الأحد، 4 مايو 2014

لماذا كفر السلف الجهمية ؟



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

فإن إدراك علل الأمور يعين على القياس الصحيح مستوفي الشروط ، وفي هذا المقال سأحاول بيان حقيقة علمية يقررها كثيرون بألسنتهم ثم ينفونها في كثير من أظهر صورها مما يدل على بلادة وجمود عجيبين أو قلة توفيق أو ركون إلى التقليد

على أنني سأجهد في بيان هذه الحقيقة بطريقة سلسة يفهما عامة الناس

ويبدأ الأمر من سؤال يسير : لماذا كفر السلف الجهمية ؟

لعل الجواب حاضر عن كثير من القراء غير أنني سأنقل نصاً هاماً في المسألة ينقله شيخ الإسلام ابن تيمية في التسعينية هذا النص لطالما غيبته الأيدي الآثمة وربما إذا ظهر لا يعقلون خطورته على مذاهبهم

قال ابن تيمية في التسعينية (2/577_581) :" ولهذا لما قال له _ يعني للإمام أحمد _ الأثرم فمن قال : القرآن مخلوق وقال لا أقول أسماء الله مخلوقة ولا علمه ، لم يزد على هذا أقول : هو كافر ، فقال : هكذا هو عندنا ، ثم استفهم استفهام المنكر : فقال : نحن نحتاج إلى أن نشك في هذا ؟ القرآن عندنا فيه أسماء الله وهو من علم الله فمن قال مخلوق فهو عندنا كافر
فأجاب أحمد : بأنهم وإن لم يقولوا بخلق أسمائه وعلمه فقولهم يتضمن ذلك ، ونحن لا نشك في ذلك حتى نقف فيه ، فإن ذلك يتضمن خلق أسمائه وعلمه ، ولم يقبل أحمد قولهم ( القرآن مخلوق ) وإن لم يدخلوا فيه أسماء الله وعلمه ، لأن دخول ذلك فيه لا ريب فيه ، كما أنهم لما قالوا القرآن مخلوق ، خلقه الله في جسم ، لكن هو المتكلم به لا ذلك الجسم لم يقبل ذلك منهم ، لأنه من المعلوم أنه إنما كلام ذلك الجسم لا كلام الله ، كإنطاق الله لجوارح العبد وغيرها ، فإنه يفرق بين نطقه وبين إنطاقه لغيره "

أقول : لنقف مع النص وقفات متأنية سائلين المولى عز وجل أن يوفقنا لما فيه طاعته ورضاه

هنا حقيقة علمية : وهي أن الجهمية الذين كفرهم السلف كانوا يقولون أن الله متكلم بمعنى أنه يخلق الكلام في غيره فما كانوا إلا نافين لصفة الكلام وكفرهم السلف فكونك تثبت لفظاً وتثبت حقيقة أخرى غير المعروف من هذا اللفظ لغة وشرعاً فهذا محض عبث ولعب

والسؤال الدامغ على هذه الحقيقة : الأشاعرة الذين تحمر لهم الأنوف اليوم أليسوا أثبوا لله كلاماً نفسياً وليس هذا معنى الكلام المعروف في لغة العرب فإن الكلام هو ما كان بحرف وصوت مسموع ، ثم إنهم صرحوا بعد ذلك بأن القرآن الذي بين أيدينا عبارة أو حكاية عن كلام الله فهو مخلوق ؟

والجواب لن يكون إلا نعم وابن تيمية ما ذكر الكلام السابق إلا رداً عليهم وقد صرح ابن بطة وعبد الغني وابن قدامة واللالكائي بأن مذهبهم في القرآن مكفر ، فعلى هذا هم جهمية ينطبق عليهم ما ينطبق على الجهمية من التكفير بل الإجماع على ذلك

ثم أليس قولهم في صفة العلو أقبح من قولهم في القرآن ( وأعني بذلك متأخريهم ) ؟

وهنا نص نفيس آخر لابن تيمية

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (6/468) :" وَسَلَفُ الْأُمَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى أَوْ بِمَعْنًى آخَرَ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ ضَالٌّ"

فإذا قلنا كل أشعري ينكر العلو جهمي والجهمي كافر كان عبارة صحيحة تماماً على هذا الإجماع

وقد أجمع السلف على أن من قال القرآن مخلوق فهو كافر

فمن أقر بهذا الإجماع ثم أنكر قولنا كل من ينكر العلو فهو كافر فهو أضل من حمار أهله

فلو حذفنا ( من ينكر العلو ) واستبدلناها ب( أشعري ) والأشاعرة منذ قرون كلهم ينكرون العلو هل ستكون العبارة مردودة ؟!

وقول الأثرم للإمام أحمد ( أقول هو كافر ) هوضمير يقوم مقام اسم الإشارة  يدل على معين فظاهر هذا أنهم يكفرون المعين ممن هذه حاله وهذا ظاهر جداً في نصوص أحمد حتى أنه يطلق عدم صحة الصلاة خلفهم ويأمر بالإعادة ، فعلى الأقل تكون هذه رواية في المذهب والواقع أنها هي المذهب ولا يعارضها شيء يسلم

والسلف عندما كانوا يقولون ( الجهمية كفار ) كانوا يعلمون أن منهم متأول ومنهم جاهل فلست أورع منهم ولا أدين 

وقال ابن تيمية أيضاً كما في مجموع الفتاوى (3/219) :"  وهؤلاء يقولون لهم لا يستوى الله على العرش كقول اخوانهم ليس هو بسميع ولا بصير ولا متكلم لأن هذه الألفاظ عندهم مجاز فيأتون الى محض ما أخبرت به الرسل عن الله سبحانه يقابلونه بالنفى والرد كما يقابله المشركون بالتكذيب لكن هؤلاء لا ينفون اللفظ مطلقا "

فجعلهم إخوان الجهمية لأنهم جهمية وحكمهم واحد 

الوقفة الثانية : قد اعتبر الإمام أحمد قول الجهمية في القرآن متضمناً للقول بخلق العلم وأسماء الله وإن يقولوا به

فلو قال قائل اليوم : قول الجهمية الأشعرية في إنكار العلو يتضمن إعدام الرب ولا وجود له في الحقيقة فالذي لا داخل العالم ولا خارجه ولا يجيء ويرى إلى غير جهة هو العدم فهل عليه من تثريب وهل يقال أنت تأخذ بلازم القول لتكفر الناس ؟

فالخلاصة : أن من فرق بين الجهمية والأشعرية حكماً وحالاً لم يفقه الأمر على وجهه بل لم يفهم عقيدة أهل السنة وعقيدة الجهمية في المسألة ولم يعرف الخلاف وللأسف بعضهم متخصص في العقيدة وبعضهم يتغنى بإجماع السلف على تكفير الجهمية ولا يدري أنه يتناول من يدعي الإجماع على عدم تكفيرهم ، وأن من قال ( فلان أشعري ) ثم غضب من قولك عن هذا الشخص نفسه ( جهمي ) فهو لا يدري شيئاً من قواعد السلف في الحكم على الجهمية

وما الفرق بين الواقفة الأولى والغزالي والنووي في بعض كتبه الذين توقفوا في مسألة الحرف والصوت ولم يتكلموا بما في الأدلة بل صرحوا أن إثبات الحرف والصوت لا يجوز كنفيهما فهؤلاء توقفوا في أن الله يتكلم كالواقفة الأولى تماماً الذين سماهم السلف شاكة وجهموهم بل قالوا أنهم شر من الجهمية

وقد اشتد نكير السلف على من لم يكفر الجهمية

قال عبد الله بن أحمد في السنة 19 - حدثني غياث بن جعفر ، قال : سمعت سفيان بن عيينة ، يقول : « القرآن كلام الله عز وجل ، من قال : مخلوق ، فهو كافر ، ومن شك في كفره فهو كافر »

وقد نقل حرب الإجماع على هذه المسألة فما بالك بمن يطلق القول بعدم تكفير منكر العلو والقائل بخلق القرآن عن طريق الكلام النفسي فيقول ( ليسوا كفار ) و ( مسلمون مؤمنون باتفاق ) و ( منهم أئمة )

وقد أطلق ابن أبي العز وابن القيم وابن تيمية أن مذهب الأشاعرة في القرآن أخبث من مذهب المعتزلة وقال ابن أبي العز ( أكفر ) فإذا جمعنا بين نص بين ابن عيينة وابن أبي العز كانت عندنا نتيجة خطيرة تستدعي من المرء أن يعيد النظر بما هو عليه

وهذا نفي إطلاقاً وتعييناً فمن فرق بين الإطلاق والتعيين فإنه لا يمنع من إطلاق ( الجهمية كفار ) واليوم يمنعون من إطلاق ( الأشاعرة كفار ) مع أنهم جهمية تشملهم كل نصوص السلف ، ثم إنك إذا منعت من إطلاق التكفير بحجة هذا التفريق فلماذا تطلق أنت القول بالإسلام وتحكم لأعيان علماء المذهب الكفري بالإسلام ؟

فلا شك أن هذا واقع تحت مطرقة نصوص السلف ( غير أن كثيراً منهم جاهل ومنهم من عنده شبهة أثرية فيظن أن الجهمية الأشعرية ليسوا جهمية باتفاق ولم يكفرهم أحد فهذا معذور حتى تبلغه البينة ومنهم من يكفر القول ويكفر القائل به بعد قيام الحجة ثم يقول عن نفسه أنه لا يكفر الفرقة وهو في لسان العلماء مكفر ولا يدخل داخل كلام حرب ولمزيد تفصيل يراجع مقالي توضيح إجماع حرب )  ، والعجيب أنك تجدهم تنازعون في مسائل السمع والطاعة أو بعض مسائل الإيمان مع اتفاقهم على هذه السقطة العظيمة

بل من أعجب ما رأيت قول حامد العلي عن تأويلات الصنعاني للصفات ( لا تنقص من قدره )

وهذه التأويلات يسميها السلف تجهماً كما تقدم في كلام ابن تيمية وبدعة الجهمية تكلم السلف في تكفير أهلها ما لم يتكلموا في تكفير فئة أخرى من أهل الأهواء كما نص عليه ابن تيمية في درء التعارض

فحقيقة قول حامد العلي ( لا ينقص قدر الصنعاني كفر الجهمية )

وهذا إرجاء لا نظير له في التاريخ ، ولو قالها في ضلالة مفسقة لكان قوله إرجاء لأنه إذا كانت الضلالة لا تنقص قدره فإصابة الحق لا يزيد منه وهذا إرجاء له قرون

وفقط ينقص قدره عند حامد العلي أن لا يكفر الحكام

وهذا الباقلاني الأشعري مع كونه يثبت العلو إلا أنه نصر مذهب جهم الكفري في الإيمان وفي القدر

فلو كانت ضلالات الأشاعرة المكفرة واحدة لهان الأمر ولكن قولهم في العلو وفي الكلام وفي الحكمة وفي الصفات الفعلية وفي القدر والإيمان كل منها مكفر على حدة

ومن نازع في بعضها لا يمكن أن ينازع فيها كلها

والواقع أن من درس العقيدة ولم يقطع بأن الأشاعرة جهمية ينطبق عليهم ما قاله السلف وأنهم أولى بالتجهيم من اللفظية والواقفة ، فهو بحاجة إلى إعادة دراسة العقيدة وهو أولى بذلك من التدريس

كما أن من درس الفقه ولم يفرق بين طريقة أهل الرأي وطريقة أهل الحديث وطريقة أهل الظاهر ، ولم يقطع بأن الهدى مع أهل الحديث وأن ما سواه لا يجوز لمسلم القول به من لم يقع له ذلك فهو لم يفهم الفقه وعليه إعادة دراسة هذا العلم

ومن درس الحديث ولم يعرف العلل ولم يحترم أحكام الأئمة ولم يدرك بعد نظرهم في مسألة سلوك الجادة وتفرد الصدوق وما اجتنبوا إخراجه مع كون رجاله ثقات فهذا أحوج إلى إعادة دراسة هذا العلم منه إلى التصنيف

وصدقني أخي القاريء كثير ممن يذمون الطواغيت هم في أنفسهم  طواغيت في أنفسهم تجاوزوا حدودهم وغيروا حكم الله ومنهم من صار رأساً في الضلالة ومن اتبعهم في مخالفتهم للسلف وتبديلهم لمذهبهم فهو يسير بخطى ثابتة إلى سواء الجحيم والحق أبلج والباطل لجلج
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم