الأربعاء، 18 ديسمبر 2013

ثلاث مسائل مهمة في التكفير ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :


فقد انتشرت ثلاث مسائل بين عدد من المنتسبين للعلم والسنة في هذا العصر

الأولى : عدم تسمية من مات على الكفر كافراً بحجة أنك لا تدري هل أسلم قبل موته أم لا وإن كان ظاهر حاله البقاء على ما كان عليه

الثانية : القول بعدم جواز الحكم على الكافر المعين بالنار بعد موته ولو كان طاغوتاً يدعو إلى عبادة نفسه أو من دعاة الكفر الأقحاح كقساوسة النصارى

الثالثة : التشنيع على من وصف رجلاً وقع في الكفر الأكبر بأنه ( كافر ) ولو كان هذا الكافر مداوماً على هذا الكفر ويعيش بين المسلمين بحجة العوز إلى توفر الشروط وانتفاء الموانع .
 فلو سب الله عز وجل أو أهان المصحف أو لعن الصحابة وقذف أم المؤمنين فإن الورع عند أصحاب هذا القول ألا يقطع بكفره وعدد منهم يصرح بأن المصرح بكفر الواقع في هذا بعينه مخاطر مجازف وربما نعته بعضهم بالغلو أو التقدم بين يدي العلماء

والقاعدة عند أهل السنة عند ظهور القواعد المشكلة أو المجملة أن يرجع ذلك إلى هدي السلف الصالح فإن وافق هديهم وإلا رد على قائله كائناً من كان

قال الله تعالى : { فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }

وقال أبو داود في سننه 4609 : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ حَدَّثَنِى خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ قَالَ حَدَّثَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِىُّ وَحُجْرُ بْنُ حُجْرٍ قَالاَ :
أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ }  فَسَلَّمْنَا وَقُلْنَا أَتَيْنَاكَ زَائِرِينَ وَعَائِدِينَ وَمُقْتَبِسِينَ.
 فَقَالَ الْعِرْبَاضُ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ.
 فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟
فَقَالَ : أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ .

قال الدارمي في مسنده  140 : أخبرنا مخلد بن خالد بن مالك انا النضر بن شميل عن ابن عون عن ابن سيرين قال :
 كانوا يرون انه على الطريق ما كان على الأثر.
والأدلة في ذلك كثيرة ، والمقصود هنا التذكرة

أما المسألة الأولى فلم يكن السلف يمتنعون من تسمية من مات على الكفر كافراً بهذا التعليل المذكور بل الثابت العكس

قال الخلال في السنة 1708 : أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَطَرٍ، قَالَ: ثنا أَبُو طَالِبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّهُمْ مَرُّوا بِطَرَسُوسَ بِقَبْرِ رَجُلٍ، فَقَالَ أَهْلُ طَرَسُوسَ: الْكَافِرُ، لَا رَحِمَهُ اللَّهُ.
 فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: نَعَمْ، فَلَا رَحِمَهُ اللَّهُ، هَذَا الَّذِي أَسَّسَ هَذَا، وَجَاءَ بِهَذَا.

وهذا المذكور هو المأمون العباسي فإن قبره كان بطرسوس وهو الذي بدأ المحنة ، فسماه كافراً بعينه مع أنه كان على التجهم ويظهر الإسلام .
فلم يقل الإمام أحمد ( وما يدريهم أنه كافر لعله تاب )!
بل أقرهم على تكفيره ودعا عليه بألا يرحمه الله 

وهذا الإسناد صحيح إلى الإمام أحمد

وأحمد لم يلتق بالمأمون في المحنة ، فإن المأمون قد هلك وأحمد في الطريق وفي عدد من الروايات أن الإمام أحمد قد دعا عليه

وأما المسألة الثانية وهي الشهادة على الكافر المعين بالنار

قال الخلال في السنة 481 : وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ:
 قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَةَ امْرَأَةُ فُلَانٍ، وَأَنَا لَمْ أَشْهَدِ النِّكَاحَ؟
 قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَانَ الشَّيْءُ مُسْتَفِيضًا فَاشْهَدْ بِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ دَارَ بَخْتَانَ هِيَ لِبَخْتَانَ وَلَمْ يُشْهِدْنِي؟
 قَالَ: هَذَا أَمْرٌ قَدِ اسْتَفَاضَ , اشْهَدْ بِهَا لَهُ.
 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَظُنُّ أَنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: هَذَا كَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا أَشْهَدُ إِنَّهَا بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
 أَمَّا طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ يَقُولُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّهُ قَالَ لَهُمْ: تَشْهَدُونَ أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ» وَمَا رَضِيَ , يَعْنِي أَبَا بَكْرِ حَتَّى شَهِدُوا .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَهَذَا أَثْبَتُ وَأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الشَّهَادَةِ .

وقال أيضاً 482 : أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَطَرٍ، وَزَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ  حَدَّثَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ:  قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ، أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ , لَا دِيَةَ لَهُمْ، وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ  فَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ، وَنَحْنُ نَشْهَدُ لَهُمْ

فهذا الصديق وهذا الفاروق يشهدان لقتلا الردة بالنار بأعيانهم ويحتج الإمام أحمد بذلك

وقال شارح الطحاوية في شرحه (2/ 745) :
 وَكُفْرُ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالُهُ فَوْقَ كُفْرِ الْقَائِلِينَ: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}  .
 وَلَكِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالَهُ مُنَافِقُونَ زَنَادِقَةٌ، اتِّحَادِيَّةٌ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
فسماه زنديقاً وشهد له بالنار خلافاً لمن يمنع في ذلك في مذهب غريب لا أعلمه عن أحد من السلف

فإنني لا أعرف عن أحد من السلف ذكر أمامه كافر أصلي ، أو كافر مرتد قد هلك فقال ( لا تقل كافر فإنك لا تدري مات على الكفر أم لا ؟)
أو قال ( لا تشهد عليه بالنار )
 وعلى قياس هذا المذهب يقال : ( لا تصل ولا تترحم على من مات مظهراً للإسلام إلا على جهة الاستثناء فإنك لا تدري لعله كفر قبل موته ) !

ومما يذكر في هذا الباب استئناساً في هذا الباب وإلزاماً للمخالف الذي يصححه

ما روى معمر في جامعه 286 : عن الزهري ، قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ، إن أبي كان يكفل الأيتام ، ويصل الأرحام ، ويفعل كذا ، فأين مدخله ؟ قال : هلك أبوك في الجاهلية ؟  قال : نعم ، قال : فمدخله النار .
 قال : فغضب الأعرابي ، وقال : فأين مدخل أبيك ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
 حيث ما مررت بقبر كافر فبشره بالنار .
 فقال الأعرابي : لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا ، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار

فذكر التبشير بالنار لكل مشرك وهذا الخبر الصواب فيه الإرسال ومن الناس من يصححه فذكرته إلزاماً

وأما المسألة الثالثة :
 فقال اللالكائي في السنة 415 : أخبرنا علي بن محمد بن أحمد بن بكران ، أنبا الحسن بن محمد بن عثمان قال : ثنا يعقوب بن سفيان قال : سمعت أبا هاشم زياد بن أيوب قال :
 قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل : يا أبا عبد الله رجل قال القرآن مخلوق ، فقلت له : يا كافر ، ترى علي فيه إثما ؟
قال : كان عبد الرحمن بن مهدي يقول : لو كان لي منهم قرابة ثم مات ما ورثته .
فقال له خراساني بالفارسية : الذي يقول القرآن مخلوق أقول إنه كافر ؟ قال : نعم .

فهذا أحمد لا يثرب على من يقول لمن يقول بخلق القرآن ( يا كافر) ، وينقل ذلك اللالكائي ولا يعقب بشيء ، فما بالك بمن يسب الله عز وجل ؟

وفي سيرة الإمام أحمد لابنه صالح ص52 :
" فَقَالَ لي أَحدهمَا فِي بعض الْأَيَّام فِي كَلَام دَار وَسَأَلته عَن علم الله فَقَالَ علم الله مَخْلُوق
 قلت يَا كَافِر , كفرت .
فَقَالَ لي الرَّسُول الَّذِي كَانَ يحضر مَعَهم من قبل إِسْحَاق هَذَا رَسُول أَمِير الْمُؤمنِينَ.
 قَالَ فَقلت إِن هَذَا قد كفر وَكَانَ صَاحبه الَّذِي يَجِيء مَعَه خَارج فَلَمَّا دخل قلت إِن هَذَا زعم أَن علم الله مَخْلُوق فَنظر إِلَيْهِ كالمنكر عَلَيْهِ قَالَ ثمَّ انْصَرف .
قَالَ أبي واسماء الله فِي الْقرَان وَالْقرَان من علم الله فَمن زعم أَن الْقرَان مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر وَمن زعم أَن أَسمَاء الله مخلوقة فقد كفر"

فكفره أحمد رأساً لقوله ( علم الله مخلوق ) فكيف بمن يسب الله تعالى أو يداوم على لعن الصحابة وقذف أمهات المؤمنين ؟

وقال البربهاري في شرح السنة :" 32 : والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة والمرجوم والزاني والزانية والذي يقتل نفسه وغيره من أهل القبلة والسكران وغيرهم الصلاة عليهم سنة
ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز و جل أو يرد شيئا من آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم أو يصلي لغير الله أو يذبح لغير الله وإذا فعل شيئا من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام فإذا لم يفعل شيئا من ذلك فهو مؤمن ومسلم بالإسم لا بالحقيقة"

فقوله ( وجب عليك أن تخرجه من الإسلام ) ظاهره أن من لم يفعل فهو آثم والحكم هنا على المعين ولا شك

ولم أجد أثراً عن السلف يكفر فيه أحد رجلاً قال بخلق القرآن بعينه أو سب الله فيثرب عليه علماء أهل السنة

ومن وجد شيئاً من هذا فليخبرني .

وقال أبو داود في مسائله عن أحمد 1697 : قُلْتُ لِأَحْمَدَ : مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ أَهُوَ كَافِرٌ؟ قَالَ: أَقُولُ: هُوَ كَافِرٌ ".

والكلام هنا على المعين

فإن قال قائل : زعمت أن الإمام أحمد كفر المأمون وأنه لا يثرب على من يكفر من يقول بخلق القرآن ، أفلا يعارض هذا عدم تكفيره للمعتصم الذي قال بخلق القرآن وامتحن الناس على ذلك وأثر الإمام أحمد في المعتصم هو عمدة معروف عند عامة المتأخرين والمعاصرين وعليه عول شيخ الإسلام في عدد من أبحاثه

فأقول : الآثار السابقة دلالتها واضحة على المراد ، وهي مضروبة من قبيل القياس الأولوي ، فإن أبيت إلا المباحثة في هذه المسألة
فاسمع ما يلي :
مثال المعتصم محل إشكال كبير على أصول أحمد بل على أصول من يشترط إقامة الحجة في كل تكفير أيضاً

فإن قيل : كيف ذاك ؟

قلت : بيان ذلك من وجوه

الأول : أن المعتصم قد ثبت أن الإمام أحمد ناظر الجهمية أمامه ثلاثة أيام متوالية .
 وكان يقطعهم ويفند شبهاتهم بالحجج البينة كما في سيرة الإمام أحمد لابنه صالح .
 وهذا من أبلغ ما يكون في إقامة الحجة ، بل إن المعتصم ما اشتد في تعذيب أحمد إلا بعد تلك المناظرات وعذبه بطريقة وحشية حيث جعل الحرس يقفون في صف على الإمام أحمد كل منهم يجلده جلدتين بكل ما أوتي من قوة والمعتصم يستحثهم على الشد في الضرب .
 ويدعو على من يشعر أنه يتهاون في الأمر وينتهره ومع ذلك كله عفا الإمام أحمد عنه

فلو فرضنا أنه عامي لا يفهم وفي حيرة من أمره فالتوقف هو سبيل العامي الجاهل لا الجزم بخلق القرآن بعد كل تلك البينات التي أقامها الإمام أحمد .
 فإن فرضنا أن له شبهة في قوله بخلق القرآن أفيجوز له امتحان الناس وضربهم بهذه الوحشية مع ظهور حجة أحمد على القوم المنازعين له

هذا أول وجوه الإشكال

الوجه الثاني : أنه ثبت تكفير الإمام أحمد للمأمون مع أنه لم يلتق به بل إنه دعا وفي بعض الروايات وصفه ب( الفاجر ) ، والمعتصم التقاه أحمد وبين له الأدلة
فهو من هذا الوجه أولى بالتكفير من المأمون

فإن قيل : الفرق أن المأمون عنده سبب في العلم والمعتصم عامي

قيل : هذا له حظ من النظر غير أن كثيراً من الناس اليوم لا يلتزمونه فيحكمون على الواقع في الكفر الأكبر مع غزارة علمه بأنه مريد للحق ! ، وربما أطلقوا عليه من ألقاب الثناء ما يضن به على بعض أئمة أهل السنة
قال الأصبهاني في الحجة :" وَقَالَ أَحْمَد بْن منيع: " من زعم أَنه مَخْلُوق فَهُوَ جهمي، وَمن وقف فِيهِ فَإِن كَانَ مِمَّن لَا يعقل مثل البقالين وَالنِّسَاء وَالصبيان سكت عَنهُ وَعلم، وَإِن كَانَ مِمَّن يفهم فَأَجره فِي وَادي الْجَهْمِية، وَمن قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ جهمي "

والمعتصم قد علم والله المستعان ، وقد ذكر الذهبي في ترجمة ابن خراش في السير هذا المعنى وأنه رافضي مع علمه فهو محكوم عليه بالزندقة

وهذا من البديهيات ولكن الناس اليوم ينازعون حتى في البديهيات فيحسنون الظن بمن خالف الشرع ويسيئون الظن بدلالة النص على المقصود
والله المستعان

وهذا الوجه في ترجيح المعتصم على المأمون يقابله وجه أقوى منه أو في درجته من القوة وهو مناظرة أحمد للجهمية أمام المعتصم وإفحامه لهم فيبقى الإشكال

الوجه الثالث : أنه قد ثبت عن الإمام أحمد تكفير عدة من الجهمية أو من نسب إلى مقالة اللفظية ومنهم من هو أحسن حالاً من المعتصم

في سيرة الإمام أحمد لابنه صالح ص52 :" فَقَالَ لي أَحدهمَا فِي بعض الْأَيَّام فِي كَلَام دَار وَسَأَلته عَن علم الله فَقَالَ علم الله مَخْلُوق قلت يَا كَافِر كفرت فَقَالَ لي الرَّسُول الَّذِي كَانَ يحضر مَعَهم من قبل إِسْحَاق هَذَا رَسُول أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ فَقلت إِن هَذَا قد كفر وَكَانَ صَاحبه الَّذِي يَجِيء مَعَه خَارج فَلَمَّا دخل قلت إِن هَذَا زعم أَن علم الله مَخْلُوق فَنظر إِلَيْهِ كالمنكر عَلَيْهِ قَالَ ثمَّ انْصَرف قَالَ أبي واسماء الله فِي الْقرَان وَالْقرَان من علم الله فَمن زعم أَن الْقرَان مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر وَمن زعم أَن أَسمَاء الله مخلوقة فقد كفر"

فكفره بمجرد قوله ( علم الله مخلوق )

جاء في بحر الدم :" قال المروذي: قلت لابي عبد الله: إن الكرابيسي يقول: من لم يقل: لفظه بالقرآن مخلوق فهو كافر، فقال: بل هو كافر، وقال: مات بشر المريسي وخلفه حسين الكرابيسي، وقال لي: هذا قد تجهم وأظهر الجهمية، ينبغي أن يحذر عنه وعن كل من ابتعد.
وقال في رواية أبي الحارث وقد سئل عن قول الكرابيسي: إنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: هذا قول جهم.
وقال إسحاق بن إبراهيم: سمعته يقول: أخزى الله الكرابيسي، لا يجالس ولا يكلم، ولا تكتب كتبه، ولا تجالس من يجالسه.
وقال في رواية شاهين بن السميدع.
الحسين الكرابيسي عندنا كافر"
فكفره بمجرد قوله ( من لم يقل: لفظه بالقرآن مخلوق فهو كافر)

قال أبو داود في مسائله عن أحمد : قُلْتُ لِأَحْمَدَ أَيَّامَ كَانَ يُصَلِّي الْجُمَعَ الْجَهْمِيَّةَ، قُلْتُ لَهُ الْجُمُعَةُ ؟ قَالَ: أَنَا أُعِيدُ، وَمَتَى مَا صَلَّيْتَ خَلْفَ أَحَدٍ مِمَّنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَأَعِدْ.
 قُلْتُ: وَبِعَرَفَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ .

فأفتاه بإعادة الصلاة خلف كل من يقول القرآن مخلوق ، فدل على أنهم عنده كفار بأعيانهم ، أو على الأقل يعاملون معاملة الكفار وهذا يتوافق مع الفتيا السابقة التي نقلتها من كتاب السنة للالكائي

وأفتى أحمد أيضاً بإعادة الصلاة خلف من يقول باللفظ كما في مسائل ابنه صالح

وقال أبو داود في مسائله لأحمد 1712 :
 كَتَبْتُ رُقْعَةً، وَأَرْسَلْتُ بِهِ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُتَوَارٍ، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ جَوَابَهُ مَكْتُوبًا فِيهِ: قُلْتُ: رَجُلٌ يَقُولُ: التِّلَاوَةُ مَخْلُوقَةٌ، وَالْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، مَا تَرَى فِي مُجَانَبَتِهِ؟ وَهَلْ يُسَمَّى مُبْتَدِعًا؟ وَعَلَى مَا يَكُونُ عَقْدُ الْقَلْبِ فِي التِّلَاوَةِ وَالْأَلْفَاظِ؟ وَكَيْفَ الْجَوَابُ فِيهِ؟
قَالَ: هَذَا يُجَانَبُ، وَهُوَ فَوقُ الْمُبْتَدِعِ، وَمَا أَرَاهُ إِلَّا جَهْمِيًّا، وَهَذَا كَلَامُ الْجَهْمِيَّةِ، الْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، يُرِيدُ حَدِيثَهَا  : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}
فَقَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَاحْذَرُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ. وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ

والذي فوق المبتدع كافر أو في حكمه

بل صح عن أحمد عدم تجويزه للصلاة عليهم بل تجهيمه لمن صلى على ابن أبي دؤاد

قال الخلال في السنة 1762: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ , قَالَ : قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : رَجُلٌ صَلَّى عَلَى ابْنِ أَبِي دَاوُدَ , فَقَالَ : هَذَا مُعْتَقِدٌ , هُوَ جَهْمِيٌّ.

بل قال لا تشهد عند قاض جهمي

وليس هذا خاصاً بأحمد

فقد قال حرب في مسائله حدثنا محمد بن مصفى، عن يزيد بن هارون قال: لقد أخبرت من كلام المريسى بشيء وجعت وجعة في صلبي بعد ثلاث.
وسأله رجل من أهل بغداد فقال: يا أبا خالد سمعت بشر المريسي يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل. فقال يزيد: إن كنت صادقًا إن بشر المريسي كافر بالله العظيم.
 وقال: لقد حرضت ببغداد على قتل بشر المريسي بجهدي.

فكفره دون أن يجلس معه ويقيم عليه الحجة كما فعل أحمد مع الكرابيسي لظهور مخالفة مقالتهم لما جاءت به الرسل بما لا يخفى على مثلهم

بل ظاهر كلام ابن مهدي والبخاري تكفير الجهمية بأعيانهم كما تكفر اليهود والنصارى

قال البخاري في خلق أفعال العباد :"مَا أُبَالِي صَلَّيْتُ خَلْفَ الْجَهْمِيِّ الرَّافِضِيِّ أَمْ صَلَّيْتُ خَلْفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُعَادُونَ، وَلَا يُنَاكَحُونَ، وَلَا يَشْهَدُونَ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ» وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: هُمَا مِلَّتَانِ: «الْجَهْمِيَّةُ، وَالرَّافِضيَّةُ"

ظاهر كلامه تكفيرهم بأعيانهم دون إقامة حجة كما يكفر اليهود والنصارى دون إقامة حجة

وقد زعم بعض أهل العلم أن الإمام أحمد يكفر الجهمية المحضة ولا يكفر اللفظية والواقفة إلا بعد إقامة الحجة

وهذا القائل يلزمه القول بأن الجهمية المحضة كفار بأعيانهم عند الإمام أحمد ، والظاهر من نصوص أحمد التسوية بين جميع هؤلاء إلا العامي الذي لا يفهم الذي يقول بالوقف جهلاً
قال الخلال في السنة 1780: أَخْبَرَنِي مَنْصُورُ بْنُ الْوَلِيدِ , أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَهُمْ , قَالَ : قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ لِيَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ : جَاءَنِي الْيَوْمَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ , فَقُلْتُ لَهُمْ : مَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ , وَالْوَاقِفَةُ , وَاللَّفْظِيَّةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ. فَقَالَ : بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ , قَالَهَا ثَلاَثًا . قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : سَمِعْتُ هَارُونَ بْنَ إِسْحَاقَ يَقُولُ : مَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ , وَالْوَاقِفَةُ , وَاللَّفْظِيَّةُ جَهْمِيَّةٌ , فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ , وَقَالَ : عَافَاهُ اللَّهُ , وَجَزَاهُ خَيْرًا.

وقد نقل حرب الاتفاق على أن اللفظية والواقفة والمحضة شيء واحد في التكفير

قال حرب في عقيدته التي ادعى عليها الاتفاق  :" والقرآن كلام الله تكلم به ليس بمخلوق، فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أكفر من الأول وأخبث قولًا، ومن زعم إن ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي خبيث مبتدع.
ومن لم يكفرها ولا القوم ولا الجهمية كلهم فهو مثلهم"

وهذا يتوافق مع المنقول سابقاً عن أحمد ومع تكفير أحمد للكرابيسي ، وقد حكم عبد الوهاب الوراق كما في الإبانة لابن بطة على يعقوب بن شيبة بأنه زنديق ، وهذا يتوافق مع قول أحمد في الواقفة زنادقة عتق

ومما يؤكد هذا المعنى ما قال الذهبي في تاريخ الإسلام (5/1024) :" فقال المَرُّوذيّ في كتاب القَصَص: عزم حَسن بن البزّاز، وأبو نصر بن عبد المجيد، وغيرهما على أن يجيئوا بكتاب المدلّسين الّذي وضعه الكرابيسيّ يطعن فيه على الأعمش، وسليمان التَّيْميّ. فمضيتُ إليه في سنة أربعٍ وثلاثينِ، فقلت: إنّ كتابك يريدُ قومٌ أن يعرضوه على أبي عبد الله، فأظْهِر أنّك قد ندِمتَ عليه، فقال: إنّ أبا عبد الله رجلٌ صالح، مثله يوفَّق لإصابة الحقّ. قد رضيتُ أن يُعرض عليه. لقد سألني أبو ثور أنْ أمحوَهُ، فأبيت، فجيء بالكتاب إلى أبي عبد الله، وهو لا يعلم لمن هو، فعلَّموا على مُسْتَبْشَعات من الكتاب، وموضعٍ فيه وضْع على الأعمش، وفيه: إنْ زعمتم أنّ الحَسَن بن صالح كان يرى السّيف فهذا ابن الزُّبَير قد خَرَج، فقال أبو عبد الله: هذا أراد نُصْرة الحَسَن بن صالح، فوضع عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد جمع للرّوافض أحاديثَ في هذا الكتاب، فقال أبو نصْر: إنّ فتياننا يختلفون إلى صاحب هذا الكتاب، فقال: حذروا عنه، ثم انكشف أمره، فبلغ الكرابيسيّ، فبلغني أنه قال: سمعت حسينا الصائغ يقول: قال الكرابيسيّ: لأقولنَّ مقالة حتّى يقول أحمد بن حنبل بخلافها فيكفر، فقال: لفْظي بالقرآن مخلوق، فقلت لأبي عبد الله: إنّ الكرابيسيّ قال: لفْظي بالقرآن مخلوق.
 وقال أيضًا: أقول: إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق من كلّ الجهات، إلا أنّ لفظي بالقرآن مخلوق. ومن لم يقل إنّ لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، فقال أبو عبد الله: بل هو الكافر، قاتَلَه الله، وأيُّ شيءٍ قالت الْجَهْميّة إلا هذا؟ قالوا كلام الله، ثمّ قالوا: مخلوق. وما ينفعه وقد نقض كلامه الأخير كلامه الأوّل حين قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ثمّ قال أحمد: ما كان الله لَيدَعَه وهو يقصد إلى التّابعين مثل سليمان الأعمش، وغيره، يتكلَّم فيهم. ماتَ بشر المَرِيسيّ، وخَلفَه حسين الكرابيسي، ثم قال: أيش خبر أبي ثَوْر؟ وافقَه على هذا؟ قلت: قد هجره، قال: قد أحسن، قلت: إنّي سألت أبا ثَوْر عمن قال: لفْظي بالقرآن مخلوق، فقال: مبتدع، فغضبَ أبو عبد الله وقال: أيْش مبتدِع؟! هذا كلام جَهْمٍ بعينه. ليس يُفْلح أصحاب الكلام"

فغضب أحمد على أبي ثور لقوله في اللفظية ( مبتدعة ) يؤكد أنه يكفرهم كالجهمية الأولى

والإمام أحمد يفرح بمن يقول ( اللفظية والواقفة والجهمية ) شيء واحد واليوم يغضبون ممن يقول ( الأشاعرة والجهمية شيء واحد ) ومقالة الأشعرية في إنكار العلو أخبث من القول بخلق القرآن وأعظم مناقضة لما جاءت به الرسل على أنهم يقولون بخلق القرآن أيضاً
فاعجب ممن يطلق عدم تكفير الأشعرية بعد هذا كله مع أن مقالتهم أخبث من مقالة اللفظية والواقفة باتفاق عقلاء بني آدم ولا شك أنهم أولى من الواقفة واللفظية بكل كلمة ذم قيلت فيهم

وقال الخطيب في تاريخ بغداد (7/377) : أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى بشر بن أَحْمَد الإسفراييني قَالَ لكم أَبُو سُلَيْمَان داود بن الْحُسَيْن البيهقي: بلغني أن الحلواني الْحَسَن بن عَلِيّ قَالَ: إني لا أكفر من وقف فِي القرآن، فتركوا علمه  .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: سألت  سَلَمَة بن شبيب عَنْ علم الحلواني، قَالَ: يرمى في الحش. ثم قَالَ أَبُو سَلَمَة: من لم يشهد بكفر الكافر فهو كافر.

وهذا إسناد صحيح ، وهذه مقالتهم فيمن أطلق عدم تكفير الواقف في القرآن فما عساهم يقولون فيمن يطلق عدم تكفير منكر العلو والله المستعان

وظاهر كلام ابن بطة تكفير من يقول بقول الأشاعرة في القرآن بعينه

قال ابن بطة في الإبانة (6/31) :" فمن أنكر أن الله كلم موسى كلاما بصوت تسمعه الأذنان وتعيه القلوب ، لا واسطة بينهما ، ولا ترجمان ولا رسول ، فقد كفر بالله العظيم وجحد بالقرآن ، وعلى إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن تاب ورجع عن مقالته ، وإلا ضرب عنقه ، فإن لم يقتله الإمام وصح عند المسلمين أن هذه مقالته ففرض على المسلمين هجرانه وقطيعته ، فلا يكلمونه ، ولا يعاملونه ، ولا يعودونه إذا مرض ، ولا يشهدونه إذا مات ، ولا يصلى خلفه ، ومن صلى خلفه أعاد الصلاة ، ولا تقبل شهادته ، ولا يزوج ، وإن مات لم ترثه عصبته من المسلمين إلا أن يتوب"

فصرح بكفره وانطباق أحكام الكفار عليه وإن لم يستتب أو يناظر فتأمل هذا

وعوداً على مسألتنا

وقال الخلال في السنة 2109: سمعت أبا بكر المروذي يقول : أتيت أبا عبد الله ليلة في جوف الليل فقال لي : يا أبا بكر ، بلغني أن نعيماً كان يقول : لفظي بالقرآن مخلوق، فإن كان قاله فلا غفر الله له في قبره .

فهل يتسق هذا مع الاستغفار للمعتصم ؟

وأين نعيم من المعتصم ؟ على أن نعيماً لا يصح عنه ذلك

الوجه الرابع : أن الورع والأسلم في حال من أشكل حاله التوقف فيه .
 وهناك من يزعم أن الإمام أحمد كان يجزم بإسلام المعتصم فكيف يجزم أحمد بذلك مع كل نصوصه في تكفير من يقول بخلق القرآن ومناظرته للجهمية أمامه .
فلو قيل أن الإمام توقف فيه لكان أهون من دعوى أنه جزم بإسلامه وترحم عليه مع علمه بقوله بقول مكفر

فإن قلت : فما وجه حل الإشكال والروايات التي ظاهرها حكم الإمام أحمد بإسلام المعتصم أو على الأقل عدم تكفيره له موجودة بين أيدينا

فيقال : قد ادعى بعض الناس أن في الأمر روايتين عن أحمد وقد أنكر ذلك شيخ الإسلام ، وحل الإشكال والله أعلم أن الإمام أحمد قد صح عنده ما يدل على رجوع المعتصم

ولعل هذه الرواية توضح شيئاً من الأمر

قال أبو نعيم في الحلية (9/214) : وَنَرْوِي فِيهَا أَيْضًا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ، وَحَدَّثَنِي عَنْهُ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ، وَلَيْسَ بِالْوَرَّاقِ، قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ: كُنْتُ أَتَوَلَّى شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ السُّلْطَانِ .
فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ قَاعِدٌ فِي مَجْلِسٍ إِذَا أَنَا بِالنَّاسِ قَدْ أَغْلَقُوا أَبْوَابَ دَكَاكِينِهِمْ وَأَخَذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَقُلْتُ: مَا لِي أَرَى النَّاسَ قَدِ اسْتَعَدُّوا لِلْفِتْنَةِ؟
 فَقَالُوا: إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُحْمَلُ لِيُمْتَحَنَ فِي الْقُرْآنِ، فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَأَتَيْتُ حَاجِبَ الْخَلِيفَةِ وَكَانَ لِي صَادِقًا.
 فَقُلْتُ: أُرِيدُ أَنْ تُدْخِلَنِي حَتَّى أَنْظُرَ كَيْفَ يُنَاظِرُ أَحْمَدُ الْخَلِيفَةَ، فَقَالَ: أَتَطِيبُ نَفْسُكَ بِذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ فَجَمَعَ جَمَاعَةً وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيَّ وَتَبَرَّأَ مِنْ إِثْمِي، ثُمَّ قَالَ لِي: امْضِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الدُّخُولِ بَعَثْتُ إِلَيْكَ.
 فَلَمَّا أَنْ كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي أُدْخِلَ فِيهِ أَحْمَدُ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَتَانِي رَسُولُهُ، فَقَالَ: الْبَسْ ثِيَابَكَ وَاسْتَعِدَّ لِلدُّخُولِ، فَلَبِسْتُ قِبَاءً فَوْقَهُ قَفْطَانٌ وَتَمَنْطَقْتُ بِمِنْطَقَةٍ وَتَقَلَّدْتُ سَيْفًا وَأَتَيْتُ الْحَاجِبَ فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَدْخَلَنِي إِلَى الْفَوْجِ الْأَوَّلِ مِمَّا يَلِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
 وَإِذَا أَنا بِابْنِ الزَّيَّاتِ، وَإِذَا بِكُرْسِيٍّ مِنْ ذَهَبٍ مُرَصَّعٍ بِالْجَوْهَرِ قَدْ غُشِيَ أَعْلَاهُ بِالدِّيبَاجِ، فَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ فَقَعَدَ عَلَيْهِ.
 ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَتَكَلَّمُ بِجَارِحَتَيْنِ؟ عَلَيَّ بِهِ فَأُدْخِلَ أَحْمَدُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ هَرَوِيٌّ وَطَيْلَسَانٌ أَزْرَقُ وَقَدْ وَضَعَ يَدًا عَلَى يَدٍ وَهُوَ يَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ.
 فَقَالَ: أَنْتَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ؟ فَقَالَ: أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ.
 فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تَقُولُ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا؟
 قَالَ أَحْمَدُ: مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِمِائَةِ أَلْفِ كَلِمَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ كَلِمَةٍ وَثَلَاثِمِائَةِ كَلِمَةٍ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ كَلِمَةً فَكَانَ الْكَلَامُ مِنَ اللَّهِ وَالِاسْتِمَاعُ مِنْ مُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَيْ رَبِّ أَنْتَ الَّذِي تُكَلِّمُنِي أَمْ غَيْرُكَ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا مُوسَى أَنَا أُكَلِّمُكَ، لَا رَسُولٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ .
 قَالَ: كَذَبْتَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ أَحْمَدُ: فَإِنْ يَكُ هَذَا كَذِبًا مِنِّي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}  فَإِنْ يَكُنِ الْقَوْلُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا فَقَدِ ادَّعَى حَرَكَةً لَا يُطِيقُ فِعْلَهَا.
 فَالْتَفَتَ إِلَى أَحْمَدَ وَابْنِ الزَّيَّاتِ فَقَالَ: نَاظِرُوهُ، قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتُلْهُ وَدَمُهُ فِي أَعْنَاقِنَا، قَالَ: فَرَفَعَ يَدَهُ فَلَطَمَ حُرَّ وَجْهِهِ فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَتَفَرَّقَ وُجُوهُ قُوَّادِ خُرَاسَانَ وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَبْنَاءِ قُوَّادِ خُرَاسَانَ.
 فَخَافَ الْخَلِيفَةُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ فَدَعَا بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ يرَشُّ عَلَى وَجْهِهِ.
 فَلَمَّا أَفَاقَ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى عَمِّهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ فَقَالَ: يَا عَمِّ لَعَلَّ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي يُصَبُّ عَلَى وَجْهِي غَضِبَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ.
 فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: وَيْحَكُمْ مَا تَرَوْنَ مَا يَهْجُمُ عَلَيَّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا رَفَعْتُ عَنْهُ السَّوْطَ حَتَّى يَقُولَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ.
 ثُمَّ دَعَا بِجَلَّادٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو الدَّنِّ فَقَالَ: فِي كَمْ تَقْتُلُهُ قَالَ: فِي خَمْسَةٍ أَوْ عَشَرَةٍ أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ عِشْرِينَ، فَقَالَ: اقْتُلْهُ فَكُلَّمَا أَسْرَعْتَ كَانَ أَخْفَى لِلْأَمْرِ.
 ثُمَّ قَالَ: جَرِّدُوهُ، قَالَ: فَنُزِعَتْ ثِيَابُهُ، وَوَقَفَ بَيْنَ الْعَقَابِينَ وَتَقَدَّمَ أَبُو الدَّنِّ - قَطَعَ اللَّهُ يَدَهُ - فَضَرَبَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ سَوْطًا فَأَقْبَلَ الدَّمُ مِنْ أَكْتَافِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ أَحْمَدُ ضَعِيفَ الْجِسْمِ.
 فَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ إِنْسَانٌ ضَعِيفُ الْجِسْمِ.
 فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتَ قَوْلِي: وَقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا رَفَعْتُ السَّوْطَ عَنْهُ حَتَّى يَقُولَ كَمَا أَقُولُ.
 فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبُشْرَى إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ تَابَ عَنْ مَقَالَتِهِ وَهُوُ يَقُولُ لَا إِلَهَ  إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ أَحْمَدُ: كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ وَأَنَا أَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
 فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ قَدْ قَالَ كَمَا تَقُولُ.
 فَقَالَ: خَلِّ سَبِيلَهُ. وَارْتَفَعَتْ بِالْبَابِ، فَقَالَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذِهِ الضَّجَّةُ. فَخَرَجَ ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَأَخْرِجْ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ , فَأُخْرِجَ وَقَدْ وَضَعَ طَيْلَسَانَهُ وَقَمِيصَهُ عَلَى يَدِهِ وَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَافَى الْبَابَ.
 فَقَالَ النَّاسُ: مَا قُلْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى نَقُولَ، قَالَ: وَمَا عَسَى أَنْ أَقُولَ اكْتُبُوا يَا أَصْحَابَ الْأَخْبَارِ وَاشْهَدُوا يَا مَعْشَرَ الْعَامَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ.
 قَالَ: أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ، وَكُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالسَّوْطُ قَدْ أَخَذَ كَتِفَيْهِ وَعَلَيْهِ سَرَاوِيلُ فِيهِ خَيْطٌ فَانْقَطَعَ الْخَيْطُ وَنَزَلَ السَّرَاوِيلُ فَلَحَظْتُهُ وَقَدْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَعَادَ السَّرَاوِيلُ كَمَا كَانَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ إِنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ الْخَيْطُ قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِلَهِي وَسَيِّدِي وَاقَفْتَنِي هَذَا الْمَوْقِفَ فَلَا تَهْتِكَنِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، فَعَادَ السَّرَاوِيلُ كَمَا كَانَ .

فهذا أحمد بن الفرج احتال على الأمير والإمام أحمد معاً وأوهم أحمد أن المعتصم قد قال بقول أحمد فلعل هذا هو سر المسألة

وذلك بين في قوله ( يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبُشْرَى إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ تَابَ عَنْ مَقَالَتِهِ وَهُوُ يَقُولُ لَا إِلَهَ  إِلَّا اللَّهُ )

والإمام أحمد حلل المعتصم ومن ضربه سوى ابن أبي دؤاد وأضرابه وذلك لأنه يكفرهم

والعجيب أن موقف الإمام أحمد من المعتصم مع كونه شذوذ من بين مواقف الإمام أحمد من الجهمية جعله أقوام هو الأصل وتركوا بقية الآثار !
ومع ذلك يتهمون غيرهم بأنهم يتشبثون بأفراد الآثار !

وهم معترفون بأن المعتصم حالةخاصة من العامية والبلادة ، فهل يقاس عليه من صار قاضياً أو مفتيا أو عالماً معروفاً بالحديث ؟
هؤلاء أقرب إلى ابن أبي دؤاد والمريسي والكرابيسي والمأمون من المعتصم

وهذه منهجية غريبة في التعامل مع النصوص و الآثار

فيأخذ بعضهم بعذر الصحابة لعثمان بن مظعون بالجهل في استحلاله للخمر .
 ويهملون ما صح من إنزال العقوبة فيمن نكح امرأة أبيه دون إقامة حجة لكونه خالف معلوماً من الدين بالضرورة .
 ويهمل تسمية الصحابة لأهل الردة مرتدين بأعيانهم بل وشهادتهم عليهم بالنار دون تكلف إقامة الحجة على كل واحدٍ منهم لوضوح الأمر الذي خالفوا فيه
قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى الكبرى (3/583) :" وَإِذَا كَانَ السَّلَفُ قَدْ سَمَّوْا مَانِعِي الزَّكَاةِ مُرْتَدِّينَ مَعَ كَوْنِهِمْ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ، وَلَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ مِمَّنْ صَارَ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَاتِلًا لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ أَنَّهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لَوْ اسْتَوْلَى هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُحَادُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُعَادُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، عَلَى أَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ. فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى زَوَالِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدُرُوسِ شَرَائِعِهِ"

بل إن عمر بن الخطاب قال ( دعني أضرب هذا المنافق ) في ذي الخويصرة وأقره النبي صلى الله عليه وسلم خلافاً لحاله مع حاطب ، وكلمة ذي الخويصرة يقول أقبح منها الكثير من المنتسبين للإسلام من سب الله ورسوله ، ويتورع أدعياء الورع عن تكفيرهم وعن تكفير من يداوم على قذف أمهات المؤمنين بين ظهراني المسلمين

وكذلك عوف بن مالك قال للمستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ( منافقين ) بمجرد قولهم لتلك الكلمة

ومثل ذلك احتجاج بعضهم بموقف الناس ابن خزيمة في حديث الصورة وإهمالهم لموقف أحمد من أبي ثور بل وقياسهم المسائل الأوضح والأبين كعلو الله عز وجل على هذه المسألة !
وإهمالهم لموقف أحمد من يعقوب بن شيبة وابن المديني وضربائهم

ومثل ذلك نقلهم للكلمة المعروفة لشيخ الإسلام في عدم تكفير الجهمية الأشعرية في عصره عند مناظرته لهم وإهمالهم لما ذكره هو نفسه من تكفيره لمناظريه في مصر من الجهمية الأشعرية بأعيانهم كما في مقدمة التسعينية

وقوله في بيان تلبيس الجهمية (3/53) :" وهو الذي اتخذ أبا معشر أحد الأئمة الذين اقتدى بهم الأمر في عبادة الأوثان لما ارتد عن دين الإسلام وأمر بالإشراك بالله تعالى وعبادة الشمس والقمر والكواكب والأوثان في كتابه الذي سماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم"

فكفر الرازي بعينه لتصنيفه كتاباً في تعليم السحر

بل العجيب أن كثيرين يجعلون موقف الإمام أحمد من المعتصم في التكفير قاعدة في التبديع ويقيسون التكفير على التبديع فلا يبدعون حتى من وقع في بدعة مكفرة وثبت بلوغ الحجة إليه ! .
 ولو قسنا التكفير على التبديع للزم تبديع من لا يبدعونه فهناك كافر أصلي لا يشترط في تكفيره إقامة حجة كاليهودي والنصراني والبوذي .
 فينبغي أن يكون هناك مبتدع أصلي لا يشترط لتبديعه إقامة الحجة
 وكما  أن هناك كافر يخالف المعلوم من الدين بالضرورة فلا ينفعه انتسابه للإسلام كالنصيري والاسماعيلي فينبغي أن يكون في المبتدعة من هو كذلك

فمن هم ؟!

وكما أنك لا تحكم على من كفر كل من يعبد غير الله وإن كان جاهلاً بأنه من الغلاة أو الخوارج لقول من جماعة من أهل العلم عندك بذلك فكذلك لا تحكم على من بدع كل من وقع في البدع الظاهرة وإن كان جاهلاً  بأنه من الغلاة لأن الباب عندك واحد

والواقع في مذهب هؤلاء أنهم يجعلون التبديع أشد من التكفير .
 بل لو خرجنا بمذهب إرجائي وقلنا لا يبدع إلا من وقع في بدعة مكفرة وبلغته الحجة من الكتاب والسنة لبدعنا أقواماً ممن يتورع هؤلاء عن تبديعهم

فإنكار العلو أشد من القول بخلق القرآن وأظهر وأدلة إثباته بينة في الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة والفطرة السليمة ولا ينازع في ذلك حتى اليهود والنصارى

قال ابن حجر في شرح البخاري (13/407) :" وَأخرج بن أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ لِلَّهِ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا رَدُّهَا وَمَنْ خَالَفَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ فَقَدْ كَفَرَ وَأَمَّا قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَلَا الرُّؤْيَةِ وَالْفِكْرِ فَنُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَنَنْفِي عَنْهُ التَّشْبِيهَ كَمَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ لَيْسَ كمثله شَيْء"

وهذا الأثر كثير ممن يذكره يخالفه فيقول أن الجهمية الخالصة الذين ينكرون الأسماء والصفات يكفرون بأعيانهم وخارجون عن الاثنتين وسبعين فرقة ، وهم يدخلون في عموم نص الشافعي والواقع أنه لا تعارض فإن كثيراً من أسماء الله وكثيراً من صفاته ، ثابتة في القرآن , وما توارد من السنة على ألسنة العامة والخاصة مما بلغ لعموم الأمة فيستوي في معرفتها عامة الناس
وهي بينة جداً في الدلالة على المقصود

وليعلم أن كل من تقدم تكفيرهم بأسمائهم لم يكونوا ينكرون كل الأسماء والصفات

ونظير هذا استدلال بعض الناس بقوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) على أن من عبد غير الله لا يسمى مشركاً ، وهو نفسه يكفر الكفار الأصليين وإن لم تقم عليهم الحجة مع إقراره بدخولهم في عموم الآية !

والآية أصلاً في الحكم الأخروي ولا تلازم عنده بين وصف المرء بالكفر في الدنيا وبين تعذيبه في الآخرة ، فاستدلاله بهذه الآية لا يفي بالمقصود على أصله

وكذلك الاستدلال بحديث (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ ، وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) على أن الواقع في الشرك الأكبر من عبادة لغير الله من ذبح ونذر لا يسمى مشركاً .
 والدليل نفسه يرد عليه ففيه ذكر اليهودي والنصراني والناس لا يختلفون أن اليهودي والنصراني يسمى كافراً قبل بلوغ الحجة وبعدها ، والنبي صلى الله عليه وسلم سماه يهودياً أو نصرانياً قبل بلوغ الحجة

وهذه المسألة بسطها يطول وتحرير المقال فيها يعسر في مثل هذا المقام والمراد بيان وجود استدلالات خارجة عن محل النزاع في عدد من مسائل النزاع الشهيرة بين أهل الوقت

قال ابن القيم في زاد المعاد (3/372) وهو يعدد فوائد قصة حاطب :" وَفِيهَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَسَبَ الْمُسْلِمَ إِلَى النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ مُتَأَوِّلًا وَغَضَبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ لَا لِهَوَاهُ وَحَظِّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ، بَلْ لَا يَأْثَمُ بِهِ، بَلْ يُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، فَإِنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ وَيُبَدِّعُونَ لِمُخَالَفَةِ أَهْوَائِهِمْ وَنِحَلِهِمْ، وَهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِمَّنْ كَفَّرُوهُ وَبَدَّعُوهُ"

ذكرت هذا ليعلم من ينسب من يكفر الواقع في الكفر الأكبر أو يبدع الواقع في الضلالات الكبرى إلى الغلو والتسرع ، ليعلم هذا أنه على غير السبيل ، وبئس ما صنع إذ تورع عن صاحب الضلالة ثم آذى السني الموحد فأقام عذر من خالف البينات والهدى ، وقدح في السائر على طريق السلف

وكلام ابن القيم هذا في الذي تأول وأخطأ ، فكيف بمن أصاب وسار على خطى الأخيار ، والورع أيضاً يكون في تكفير الكافر فإنك إن تركت تكفيره أوشك أن يناكح المسلمين ويدفن في مقابرهم وينشر كفره بينهم ، وقد قال السلف في المرجئة الذين قالوا في الفاسق مؤمن كامل الإيمان ( تركوا الدين أرق من ثوب سابري ) فما عساهم يقولون فيمن لا يكفر الكافر بل يشنع على من كفره أو يثرب عليه

قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/45) :" وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْحَنْبَلِيُّ: لَا يَحِلُّ وَاَللَّهِ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِمَنْ تَرفض وَلَا بِمَنْ يُخَالِفُ الشَّرْعَ فِي حَالٍ"

هذا وصل  اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم