بل الشيعة تنسبه لها والله أعلم

قال إحسان عباس في تحقيقه لرسائل ابن حزم :" ولكنا نعتقد أنها أقدم بكثير من التقسيمات الثلاثية، وأنها ربما كانت وليدة اشتداد حركة الترجمة في القرن الثاني الهجري، ذلك أنا نجدها عند جابر بن حيان (200 / 815) الذي يرى أن العلوم تقع في ضربين: علم الدين وعلم الدنيا (1) ؛ إلا أننا إذا استرسلنا مع جابر في تفريعاته وجدناه يبني منهجاً غايةً في الغرابة، فيقسم العلوم الدينية إلى شرعية وعقلية، والشرعية ظاهرة وباطنة، والعقلية نوعان: علوم معانٍ وعلوم حروف، فعلوم المعاني نوعان: فلسفة وإلهية وعلوم الحروف تنقسم أيضاً إلى قسمين: طبيعي وروحاني، فالطبيعي إلى أربعة: هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسية، والروحانية ينقسم بدوره إلى نوراني وظلماني. ذلك هو الهيكل الذي تمثل أركانه العلوم الدينية؛ أما العلوم الدنيوية فيقسمها جابر بحسب قيمتها إلى علم شريبف وعلم وضيع: فالعلم الشريف هو الكيمياء المجال الذي اختاره جابر لفكره وتجاربه والوضيع هو علم الصنائع التي تعين الإنسان على الكسب الدنيوي"

ثم أحال في الحاشية على رسائل جابر بن حيان

فإن كان الأمر كذلك فالرجل بعيد كل البعد عن الإلحاد بمعنى إنكار الخالق أو إنكار النبوات

قال جمال الدين القفطي المتوفى عام 646 في كتابه إخبار العلماء  :"  جابر بن حيان الصوفي الكوفي كَانَ متقدماً فِي العلوم الطبيعية بارعاً منها فِي صناعة الكيمياء وَلَهُ فِيهَا تآليف كثيرة ومصنفات مشهورة وَكَانَ مع هَذَا مشرفاً عَلَى كثير من علوم الفلسفة ومتقلداً للعلم المعروف بعلم الباطن وهو مذهب المتصوفين من أهل الإسلام كالحارث بن أسد المجاشي وسهل بن عبد الله التستري ونظرائهم .. وذكر محمد بن سعيد السرقسطي المعروف بابن المشاط الاصطرلابي الأندلسي أنه رأي لجابر بن حيان بمدينة مصر تآليفاً فِي عمل الاصطرلاب يتضمن ألف مسألة لا نظير لَهُ"

فإذا كان صوفياً متزهداً فهو أبعد ما يكون عن دعوى الإلحاد

وقال ابن النديم الشيعي في كتابه الفهرست :" هو أبو عبد الله جابر بن حيان بن عبد الله الكوفي المعروف بالصوفي واختلف الناس في أمره فقالت الشيعة إنه من كبارهم وأحد الأبواب وزعموا أنه كان صاحب جعفر الصادق رضي الله عنه وكان من أهل الكوفة وزعم قوم من الفلاسفة انه كان منهم وله في المنطق والفلسفة مصنفات وزعم أهل صناعة الذهب والفضة أن الرياسة انتهت اليه في عصره"

د_ أبو العلاء المعري

وهذا البحث فيه طويل ولا يعرف عنه أي كلام في إنكار الخالق وإنما نسب إلى قول البراهمة الذين ينكرون النبوات

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء :" قَالَ السِّلَفِيّ: وَمِنْ عَجِيْب رَأْي أَبِي العَلاَءِ تركُهُ أَكل مَا لاَ يَنْبُتُ حَتَّى نُسِبَ إِلَى التَّبَرْهُم، وَأَنَّهُ يَرَى رَأْي البرَاهِمَةِ (2) فِي إِثْبَات الصَّانعِ وَإِنْكَارِ الرُّسلِ، وَتَحْرِيْم إِيذَاء الحيوَانَاتِ، حَتَّى العقَارب وَالحيَّات، وَفِي شِعْرِهِ مَا يَدلُّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لاَ يَسْتَقِرُّ بِهِ قرَار، فَأَنشدنِي أَبُو المَكَارِمِ الأَسَدِيّ، أَنشدنَا أَبُو العَلاَءِ لِنَفْسِهِ (3) :
أَقَرُّوا بِالإِلهِ وَأَثْبِتُوهُ ... وَقَالُوا: لاَ نَبِيَّ وَلاَ كِتَابُ
قَالَ: وَأَنشدنَا أَبُو تَمَّام غَالِبُ بنُ عِيْسَى بِمَكَّةَ، أَنشدنَا أَبُو العَلاَءِ المَعَرِّيّ لِنَفْسِهِ (4) :
أَتَتْنِي مِنَ الإِيْمَان سِتُّوْنَ حِجَّةً ... وَمَا أَمْسَكَتْ كَفِّي بِثِنْيِ عِنَانِ
وَلاَ كَانَ لِي دَارٌ وَلاَ رُبْعُ مَنْزِلٍ ... وَمَا مسَّنِي مِنْ ذَاكَ رَوْعُ جَنَانِ
تَذكَّرتُ أَنِّي هَالكٌ وَابْنُ هَالِكٍ ... فَهَانَتْ عليَّ الأَرْضُ وَالثَّقَلاَنِ
وَبِهِ: قَالَ السِّلَفِيّ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّة عَقيدَتِهِ مَا سَمِعْتُ الخَطِيْب حَامِدَ بنَ بختيَار، سَمِعْتُ أَبَا المَهْدِيّ (5) بنَ عبدِ الْمُنعم بن أَحْمَدَ السَّرُوجِي، سَمِعْتُ أَخِي أَبَا الفَتْح القَاضِي يَقُوْلُ:
دَخَلتُ عَلَى أَبِي العَلاَءِ التنوخِي بِالمَعَرَّة بَغْتَةً، فَسمِعتُهُ يُنشدُ (6) :
كَمْ غُودِرَتْ (7) غَادَةٌ كَعَابٌ ... وَعُمِّرت أُمُّهَا العَجُوْزُ
أَحرَزَهَا الوَالِدَانِ خَوفاً ... وَالقَبْرُ حِرْزٌ لَهَا حَرِيزُ
يَجوزُ أَنْ تُخْطِئ (8) المنَايَا ... وَالخُلْدُ فِي الدَّهْرِ لاَ يَجُوْزُ
ثُمَّ تَأَوَّهَ مَرَّات، وَتَلاَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَمِنْهُم شَقِيٌّ وَسَعِيْدٌ} [هود:103 - 105] .
ثُمَّ صَاح وَبَكَى، وَطرح وَجهه عَلَى الأَرْضِ زَمَاناً، ثُمَّ مَسحَ وَجْهَهُ، وَقَالَ: سُبْحَانَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا فِي القِدَمِ! سُبْحَانَ مَنْ هَذَا كَلاَمُه! فَصبرتُ سَاعَةً، ثُمَّ سَلَّمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: أَرَى فِي وَجْهِكَ أَثَرَ غِيظٍ؟
قَالَ: لاَ، بَلْ أَنشدتُ شَيْئاً مِنْ كَلاَم المَخْلُوْق، وَتَلَوْتُ شَيْئاً مِنْ كَلاَم الخَالِق، فَلَحِقَنِي مَا تَرَى.
فَتحققت صِحَّة دينه.
وَبِهِ: قَالَ السِّلَفِيّ: سَمِعْتُ أَبَا زَكَرِيَّا التبرِيزِي يَقُوْلُ: أَفْضَلُ مَنْ قَرَأْتُ عَلَيْهِ أَبُو العَلاَءِ"

ويبدو أنه كان مضطرباً ولعل آخر أحواله التوبة ولمحمود شاكر دفاع عنه في كتابه أباطيل وأسماء

قال الذهبي في السير :" قَبْرُهُ دَاخِل المَعَرَّة فِي مَكَان دَاثِرٍ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ: أَبُو طَاهِرٍ بنُ أَبِي الصَّقْر الأَنْبَارِيّ، وَطَائِفَة، وَقَدْ طَالَ المَقَالُ، وَمَا عَلَى الرَّجُلِ أُنْسُ زُهَّادِ المُؤْمِنِيْنَ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا خُتِمَ لَهُ"

ورسالة الغفران له توحي بإيمان بالجملة على أنه له أقوال خبيثة
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم