الثلاثاء، 18 فبراير 2014

من نفائس ابن القيم : من لم يفهم الحجة ليس معذوراً ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/102) :" و"إنما المراد سلب السمع الذي يترتب عليه فائدته وثمرته والقدر حق ولكن الواجب تنزيل القرآن منازله ووضع الآيات مواضعها واتباع الحق حيث كان ومثل هذا إذا لم يحصل له فهم الخطاب لا يعذر بذلك لان الآفة منه وهو بمنزلة من سد اذنيه عند الخطاب فلم يسمعه فلا يكون ذلك عذرا له ومن هذا قولهم قلوبنا في أكنة مما تدعونا اليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب يعنون انهم في ترك القبول منه ومحبة الاسماع لما جاء به وإيثار الاعراض عنه وشدة النفار عنه بمنزلة من لا يعقله ولا يسمعه ولا يبصر المخاطب لهم به فهذا هو الذي يقولون لا خلود في النار ولو كنا نسمع او نعقل ما كنا في أصحاب السعير ولهذا جعل ذلك مقدورا لهم وذنبا اكتسبوه فقال تعالى فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير"

فصرح ابن القيم أن من لم يفهم الحجة لا يكون معذوراً لأن العيب إنما كان منه

وفي هذا إبطال لقول من يقول أن الحجة من القرآن والسنة إذا بلغت الشخص لا ترفع عذره الذي يقيه العذاب حتى يفهمها فإن لم يفهمها بقي معذوراً

وهذا غلط عظيم فإن عدم الفهم إن تصور في المسائل الخفية فلا يتصور في جليات المسائل ومباني الدين العظام خصوصاً ما دل عليه حتى الفطرة كتوحيد العبادة وعلو الله عز وجل على خلقه

فمن فرض أن عربياً سمع أدلة الكتاب والسنة في علو الله أو توحيد العبادة ولم يفهم فقد فرض أمراً مستحيلاً فإن الله عز وجل سماه كتابه تبياناً لكل شيء وهدى ونور

فكيف يكون ما هذه صفته معجوزاً عن فهمه في أظهر مسائل الدين التي يعرف حتى اليهود والنصارى أنها من دين الإسلام؟

قال شيخ الإسلام في درء التعارض  (5/62) :"  وهو كما قال فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور وبين الباطل والظلام وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها ولولا ما في القلوب من الإستعداد لمعرفة الحقائق لم يكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولولا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها وكما أن في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافى ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك "

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (3/272) :" فإن المسلمين متفقون على ما علموه بالإضطرار من دين الإسلام أن العبد لا يجوز له أن يعبد ولا يدعو ولا يستغيث ولا يتوكل إلا على الله وأن من عبد ملكا مقربا أو نبيا مرسلا أو دعاه أو استغاث به فهو مشرك فلا يجوز عند أحد من المسلمين أن يقول القائل يا جبرائيل أو يا ميكائيل أو يا إبراهيم أو يا موسى أو يا رسول الله اغفر لي أو ارحمني أو ارزقني أو انصرني أو أغثني أو أجرني من عدوي أو نحو ذلك بل هذا كله من خصائص الإلهية"

فصرح أن أمر توحيد العبادة من المعلوم من الدين بالاضطرار

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (4/54) :" وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال إنه فيها مخطىء ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدا بعث بها وكفر مخالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ومثل أمره بالصلوات الخمس وإيجابه لها وتعظيم شأنها ومثل معاداته لليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو"

فصرح أن توحيد العبادة ليس من الأمور الخفية بل الجلية الواضحة التي يعلم حتى اليهود والنصارى أنها من دين الإسلام فالقبورية أجهل من اليهود والنصارى بالإسلام

وكذا الجهمية الذين ينكرون علو الله على خلقه فعلو الله لم ينكره حتى عباد الأوثان ولم ينكروا أن الله يفعل لحكمة ولا أنه تقوم به الصفات الفعلية

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهو يتكلم عن الجهمية الأشعرية (1/51) :" فإن نظرت في كتاب التوحيد في آخر الصحيح، فتأمل تلك التراجم، وقرأت في كتب أهل العلم من السلف، ومن أتباعهم من الخلف، ونقلهم الإجماع على وجوب الإيمان بصفات الله تعالى، وتلقيها بالقبول، وأن من جحد شيئا منها، أو تأول شيئا من النصوص، فقد افترى على الله، وخالف إجماع أهل العلم، ونقلهم الإجماع: أن علم الكلام بدعة وضلالة، حتى قال أبو عمر ابن عبد البر: أجمع أهل العلم في جميع الأعصار والأمصار، أن أهل الكلام أهل بدع وضلالات، لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء؛ والكلام في هذا يطول.
والحاصل: أنهم عمدوا إلى شيء أجمع المسلمون كلهم، بل وأجمع عليه أجهل الخلق بالله عبدة الأوثان، الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فابتدع هؤلاء كلاما من عند أنفسهم، كابروا به العقول أيضا، حتى إنكم لا تقدرون تغيرون عوامكم عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، ثم مع هذا كله تابعهم جمهور من يتكلم في علم هذا الأمر، إلا من سبقت لهم من الله الحسنى، وهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود"

قال شيخ الإسلام في درء التعارض (7/27) :" ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم بل يكون ذلك الامتناع مانعا له من حصول العلم بذلك كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره لا سيما إذا قام عنده اعتقاد أن الرسول لا يقول مثل ذلك فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري"

فصرح بأن علو الله عز وجل على خلقه من المعلوم من الدين بالضرورة

وقال شيخ الإسلام في بيان الدليل ص275 :" ولا تعبأ بما يفرض من المسائل ويدعي الصحة فيها بمجرد التهويل أو بدعوى أن لا خلاف في ذلك وقائل ذلك لا يعلم أحداً قال فيها بالصحة فضلاً عن نفي الخلاف فيها وليس الحكم فيها من الجليات التي لا يعذر المخالف فيها"

فصرح بأن الجليات لا يعذر المخالف فيها وهذا من أنفس نصوصه في المسألة

وأما اليوم فيعمد أحدهم إلى رجل اجتمعت فيه عدة أمور

1_ الوقوع في بدعة مغلظة

2_ كون هذه البدعة مكفرة

3_ كون هذه البدعة مخالفة لما عليه أصحاب الفطر السليمة بل واليهود والنصارى ومخالفة للمعلوم من الدين بالاضطرار

4_ اجتهاده في الانتصار لهذه البدعة وتحريف كل ما يخالفها من النصوص وجعل ذلك في شروح على دواوين الإسلام وفي تفسير كتاب الله عز وجل

5_ تشنيعه على المخالف واتهامه إياه بالتجسيم أو تكفيره حتى

6_ كون هذه البدعة مما كثر إنكار السلف على القائلين بهذا وهذا الضال من العارفين بنصوصهم

7_ تحريفه لكلام أئمة السلف وكذبه عليهم وتقويله لهم ما لم يقولوا كدعوى أنهم مفوضة أو مذهب ابن كلاب 

8_ مخالفته لأهل السنة في عامة المسائل التي خالفوا فيها الأشعرية الجهمية في الإيمان والقدر والنبوات والصفات مع نفس قبوري واضح يظهر في الكلام على التوسل والتبرك وشد الرحال 

9_ توقيره لأئمة الجهمية الأشعرية الذين سبقوه بالضلال وإظهار الولاء التام لهم وجعله لكلامهم جنباً إلى جنب مع كلام أئمة الإسلام حقاً

يعمدون إلى مثل هذا فلا يكتفون بإعذاره حتى يجعلونه سنياً ! ثم إماماً في السنة ثم محنة يؤذى الموحدون من أجله

فلو فرضنا أن هناك إعذراً في الجليات والواضحات ولو فرضنا أنه يعذر في الجليات أفيعذر من اجتمعت فيه كل هذه الأمور ولا يعذر من قال عنه ( جهمي )!، ونص شيخ الإسلام الذي يحتجون به دائماً على عدم تكفير بعض أفراد هؤلاء فيه أنه سماهم ( جهمية ) مع كونه يراهم جهلة والجهمي لا يكون سنياً عندهم 

فيا من تزعم الاقتداء بشيخ الإسلام لم لا تسميهم جهمية كما سماهم ؟

وهل يمتنع أحد من تسمية المعتصم جهمياً مع كونه مضرباً للمثل في البلادة في هذه المسائل ؟

وشيخ الإسلام نفسه قال أن السلف تكلموا في تكفير الجهمية ما لم يتكلموا في تكفير غيرهم من الفرق ، وقال أيضاً أن السلف ذموهم بما لم يذموا به الخوارج والمرجئة والرافضة

قال الإمام المجدد كما في الدرر السنية (10/94) :" بسم الله الرحمن الر حيم
إلى الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: ما ذكرتم من قول الشيخ: كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة؟ فهذا من العجب، كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مرارا؟! فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف.
وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هو القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة؛ ولكن أصل الإشكال، أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين، لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}.
وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر; وكفرهم ببلوغها إياهم، وإن لم يفهموها. إن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم " ،وقوله: " شر قتلى تحت أديم السماء " ، مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلو والاجتهاد؛ وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها.
وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاتهم وصيامهم، وهم يظنون أنهم على حق.
وكذلك إجماع السلف: على تكفير غلاة القدرية وغيرهم، مع علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؛ ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا. إذا علمتم ذلك، فإن هذا الذي أنتم فيه كفر: الناس يعبدون الطواغيت، ويعادون دين الإسلام، فيزعمون أنه ليس ردة
، لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بين.
وأظهر مما تقدم: الذين حرقهم علي، فإنه يشابه هذا. وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم، فلا يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم، فإن كان معكم بعض الإشكال، فارغبوا إلى الله تعالى أن يزيله عنكم، والسلام"

وهذا تحرير حسن في المسألة

قال شيخ الإسلام في رفع الملام ص69:" الرابع : أن هذا العذر لا يكون عذرا إلا مع العجز عن إزالته وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق فقصر فيها لم يكن معذورا "

وهل من بلغته أدلة الكتاب والسنة وإجماع السلف في مخالفة مذهبه لم يتمكن من إزالة عذره إن كان ثمة عذر ، وأما التأويلات الباردة فحتى إبليس كان عنده شبهة داحضة في مقابلة الحق المبين 

وإذا كان حكم المعرض أنه كافر في قول الكافة من أهل العلم فكيف بمن بلغته الحجة وسمعها  

وقال ابن تيمية في كتاب الإيمان ص25 :"  وكذلك قالوا: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ} [هود: 91] ، قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] أي: لأفهمهم ما سمعوه، ثم قال: ولو أفهمهم مع هذه الحال التي هم عليها، {لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] ، فقد فسدت فطرتهم فلم يفهموا، ولو فهموا لم يعملوا، فنفى عنهم صحة القوة العلمية، وصحة القوة العملية"

فجعل عدم الفهم سببه فساد الفطرة وهذا من مشكاة نص تلميذه الذي بني عليه المقال
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم